الخميس 16 مايو 2024

مأساة عمال التراحيل في الرواية المصرية رواية الحرام ’’نموذجا‘‘


فكري داوود

مقالات12-5-2022 | 14:54

فكري داوود

المجتمع مادة الكاتب الخام التي يعتمد عليها كي ينجز عمله، ولا شك أن العمال – بشكل عام - هم ملح المجتمع، حيث نجدهم بالمصانع والمؤسسات الحكومية كموظفين، وبورش النجارة والحدادة وغيرها، وبالطبع المشتغلون في الأرض، وهناك العامل المنتمي لإحدى النقابات، أو لتنظيم سياسي، رغبة في حياة أرقى...وهكذا. 

*ولقد تناول الأدب العمال بشكل متنوع في أربعينيات القرن الفائت، وفي الخمسينيات والستينيات، تزامنا مع تنامي النقابات العمالية، وعمال التراحيل (أو الغرابوة) إحدى شرائح المجتمع الاجتماعية والفكرية، ولأن الكاتب ضمير مجتمعه، عليه الاهتمام بشرائحه، ومنها شريحة العمال سواء كانوا من تراحيل، أو عمالة منتظمة أو موسمية، أو ممن يعملون يوما أو يومين أسبوعيا، فإذا تخلى الكاتب عن دوره تعرض للوم وربما الانتقاد.
 ويتفرد يوسف إدريس، بروايته ’’الحرام‘‘ لنتخذها نموذجا للأعمال الأدبية، التي تناولت عمال التراحيل.

والحرام بين والحلال بين، والحرام في رواية يوسف إدريس، هو اغتصاب أحد الذئاب البشرية لـ (عزيزة) بطلة الرواية، وهي امرأة متزوجة، ولها طفلان من زوجها المريض، فباتت تحمل الأسرة بدلا منه، وتلتحق بعمال التراحيل، ومن ثم جرى ما جرى، لتغرق في بحر من النكبات والكوارث.   

و’’الحرام‘‘ كعنوان يعد عتبة مناسبة، للولوج إلى صلب الأحداث، التي تبرز للقارئ مدى قبح الظلم الاجتماعى، لطبقة عمال التراحيل الفقراء المهمشين، الذين خلفوا ديارهم وراءهم، ليرتحلوا إلى بلاد أخرى للعمل في (وسايا) و (أبعاديات) الأغنياء وبشوات ما قبل ثورة 1952.

 إن عمال يوسف إدريس في الحرام، هم بؤساء هذا العصر، الذي يعد عملهم الموسمي في الأرض، لاسيما جني القطن، مصدر رزقهم الأساسي، حيث يقضون اليوم من شروق الشمس حتى غروبها، في هذا العمل على جمعه من لوزاته المتفتحة، مستسلمين لذلك استسلامهم للقدر المحتوم، لقاء مبالغ زهيدة لا تكفي أسرهم، لكنهم يدفعون من أعمارهم ودمائهم كي يحصلوا عليها، متحملين كل صنوف الذل والهوان.

حتى البلاد التي يقصدها عمال التراحيل، بلاد فقيرة أيضا لكنها أفضل حالا قليلا، حيث لديهم قدر من البهائم والمال والأرض وبعض الملابس الصالحة للارتداء والتنظيف، لكن نظرتهم (للغرابوة) وهو الاسم الذي يطلقونه على عمال التراحيل، نظرة احتقار واشمئزاز.

* تدور أحداث الرواية – مكانيا -  فى إحدى قرى دلتا مصر، وزمانيا فى أربعينيات القرن العشرين. وهي تبدأ بداية درامية؛ حيث تبدأ بالحدث الرئيسي – الذروة- ، بعثور الخفير عبد المطلب، على جنين حديث الولادة، بجوار شجرة صفصاف عتيقة، من تلك المصفوفة على شاطئ الترعة،  وعرف بخبرته أنه لقيط لا محالة، فمن ذا الذي يلقي (بضناه) هكذا، إذا كان آتيا من حلال...؟  وهي بداية تثير فضول المتلقي وتشوقه وتفجر في ذهنه الأسئلة مثل: أين؟ من ؟ كيف ؟ متى؟  

فتلبست الخفير حالة الاضطراب والحيرة، ماذا تراه يفعل، في جثة هذا الوليد؟

هل يلقي بها في الترعة، ويكفي نفسه شر المسئولية أو شبهة المسئولية؟ 

لكن أهل البلدة لم يمهلوه الوقت، لينتهي من تفكيره، فبدأوا في القدوم أو الخروج إليه، وتفشى خبر العثور على الجنين سريعا، فتجمع  الخلق، وظهر للجميع أن الصغير مات مخنوقا.

