التهويل والتهوين وجهان متناقضان يميزان النهج الذي ينتهجه الإعلام الغربي في تغطيته للأحداث، فوسائل الإعلام التي تقتحم كل بيت، والتي تخاطب أفراد الأسرة جميعًا، والتي تقدم مادتها الإعلامية في إطار من الترفيه أو التسلية، تستطيع في كثير من الأحيان- بالتهويل أو التهوين مرة وبالإلحاح والإيحاء مرات - أن تضلل عقل الإنسان وتزيف وعيه وتنحرف بإرادته في اتجاهات مرسومة مقدمًا.
فإذا أخذنا التليفزيون، كمثال نعايشه يوميًا، سنجده يزيف الوعي التجاري لدى المشاهد بالترويج لسلع معينة بين الناس، حتى لو لم يكونوا في حاجة ماسة لها، وحتى لو كانت احتياجاتهم الحقيقية تتعلق بأشياء مختلفة عنها كل الاختلاف. ولكن الإلحاح عليها يتكرر ويتكرر تطبيقًا لقاعدة في فنون الإعلان تقول إن «نقطة الماء إذا نزلت وباستمرار، على نفس البقعة من كتلة الحجر فإنها قادرة في يوم من الأيام أن تفلقها». وهكذا فإنه بالإلحاح والتكرار المستمرين تصبح السلعة الكمالية ضرورة تكاد تستحيل الحياة بدونها.
وعلى النحو نفسه يتم الترويج للقيم والأفكار، عن طريق تضخيم أحداث ضئيلة الشأن، والتهميش والتعتيم على الأحداث الكبيرة. وليست بعيدة عن الأذهان الحملات الإعلامية الشرسة والمتواصلة التي شنها الإعلام الغربي ضد الرئيس العراقي الأسبق «صدام حسين»، وتصويره في «الميديا» الغربية بوصفه طاغية عدوانيًا شرسًا لا يتورع عن تدمير العالَم بما يمتلكه من أسلحة فتّاكة. لقد انشغلت كل وسائل الإعلام الغربية لفترة زمنية طويلة بواقعة امتلاك نظام حكم صدام حسين ترسانة ضخمة من الأسلحة النووية - كشفت الأيام أنه لا وجود لهذه الأسلحة النووية المزعومة – جسَّد الإعلام الغربي هذه الواقعة الوهمية المختلقة وضخَّمها وكأنها «واقع حقيقي» يهدد الأمن والسلم الدوليين ويُعَـرضهما للخطر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد هذا الإعلام الغربي نفسه يغض الطرف عن ممارسات إسرائيل التي دأبت على انتهاك القانون الدولي، ويتغاضى عما تقوم به إسرائيل من انتهاك للقرارات والمواثيق الدولية، إن كل ما تقوم به إسرائيل في الأراضي الفلسطنية المحتلة؛ إنما يمثل انتهاكًا صارخًا لقرارات المجتمع الدولى ومواثيق الأمم المتحدة التى أكدت حقوق الشعب الفلسطيني في العودة وإقامة دولة.
في الوقت الذي يهول الإعلام الغربي من خطورة العدوان الروسي على أوكرانيا؛ ويملأ الدنيا صراخًا على ما لحق بالشعب الأوكراني من دمار؛ نجده يتعامى عن عدوان الولايات المتحدة الأمريكية على سورية؛ ويهون من احتلال أمريكا لبعض الأراضي السورية.
وإذا كان الإعلام الغربي ينهج هذا النهج وفقًا لمعايير تتعلق بالمصالح الخاصة للنظم الرأسمالية، فإن المثير للدهشة والحزن معًا هو مسايرة بعض وسائل الإعلام العربية للإعلام الغربى فى كثير مما يثيره من موضوعات.
براعة الإعلام الغربى فى التهويل لا تضاهيها إلا براعته فى التهوين. إن مقارنة ضخامة المساحة الإعلامية التى يخصصها الإعلام الغربى لطغيان النظام الروسي واستبداده وعدوانه بضآلة تلك المساحات التى يخصصها لعدوانية الاحتلال الإسرائيلي واستبداده ضد الفلسطينيين، إنما تكشف حقيقة النهج الذي ينتهجه هذا الإعلام، الذي أقل ما يقال عنه أنه إعلام مضلل يفتقر إلى الموضوعية والنزاهة.
قد يبدو هذا الحكم للوهلة الأولى جائرًا ومتسرعًا، غير أن النظرة الأكثر عمقًا ترجح هذا الحكم وتؤكده، ذلك لأن الإعلام الغربي يبدو فى الظاهر وكأنه الإعلام الحر المتاح للجميع، بل يتخذ من هذا المظهر «الليبرالي» دعامة أساسية لدعايته، على أساس أنه يتفوق به على إعلام النظم الاستبدادية تفوقًا ساحقًا، ولكن هذا ليس إلا المظهر الخارجي فحسب – كما يقول الدكتور فؤاد زكريا في كتابه «التفكير العلمي» صفحة ١٢٠ – إذ إن الإعلام الغربي لا يعبر إلا عن مصالح فئة واحدة من الناس، هى الفئة القادرة على أن تمول الإعلام بإعلاناتها، ومن المعلوم أن الصحف الكبرى ومحطات التليفزيون تعتمد في تمويلها – كليًا أو بنسبة كبيرة – على أموال المعلنين، هذا فضلاً عن أن هذه المؤسسات الإعلامية الرئيسية هى في أغلب الأحيان «شركات» تُسَيّر أعمالها وفقًا للمنطق الرأسمالى البحت، ولا يمكن أن تسمح بإعلام يؤدي إلى هدمها. وهكذا يفتقر هذا الإعلام إلى الصدق، وإن كان يتبع أساليب أذكى، وأبعد عن الطابع الصريح المباشر، من تلك التي يتبعها إعلام النظم الاستبدادية.
خلاصة القول أن الإعلام الغربي إعلام مضلل، يتلاعب بالعقول، والتلاعب بالعقول لا يتماشى مع الحرية والديمقراطيـة التي يتغنى بها الغرب. وإذا كان المواطن فى بعض مجتمعاتنا العربية يخضع لاستبداد الحكّام، فإنه فى الغرب يخضع لاستبداد الإعلام، الفارق بين هذا وذاك هو أن المواطن فى مجتمعاتنا العربية يدرك أنه مسلوب الحرية، فى حين أن المواطن الغربى لا يدرك ذلك، بل على العكس، يتباهى بأنه يمارس أعلى درجات الحرية، غافلاً عن أن الإعلام البارع بأساليبه المدهشة يتغلغل إلى كل خلايا مخه، ويوجهه إلى الوجهة المرسومة له مسبقًا.
إن الحاكم الحقيقى فى المجتمعات الغربية ليس رؤساء الدول والحكومات، وإنما ملاك الصحف والمجلات الكبرى ومحطات الإذاعة والتليفزيون، هؤلاء هم الحكام الحقيقيون الذين يحاسبون رؤساء الدول والحكومات ويسقطونهم، فى حين لا يحاسبهم أو يسقطهم أحد. هذا هو الوجه الآخر للديمقراطية الغربية، لكنه الوجه القاتم والقبيح.