السبت 23 نوفمبر 2024

التفسير السياسى للموسيقى

  • 8-2-2017 | 12:07

طباعة

كان أحمد بهاء الدين شغوفاً بالفنون، وأفرد الكثير من مقالاته للحديث عن السينما والمسرح والفنون التشكيلية والموسيقى والغناء وكانت مقالاته تنم عن دراية حقيقية بهذه الفنون وأساسياتها، وكانت له علاقات متميزة مع الكثير من الفنانين منهم فاتن حمامة ونادية لطفى وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وشادية ونجاة الصغيرة، ومن بين ما كتب بهاء مقالة جميلة وعميقة عن التفسير السياسى للموسيقى نشرها في مجلة الكواكب.. ننشر نصها:

ستقول للمتعة، ولا بأس بذلك، فإن الموسيقى إذا لم تقدم لنا المتعة لا تكون موسيقى..

ولكن إن المتعة في الموسيقى ليست ضد “المعنى”

وفهم الموسيقي لا يسلبها المتعة، بل يضاعفها، وفي الفن بوجه عام يوجد نوعان من المتعة: الأولي متعة الدقيقة العابرة، والاسترخاء والراحة من مشاكل اليوم.. والثانية متعة إنعاش الذهن والحواس، وتنبيههما إلي آفاق جديدة من الحياة والمشاعر والأفكار، والفرق بين المتعتين هو الفرق بين الفن التافه والفن الرفيع••

ثم..

ماذا تصنع بنا الموسيقى؟..

تصور أنك تستمع إلى خطبة مثلا.. إن جوهرها ولاشك هو الأفكار التى يقولها الخطيب، ولكنك لن “تنفعل” بهذه الخطبة إذا كان الخطيب يدحرج كلماتها بلا وقفات، ولا تغيير في طبقات الصوت، ولا أى نغم على الإطلاق.. فموسيقى الالقاء تزيد إنسانية الخطبة وتضاعف درجة الانفعال بها..

والانفعال الذى ينتاب الواحد منا عندما يستمع إلى الموسيقى هو علامة الاحساس بالجمال المركز في اللحن، وهو الفرحة التى تصاحب كل قفزة نقفزها إلى معرفة جديدة.

والموسيقى ليست أصواتاً جوفاء.. ولكنها تصوير بالصوت والايقاع لعديد من الصور والعلاقات الإنسانية وما دامت الموسيقى تصويراً للحياة الإنسانية، فإننا لا يمكن أن نفهمها إلا إذا وضعناها في سياق العصر الذى أنتجها.. بكل ظروفه السياسية والاجتماعية.

إذن.. فكما نقرأ تاريخ المجتمع الإنسانى في السياسة والأدب والاقتصاد فإننا نستطيع أن نقرأه أيضاً فى الموسيقى.. وهذا هو ما يقدمه لنا “سيدنى فينكلستين” في هذا الكتاب..

والكتاب - بناء على هذه الخطة - يعتبر جديداً على القارئ المصرى، الذى خلقت له الصحف وهما كبيراً، ظن معه أن الفنان إنسان لا يلهمه إلا وجه جميل، أو خصر نحيل، وإن الموسيقيين بالذات لم تكن لديهم مشكلة، إلا المشكلة الجنسية!!.

وإنهم مشغولون بمطاردة النساء عن ملاحظة الواقع، ودراسة المجتمع والكفاح من أجله.

فى العصور الوسطى كان النظام السائد في المجتمع هو الاقطاع، كان الأباطرة والنبلاء يملكون الأرض، وكان الفلاحون أرقاء تابعين لهذه الأرض، ومن التجار والصناع اليدوين- كالنجارين والحدادين والاسكافيين - نشأت المدن، واستطاعت مع الزمن أن تختار حكامها وأن تصبح أقرب إلى الجمهوريات، مثل البندقية وفلورنسا في ايطاليا.

