السبت 8 يونيو 2024

الحضرى وإيليزاروف واكتشاف يحوّل الأقزام إلى عمالقة!

8-2-2017 | 10:07

بقلم –  د. محمد فتحى

يؤكد عصام الحضرى بممارسته الفائقة، القانون الحيوى الفذ الذى اكتشفه العالم وطبيب العظام الجورجى الفذ جافريل أبراموفتش إيليزاروف، الذى يحول الأقزام إلى عمالقة حقيقة ومجازا!

قانون «النمو من خلال الممارسة وأحمالها المستمرة والمتزايدة»، الذى لا يخص علاج أو تقويم العظام فقط- الذى حقق فيه الطبيب الفذ إنجازه- بل يعد من نواميس الحياة فى مختلف تجلياتها، فهو وثيق الصلة بالنهوض بكل قدرات الإنسان والمجتمع.. فمن تهدده الشيخوخة مع التعطل لا بديل له فى مقاومتها هى وأمراضها إلا بتحميل جسده وعقله، والمجتمع المريض المتخلف ما عليه للنهوض والتخلص من المرض إلا تحميل «جسده وعقله» والكد على نحو فعال..

أثبتت ممارسات الطبيب النابغة جافريل أبراموفتش إيليزاروف أنه من الممكن إطالة قامة القزم- بصرف النظر عن عمره- بضع عشر من السنتيمترات، وأن علاج الذراع المكسورة يكون أنجع بالشروع فورا فى ممارسة رفع الأثقال! وأن صالة الرياضة أو الرقص لها أهمية طاولة العمليات، بالنسبة لإنسان كسرت ساقه، وأن جهودا من هذا النوع تختزل فترات الشفاء إلى الربع!!

وربما كان الأهم من ذلك كله أن قانون إيليزاروف (النمو من خلال الممارسة وأحمالها المستمرة والمتزايدة) لا يخص علاج أو تقويم العظام فقط، ولا يقاوم الشيخوخة فقط، بل هو قانون عام وثيق الصلة بالنهوض بكل قدرات الإنسان والمجتمع، ويعد من نواميس الحياة فى مختلف تجلياتها.

حين جاء وقت تطبيق العلاج الجديد، بعد البحوث والمعالجات والاختبارات، كان بين من وقع عليهم الاختيار لاختباره فلاحة عجوز استخدمت طرقا مختلفة لعلاج ساقها دون جدوى، ولازمها عكازها ١٥ سنة كاملة. وروعى بين عوامل اختيارها تمرسها بعالم العلاج وتمرس عالم العلاج بها، مما يجعلها محكا قيما لمعرفة مدى فائدة الأسلوب العلاجى الجديد، مقارنة بالأساليب الأخرى، بالذات بعد أن وصلت المريضة إلى سن ابتعدت فيه الأنسجة عن أفضل حالات تجددها. ذلك بالإضافة إلى أن العجائز هم أكثر الناس معاناة من طول فترات العلاج، ومن التأثيرات الضارة لقلة الحركة.

استغربت المرأة وهم يعرضون عليها بعض الحلقات والقضبان والسلوك ثم يربطون الكل بمجموعة من المسامير والصواميل! ويشرحون لها بالتقريب كيف سيجرى علاج ساقها، لكنها كانت قد يئست من الشفاء فتعلقت بالأمل. وأصابتها الدهشة حين أفاقت بعد الجراحة فوجدت الأطباء وقد ثبتوا «جهاز إيليزاروف» حول ساقها- بعد أن قوموا عظامها- لكن دهشتها بلغت الذروة فى اليوم التالى حين فاجأها الطبيب: «أتحبين مشاهدة التليفزيون؟» فأجابت «ومن لا يحب ذلك» قبل أن تدركها روح التهكم من الموقف كله: «هل تنوون نقلى إلى جناح خاص به تليفزيون؟!».

- بل عليك بالذهاب إلى قاعة التليفزيون العامة، ومشاهدة ما يروق لك من برامج.

ومضى الطبيب فى إيضاح مطلبه: حتى يلتحم الكسر أسرع يجب أن يستعيد وتستعيد الأنسجة من حوله التناسق الحيوى الذى فقدته، ويا حبذا إن تمكنا من تحميلها رويدا.