أما الموسيقى فكانت توجد منها أيضاً ثلاثة أنواع، كانت هناك موسيقى الكنيسة التى تعزف في المناسبات الدينية، وموسيقى البلاط التى تعزف في سهرات القصر وموسيقى الشعب، وهى أغانى الحصاد والزفاف والأعياد، كانت موسيقى الكنيسة تصور الحياة الأخرى وكانت موسيقى البلاط تهدف إلى تزجية الفراغ محب؟؟!! أما موسيقى الشعب فقد تقدمت موكب التطور، امتزجت بالشعر، واتخذت شكلا كفاحيا، وانطلقت تتغنى بقصص وأناشيد يرددها الفلاحون الأرقاء وتدور عادة حول شخصية “الخارج على القانون” الذي يسخر من الملك والنبلاء ويحقق العدالة ويساعد الفقراء مثل قصة “روبين هود” في إنجلترا.

وقد حدثت في سنة ١٤٠٢، أن أصدر مجلس العموم البريطانى قانوناً يمنع دخول المنشدين مقاطعة ويلز لأنهم تسببوا في إحداث شغب هناك!

أما وراء أسوار المدن القليلة،فقد حدث شىء هام: هو طبع الألحان الموسيقية مما أتاح فرصة انتشارها ودراستها، وقد ظهرت أول موسيقى مطبوعة في البندقية سنة ١٥٠٠.

موسيقى الصالونات

واستمر الوضع على هذا النحو دون تغيير يذكر حتى القرن السابع عشر والثامن عشر، ظل الرق، والاقطاع وسلطة الكنيسة وكان كل نبيل “يقتنى” في قصره طباخا لمطبخه وسائسا لجياده ومعلما لأولاده وموسيقارا

لحفلاته!.. وربما كان هذا الموسيقار فنانا عبقريا من الذين وضعوا ألحانا خالدة، ولكن مركزه الاجتماعي في القصر كان لا يختلف عن مركز الطباخ والسائس، ولم يكن عمله مهما، مجرد أن يعطي الصغار دروسا في الموسيقي، وفي الحفلات التي يقيمها النبيل، يقف في ركن القاعة يعزف الموسيقي، بينما المدعوون يأكلون ويثرثرون ويضحكون.

وكان معني ذلك أن القطع الموسيقية يجب أن تكون مما يستطيع أن يعزفه فرد أو فرقة قليلة العدد تلائم الخاصة، وأن تكون رشيقة رقيقة خافتة حتي لا يضيق بها جو الصالون، وأن تكون خالية من تعقيد الأفكار لأن الحاضرين لا يتفرغون لسماعها، إنما هي تطرق آذانهم فحسب بينما هم مشغولون بالحديث أو الطعام.. أو الغزل!

ثم ظهرت - في فلورنسا والبندقية أيضا - الأوبرا، وكان من أثر ظهور الأوبرا أن ظهرت الفرقة الموسيقية الكبيرة والآلات المعقدة، التي تطورت إلي الفرقة السيمفونية.

وبعد الأوبرا ظهر “الكونشرتو”، وهو لون من الموسيقي التي يعزفها عدد كبير من الآلات.

وكان ظهور الأوبرا والكونشرتو في الواقع ثورة علي الكنيسة والاقطاع، لقد تحول الموسيقار من عازف “يخدم” في بيت النبيل إلى فنان يعزف فى مكان عام يؤمه عدد كبير من الناس.

ولم يكن هذا التحول سهلا، أخذ “هاندل” في انجلترا يعزف في الأماكن العامة و “فيفالدي” في إيطاليا يلحن الأوبرات وأعظمهم “باخ” في ألمانيا يعزف في الكنيسة فاتحا أبوابها للجميع، فوضعوا بذلك أول حجر في بناء صالة العزف.

فالموسيقي الجديدة التي يضعها هؤلاء العباقرة لم تعد تلائم تماما صالونات النبلاء.. الأوبرات مثل “أوبرا الشحاذين” التي اكتسحت في انجلترا - وهي تتحدث عن ثورة عامة الناس علي مظالم النبلاء - وموسيقي “باخ” في ألمانيا يهاجمها النقاد “لأنها معقدة” فيرد عليهم صديق له قائلاً: “إنه لا يضع ألحانا لحفلات الشراب وما إليها من المناسبات الأنيقة، فإن عليه - كفنان حقيقي - أن يحاكي الطبيعة، وأن يساعدها إذا أمكن!”.

ولم يكن هذا التحرر تاما بالطبع، فالموسيقار بعد ذلك يجب أن يعيش، والرزق في يد الكنيسة والنبلاء، و “باخ” نفسه كان “يخدم” كموسيقار عند دوق فيمار ثم عمل مدرسا للموسيقي في الكنيسة، وكان نظام الاقطاع يقضي عليه بألا يتنقل من وظيفة إلي وظيفة أو من بلدة إلي بلدة إلا بإذن من الأمير، ومما يعطينا فكرة عن جو ذلك العصر أن نقرأ في قرار تعيينه عند الأمير: “عليك أن تكون مخلصا مواليا مطيعا لسعادة الكونت، وأن تكون مهذبا متعاونا مع الإدارة، وألا تزج بنفسك في غير عملك من الأمور!”.

فولتير الموسيقي

ثم جاء “موزار” فدفع الثورة علي الاقطاع مرحلة أخري والنقاد يطلقون علي “موزار” اسم “فولتير الموسيقي” لأنه هاجم الموسيقي الاقطاعية بالعنف الذي هاجم به “فولتير” تفكير الاقطاع، بل انه اشترك في عدد من الجمعيات السرية لمناوأة النظام الذي كان سائدا.

وكانت استقالة “موزار” من خدمة أسقف سالزبرج، اعلانا تاريخيا لاستقلال الفنان! وتأكيدا لصفته كإنسان مفكر مبدع وليس مجرد خادم للكنيسة والنبلاء، وكان أسقف سالزبرج صاحب نفوذ واسع، مما جعل موزار يتعرض لحرمان هائل هو الذي أدي إلي موته المبكر.

وعاش مزار يقاسي العذاب الذي يقاسي منه كل المجاهدين، كان عليه لكي يرتزق ويعيش أن يجاري الأشكال الموسيقية التي يرضي عنها النبلاء، وكان عليه لكي يحقق رسالته أن يضع أفكاره وعواطفه الجياشة في هذه الأشكال القديمة، ونجحت موسيقاه في الشوارع أكثر مما نجحت في الصالونات! أصبحت ألحانه تتردد في الشوارع والحدائق وحانات البيرة، حتي أن الشحاذ عازف الجيتار كان لا يأمل في جمع نقود إلا إذا عزف شيئا لموزار، أما في الصالونات، فكان تعليق النقاد “إنه لا يعطي المستمعين فرصة للراحة، فما أن تنتهي فكرة جميلة حتي يلحقها بأخري تنزع الأولي من الرأس فلا يبقي في النهاية شىء!”. فأهل الصالونات لا يريدون الموسيقي التي يحتاج سماعها إلي مجهود.

كان موزار يضع ألحانه المضطرمة في القوالب التي ترضي مالكي الرزق وكان هذا الثائر مضطرا إلي مجاراة النبلاء، حتي لقد انتحل أحدهم إحدي القطع التي وضعها موزار، وكان عليه أن يسكت، مادام قد قبض الثمن!

أما في الأوبرا، فقد خطا خطوة كبيرة، كانت مطبوعة بطابع الاقطاع، تدور حول شخصيات من النبلاء في عالم ثابت غير متغير، فجاء موزار وأخرج أوبرات كوميدية، تدور مثلا حول إنقاذ خادمة من حريم أمير تركي، وتمتلئ بالكلام عن حرية المرأة واستقلالها، أو أوبرا “زواج فيجارو” التي جعلت الكونت فيها يبدو أحمق خبيثا، ولم يجعل الخادم “فيجارو” كالعادة أبله دنيئا بل جعله بطل القصة جعله مخلوقا انسانيا عميق الانسانية، يدافع عن حقه في الحب والفوز! وقد تعرضت “زواج فيجارو” بالذات لاضطهاد شديد من رقابة الاقطاع.

تابع التفاصيل في العدد الجديد في المصور الموجود حالياً في الأسواق .

    الاكثر قراءة