وبالفعل ذهبت العجوز إلى مشاهدة التليفزيون قاطعة ستين مترا ذهابا إيابا، تطأ الأرض هونا، فوق الساق التى قطعت عظامها (توطئة لتقويمها) قبل يوم واحد! وفى اليوم التالى زادت المسافة التى سارتها إلى ربع كيلومتر، وبعد يومين إلى نصف كيلومتر.

وبعد أسبوعين من العملية انتزع إيليزاروف العكازين منها مداعبا: «هناك من هو أولى بهما منك». وأعطاها عصا تتوكأ عليها مؤكدا: «الآن كلما مشيت أكثر اقترب يوم خروجك من المستشفي».

كان السير على الساق مؤلما لكن كل ألم يهون مقارنة برحلة العذاب التى خبرتها قبل الوصول إلى إيليزاروف، ودبيب الثقة والقدرة الذى أخذ يشعشع فى نفسها من جديد.

ولم تكن العجوز تصدق نفسها وهى تغادر المستشفى على ساق جديدة مخلفة وراءها العكاز الذى أقام عودها ١٥ سنة متواصلة. وهى ترد دعابة الطبيب: «هناك من هو أولى بهما مني». لقد قام الأطباء بتقويم عظام الساق، التى التحمت وفق طريقة العلاج الجديدة فى فترة مذهلة (ربع المعتاد تقريبا) ولم تشأ المرأة أن تتصل بذويها كى يحضروا من قريتها البعيدة لاصطحابها كما تعودت، إذ ودت أن تفاجئهم بمعجزتها الجديدة.

ولما وصل القطار إلى المركز الإدارى لقريتها كان يفصلها عن موعد أول وسيلة مواصلات إلى قريتها ساعتين كاملتين، لكنها قررت فى فورة الثقة أن تجعل مفاجأتها كاملة، وقطعت الكيلومترات الستة على ساقيها، لتدهش ذويها بالساق العجيبة التى نبتت لها!

والأهم هنا أنه من خلال حالتها وعدد آخر من حالات علاج الكسور غير الملتحمة والتشوهات وإطالة العظام أضاء النور الأخضر أمام الأسلوب العلاجى الجديد. وكان لابد من تحسين وترشيد وتنويع مكونات جهاز إيليزاروف، حتى تتلاءم وصلاته مع الأشكال المتباينة لعظام أعضاء الجسم المختلفة. وهكذا اتصل الجهد حتى أمكن التوصل إلى ما يمكن تسميته تجاوزا بميكانو إيليزاروف المتنوع الأشكال والأحجام، الذى لا تخرج مكوناته الأساسية عن مجموعة بسيطة من الحلقات والقضبان والأسلاك والصواميل والمسامير، يتم التوفيق بينها حتى تناسب مهمة التثبيت الخارجى لعظام الجزء المعنى من الجسم.

المعجزة والأعجوبة والأسطورة

كانت نتائج الأسلوب الجديد باهرة، وتعددت تعليقات المطلعين الذين سمعوا بها.. هذا قال معجزة. وذاك أعجوبة. وثالث أسطورة. وغير ذلك من التعليقات النمطية التى يبديها الناس العاديون، على كثير من الحالات التى عالجها النابغة إيليزاروف.

* فتاة دخلت عيادته بإحدى ساقيها أقصر من الأخرى كثيرا وخرجت بساقين متساويتين فى الطول!

* امرأة أجمع الأطباء على ضرورة بتر ساقها، لكن إيليزاروف قال لا وأبقاها لها!

* شاب كسر ساعده وأجريت له أربع جراحات أسفرت عن قصر الساعد المكسور دون أن يشفي. وجاء دور إيليزاروف لا ليشفيه فقط، وإنما ليعيد الساعد إلى طوله الطبيعى أيضا!

نتائج قد يبدو إيليزاروف معها ساحرا يصنع المعجزات بالفعل، لكن ليس أمامنا إلا أن نصدق ما يقوله إيليزاروف نفسه: «أنا لست ساحرا، وليس فى الأمر أى معجزة. أن المسألة ليست سوى محاولة مخلصة لفهم نواميس الطبيعة، وطاعة هذه النواميس. فعلى الطبيب أن يبحث عن طرق علاجية تساعد الجسم على استعادة التناسق الحيوى الذى يفقده بالمرض. وتجدر الإشارة إلى أن الجسم يبدى استعدادا طيبا للتعاون مع مثل هذا الطبيب».

وإن كان هذا كلاما معجزا من حيث بساطته وصدقه ومنطقيته وتواضع الناطق به، فالساحر حقا هو أن الإنجازات السابقة- وما شابهها- لا تخرج عن أن تكون أمرا طبيعيا، بل وطبيعيا جدا، وفق النظرة التى رسخت فى وعى إيليزاروف منذ طفولته المبكرة حول وظيفة الطبيب.

أسعد الحظ الطفل بالمرض

فى قرية صغيرة ولد جافريل أبراموفتش، الابن الأكبر لأسرة إيليزاروف الكثيرة العيال فى يونيه ١٩٢١. وكانت أعباء الحياة تفرض على الأسرة الفقيرة اختصار مراحل من عمر أطفالها، لتدفع بهم إلى ساحة العمل والكسب. وهكذا صار جافريل فى التاسعة راعيا يجوب الجبال بأغنامه حينا، أو عاملا يحرث الأرض ويجمع ثمار الغابة حينا آخر.

ويوما أصيب جافريل بتسمم لتناوله طعاما ملوثا. ومن شدة الألم سلم الطفل بأنه سيموت، بل ومضي- حين طال العذاب- يستعجل الموت، ليخلصه مما يعانيه. تحسرت أمه بحرقة على عدم وجود طبيب بالمنطقة، لكنها سرعان ما أدركت أنه لامناص من استدعاء حلاق الصحة، الذى أرغم الطفل على تناول كثير من الماء المغلي، كما أعطاه حقنة و... وزلزل الموقف كيان الطفل: «لقد ذهب الألم».. وسأل جافريل نفسه: إن كان بإمكان حلاق الصحة أن يأتى بهذا الفعل المعجز. فماذا بمقدور ذلك الطبيب الذى كانت تتمنى أمه وجوده؟ وكان قرارا فوريا: «سأكون طبيبا».

كانت الظروف والمصادفة قد أبعدت الطفل عن التعليم، فوصل العاشرة دون أن يتعامل مع فصول الدراسة، وكان عليه أن ينعطف بحياته ويولى وجهه شطرها. وجد أقرانه على عتبة الصف الرابع ولم تكن قامته بأقل من قاماتهم، ولكنه كان يتفوق عليهم من حيث معرفته الأكبر بالحياة، من خلال ممارسة ما لم يمارسوه، نظرا للدعة التى أتاحت ظروفهم أن يعيشوا فيها معتمدين على ذويهم الميسورى الحال. وكان بديهيا أن يسأل «ممارس عارف عركته الحياة» مثله نفسه: ماذا يريد على وجه التحديد من هذه المدرسة؟ وفى عجلته لأن يكون طبيبا قرر الالتحاق بالصف الرابع مباشرة، على أن يتحمل ما يتضمنه مثل هذا القرار من أعباء. كان يدرس فى ساعات الدرس، ويدرس بين الدروس، ويدرس بعد المدرسة.. يدرس طوال الوقت، ولا ينام أكثر من ثلاث ساعات كل يوم!

وساعده الحلم الذى يداعب مخيلته، كما ساعدته نشأته الخشنة، وكثير من الاستغناء الذى تعوده منذ الطفولة على متابعة أقرانه واللحاق بهم. وما إن وصل الصف الخامس حتى كان يحصل على الدرجات النهائية فى كل المواد.. وما لبث أن أنهى صفوف المدرسة العشرة (مستوى التعليم الثانوي) فى خمس سنوات ليجد نفسه على عتبة قدس الأقداس: المعهد الطبى العالي.

ولما تخرج إيليزاروف فى السنوات الصعبة التالية للحرب العالمية الثانية مباشرة كلف بالعمل فى الوحدة العلاجية لقرية صغيرة. ولم يكن هناك طبيب غيره فى الناحية كلها. وهكذا وجد نفسه يقوم بتوليد النسوة وعلاج الأطفال وخلع الأسنان، بل وبإجراء جراحات التجميل.

وعالم طبى بهذه الرحابة يحمل فى طياته رغم ثرائه، مخاطر الانجراف مع المصادفات. لكن إيليزاروف كان فى يقظة من أمره. فأيام طفولته لم تزوده بحلم الطبيب «الأسطورة» فقط، ولكن بكثير من المفاهيم التى تساعده على إدراك هذا الحلم. وهكذا لم يترك المصادفة تتحكم فى خطوه، وظل يبحث وهو يتجول وسط السهول السيبيرية- كانت جورجيا جزءا من الاتحاد السوفييتى آنئذ- عن تجسيد لحلمه.

أحس إيليزاروف بالهول من أعداد المصابين الذين خلفتهم الحرب العالمية الثانية فراح يفكر فى مشكلاتهم، وراع الطبيب خلال ممارساته العلاجية أن وجد الأفكار الأساسية التى تحكم علاج العظام لم تتغير تقريبا منذ أيام قدماء المصريين، رغم ما شهدته مختلف حقول العلاج والجراحة من تقدم، بل وانقلابات هائلة.. فمنذ عرف الإنسان علاج العظام ساد اعتقاد بأن الكسور تلتئم ببطء شديد لكون العظام نسيجا خاملا، احتياطياته فى مجال التجدد والتوالد واستعادة حالته جد واهية. وكان ذلك اعتقادا مركزيا بين الدوافع المختلفة التى قادت إلى تجبيس ما يصاب بالكسور من عظام، والحكم على صاحبها بالبقاء فى الفراش فترة تقدر بالأسابيع بل والشهور فى كثير من الحالات، وفى وضع أقل ما يقال عنه أنه غير مريح، ذلك لأنه ضار صحيا بالتأكيد. لكن ما العمل إذا كانت حركة واحدة غير مواتية تشكل تهديدا بتباعد أجزاء العظام، أو عدم استوائها عند الالتحام، الأمر الذى لابد وأن يقود إلى أخطاء فى تحميلها، تقود إلى جراحة جديدة، وإلى بدء مشوار العذاب من جديد.. .

نسيج خامل ودور حيوي!

وقد كان هناك إجماع فى الدوائر الطبية على أنه ما باليد حيلة، وعلى أن العظام وحدها هى الملومة فى هذا الوضع المحزن، لأنها نسيج خامل. ولهذا انحصر التطوير فى تفاصيل هامشية مثل التوصل إلى جبس أكثر بياضا، وجبائر من البلاستيك، و.. .

لكن الحادث الذى صنع حلم إيليزاروف بالطبيب الأسطورى علمه الشك، وعدم التسليم الأعمى بصحة ما هو شائع، لمجرد صدوره عن سلطة. ألم يضع قطاع من الكبار الطبيب فى سلة واحدة مع العفريت والذئب خلال محاولات تخويفه فى طفولته؟ وهكذا ولدت بذرة التساؤل المضنى الذى ظل يؤرق «الممارس العارف»: كيف يمكن التسليم باحتواء الجسم الحى على نسيج سلبى خامل له مثل ذلك الدور الحيوى الذى تقوم به العظام؟ ألا يمكن أن يكون الحال فى مجال علاج العظام مثل حاله ساعة الإصابة بالتسمم فى طفولته؟ لقد تمنى ساعتها الموت. لكن الموت لم يكن إلا هروبا من الألم. وقد علمه الدرس أن الهروب لم يكن المخرج الصحيح، وأن المواجهة الحقيقية تحتاج إلى الفهم والحب اللذين تمثلا ساعتها فى أمه، والممارسة والعلم اللذين تمثلا فى حلاق الصحة. أليس من الممكن أن يكون الداء كامنا فى التجبيس ذاته؟ وفيما يتبعه من موات وإخراج للعضو عن طبيعته كعضو حى له وظيفة يؤديها ويستقيم عوده بها؟ وهكذا بدأت تؤرقه مشكلة تحرير العظام المكسورة من إسار أقفاص الجبس، وظلت تشغله سنوات طويلة.. يفكر بها فى صحوه، ويفكر بها وهو يجرى جراحاته، ويفكر بها فى كل وقت.

كان التصور الذى أدار إيليزاروف جهده حوله يتلخص فى أن تأدية عضو ما لوظيفته شرط لاستقامة هذا العضو وسوائه، بل ولنموه. وبالتالى فإن التحام العظام كما يجب- ناهيك عن نموها- مستحيل دون جهد وتحميل (قانون حياة إيليزاروف كلها)، ذلك إضافة إلى التأثير الإيجابى الناتج عن استمرار حركة الأنسجة حول العظام، بل ونموها بصورة طبيعية.. وكانت الخطوة الحاسمة فى الإنجاز الفذ لعلاج الكسور غير الملتحمة والتشوهات وإطالة العظام نجاح إيليزاروف فى تصميم الجهاز الذى يمكن المريض من الاستمرار فى تحريك أعضائه وتحميل العظام المكسورة، وإتاحة الفرصة لنموها على نحو طبيعي، يصاحبه نمو الأعصاب والأوعية الدموية والعضلات والجلد، عن طريق تغيير مقنن فى أوضاع الجهاز.

وجدتها وجدتها

كانت صعوبة التنقل فى المنطقة الوعرة تفرض عليه أن يلبى استدعاءات المرضى متحركا على عربة تجرها جياد فى أحوال، وعلى زحافات تجرها الكلاب فى أحيان أخرى، وعلى متن طائرة حوامة فى أحيان ثالثة. وكان يطير عدة مرات كل أسبوع لتلبية الاستدعاءات العاجلة من مناطق يصعب الوصول إليها. ولما كانت طائرته هالكة من طراز قديم فقد كانت كثيرة الأعطال، لكن ظروف الفاقة كانت تدفع إلى التفنن فى التغلب على أعطالها.. ويوما كسر ذراع يستحيل أن يعمل محركها دون استخدامه، وكان الاستدعاء المرضى ملحا، فما كان من الطيار والطبيب معه إلا أن صنعا «جبيرة» خارجية للذراع، أعادته إلى ممارسة وظيفته، وأقلعت الطائرة التى كانت ذات كابينة مكشوفة، لا تسعد راكبها بأدنى قدر من الراحة، وكانت القراءة التى يحبها الطبيب مستحيلة فى مثل هذا الجو، ولم يكن أمامه إلا أن يستغل وقته فى التفكير.. كان الزمهرير يقرص أذنيه والرياح تصفر حوله، والكابينة تهتز، والمحرك يزمجر والطائرة تهوى فى مطب جوي، وهو يود أن يقفز على مقعده صائحا كأرشميدس وجدتها وجدتها.

لم يكن الأمر وحيا هبط عليه فجأة وهو يحلق بعيدا عن الأرض فى ظروف غير طبيعية، إذ أنه كان ينطوى على كيفية تثبيت الجواد فى العربة- أو الكلاب فى زحافة الجليد- ليتحركا سويا. وينطوى على الربط بين الثلج الأبيض وهروب الحياة، أو الربط بين شيوع اللون الأبيض فى سيبيريا وبين فقدانه للجاذبية التى يتمتع بها عند من كانوا يبحثون عن جبائر أكثر بياضا، وينطوى على.. . لكن الشيء الذى جعل كل هذه التخريجات- على قيمتها وصحتها- لا تدخل فى بند النثريات أو المتفرقات التى يسهل إهدارها تماما كان حادث «تجبير ذراع» محرك الطائرة الحوامة القديمة، وعمل هذا الذراع للتو، الأمر الذى أتاح لهم الإقلاع لإنقاذ الحالة الطارئة، والذى استخلص إيليزاروف منه- مع الجهد الإرادى الذى راح يلملم الأشلاء لتخرج فى كيان نافع جديد- فكرته الخاصة حول التثبيت الخارجى لأجزاء العظام المكسورة لتتحرك معا.

لقد كانت وجدتها نتيجة عمل مضن طويل امتد فى الواقع إلى اللحظة التى خلص حلاق الصحة فيها إيليزاروف من آلامه. ولم يقتصر الأمر على مراحل الإعداد العلمى والمعنوي، ولا على التفكير الذى انخرط فيه وهو يعالج ويطور ويجرى الجراحات.. لقد تجاوز الجهد الإرادى ذلك كله إلى القراءة والبحث الموجه لكيفية تنفيذ فكرته.. لقد كان إيليزاروف يقرأ نهارا، وحين يضيق وقت النهار يقتطع من وقت النوم ويقرأ ليلا. وبعد أن قرأ كل ما يهمه فى مكتبته الخاصة، ثم فى مكتبة المستشفى ومكتبة القرية، بدأ يطلب مستخدما بطاقة القراءة الخاصة به، وعن طريق نظام التبادل بين المكتبات العامة، كل الكتب التى يمكن أن يحصل عليها فى «دولجوفكو» حيث يعمل.. لكنه لم يجد مفرا فى النهاية من أخذ إجازة بدون أجر والذهاب إلى موسكو العاصمة، «ليقيم» هناك فى مكتبات معاهدها.

الطبيب يتعلم مهنة البرادة

وهكذا لم تكن وجدتها وجدتها خط نهاية أخير.. كانت نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة جديدة فى نفس الوقت. لقد كان عليه بعدها أن يتطرق إلى علوم لم يحتك بها من قبل بالمرة.. وجد نفسه يدرس خواص ومقاومة المواد والبيوميكانيكا بل والميكانيكا. وأتى عليه يوم، حين شرع فى تصميم جهازه، وقد جهد فى تعلم مهنة البرادة!

وهكذا توصل إيليزاروف عام ١٩٥١ إلى العملية التى تساعده على اختبار تصوره فى أن تأدية عضو ما لوظيفته شرط لاستقامة هذا العضو وسوائه، بل ولنموه.. وكانت الخطوة الحاسمة فى قصة هذا الإنجاز الطبى نجاح إيليزاروف فى تصميم الجهاز الذى يمكن المريض من الاستمرار فى الحركة وتحميل العظام المكسورة. لقد وقع على موارد النمو، وكان عليه ألا يقصر فى استثمارها على نحو صحيح. وسرعان ما أثبتت ممارسات الطبيب النابغة بالفعل أنه من الممكن إطالة قامة القزم- بصرف النظر عن عمره- بضع عشر من السنتيمترات، وأن علاج الذراع المكسورة يكون أنجع بالشروع فورا فى ممارسة رفع الأثقال! وأن صالة الرياضة أو الرقص لها أهمية طاولة العمليات، بالنسبة لإنسان كسرت ساقه، وأن جهودا من هذا النوع-غير العلاجي- تختزل فترات الشفاء إلى الربع! وهكذا أخذ الإيطاليون والسويسريون والأمريكيون و.. ينتقلون إلى أسلوب إيليزاروف، وهكذا انتشر هذا الأسلوب العلاجى فى جنبات العالم الأربع، وشكل ثورة فى علاج العظام تبز نتائجها كثيرا من المستحدثات الأخرى، مثل التثبيت الداخلى والترقيع بما فى ذلك باستخدام الجراحات الميكروسكوبية و.. .

لكن لعل الأهم إطلاقا- الذى يتصل بهدفنا هنا- أن أفكار طبيب العظام النابغ جافريل أبراموفتش إيليزاروف لا تقف عند تحويل العظام إلى «عجينة طيعة» يستطيع الإنسان تشكيلها على النحو الذى يقومها ويساعدها على أداء وظيفتها، أو أنه راح يطيل الأطراف القصيرة، ويمط الأقزام و.. . بل فى كيفية إتاحة الفرصة للعضو المصاب كى يواصل ممارسة دوره توا مهما كانت درجة الإعاقة، لأن ممارسة الدور هى السبيل إلى الشفاء السريع، بل وإلى تحريض العضو المنقوص أو المختل على النمو. أن التفكير فى معالجة الخلل على هذا النحو يرتكز على تنشيط آلية النمو حتى يحدث «الاندمال»، ومادمنا قد توصلنا إلى اكتشاف وجود مستودعات النمو الكامنة بات بالإمكان اللجوء إلى الآلية المناسبة للتحريض عليه.

ومن هنا فإن قانون إيليزاروف (النمو من خلال الممارسة وأحمالها المستمرة والمتزايدة)، الذى يعد حارس المرمى البارع عصام الحضرى مثالا حيا بارزا عليه، لا يخص علاج أو تقويم العظام فقط بل يعد من نواميس الحياة فى مختلف تجلياتها، فهو وثيق الصلة بالنهوض بكل قدرات الإنسان والمجتمع.. فمن تهدده الشيخوخة مع التعطل لا بديل له فى مقاومتها هى وأمراضها إلا بتحميل جسده وعقله، والمجتمع المريض المتخلف ما عليه للنهوض والتخلص من المرض إلا تحميل «جسده وعقله» والكد على نحو فعال..