تكفل (أولاد الحلال) بتوصيل الخبر، إلى فكرى أفندى مأمور الزراعة، الذى قدِم سريعا إلى مكان العثور على جثة الصغير، فانزعج انزعاجا كبيرا، ودارت رأسه تتخبطها الهواجس، لعدم تفشي هذا الفعل بين أهل القرية، والحقيقة التي قد يعرفها فكري أفندي أو لا يعرفها، إن هذا الأمر المستبعد حدوثه كان شكليا أو ظاهريا فقط، مما يعني أن كثيرا من الوقائع المشابهة دأبت على الحدوث، لكنها ظلت تبدأ ثم تنتهي في الخفاء...وعليه تأثر الناس جميعا وانفعلوا بالحدث، درءا للشبهات، وإبعادا للتهمة عن بناتهن ونسائهن.

إلا أن هذه الواقعة، زرعت بذور الشك في نفوس الجميع، تجاه بناتهم ونسائهم، ولم يهدئ من روعهم، سوى ظهور أم الصغير الحقيقية ’’عزيزة‘‘، وكم أراحهم أن تكون من عمال التراحيل، فصبوا جام غضبهم عليها وعلى ’’الغرابوة‘‘ جميعا، معتقدين أن رحيل هؤلاء الدخلاء،  سوف يحفظ قريتهم من كل شر.

لكنني أوقن أن اغتصاب عزيزة وحملها، ومن ثم ولادتها وموت وليدها، ثم العثور عليه ميتا، أوقن أن كل هذا بمثابة (حرام أصغر)، هو في الحقيقة جزء لا يتجزأ من (حرام أكبر)، ألا وهو موقف أهل هذه القرية، التي حل عليها عمال التراحيل، وعزيزة منهم، وهو موقف لم يكن في صفها أبدا، وكأن كل منهم يريد أن يطهر نفسه أو ينزهها، من فعل هذه الغريبة الآثمة، وكأنه يقول لنفسه ولمن حوله: نحن فقراء لكننا شرفاء، ولن نترك هذه المُعدمة بجريمتها، كي تجلب على قريتنا العار، والحقيقة أنهم جميعا (في الهواء سواء)، لقد عرض الكاتب علينا مجرد حكاية من حكايات عديدة، مليئة بالفواجع المشابهة، التى تقع بين يدي أهل القرية، ومنها مثلا الحكاية التي وقعت في نفس التوقيت، وهي  حكاية لندة بنت باشكاتب العزبة مسيحة أفندى، الذى انتابه الشك فى ابنته، عندما علم بموضوع جثة ابن عزيزة، استنادا على تقدم سن ابنته، وعدم لحاقها  بقطار الزواج، لأسباب تتعلق بالعادات والتقاليد، فراودت والدها الشكوك حولها، رغم أنها ليست أم الطفل، لكنها كانت متورطة بالفعل فى علاقة محرمة أيضا، مع أحمد سلطان الموظف بالقرية، ثم تزوجته بعد الهروب معه.

 ولذا لم أستغرب – كقارئ -، موقف الباشكاتب مسيحة أفندي، من عزمه إبلاغ النيابة بعد علمه بأم الطفل الحقيقية، حتى يدرأ الشبهة عن ابنته الخاطئة والهاربة.

وموقف الباشكاتب لا يختلف كثيرا عن موقف أهل القرية أو العزبة أو التفتيش – عدا فكري أفندي مأمور الزراعة -،، الذي يجسد حراما أكبر وأشنع، فعزيزة لم تكن لتحمل دون اعتداء عليها، من ذئب ما هو الجاني الحر، الذي يسأل أحدهم عن اسمه، أو أسرته، أو كيف فعل فعلته؟، ومن ثم السعي لعقابه أو محاسبته، بدلا من تلك المسكينة المجني عليها...   
* إلا أن  فكري أفندي - وهي شخصية لا تقل أهمية عن بطلة الرواية -، باعتباره مأمور الزراعة، أو الناظر المسؤول أمام  الباشا صاحب الأرض، فقد كان له رأي آخر، عندما أراد الباشكاتب إبلاغ النيابة، حيث فضل وعمل على التستر على عزيزة، وحال بقوّة دون هذا الإبلاغ، وذلك لأنه يمتلك الخبرة والحنكة التي تأتيه في مثل هذه المواقف، وربما جاء موقفه هذا، حقنا للفضائح التي ربما تجر القرية إلى مشكلة  لا نهائية، وموقفه هذا رغم – أن الرواية لا تقدمه كمثل أعلى -، يعد موقفا فرديا لكنه نقطة مضيئة في بحر خضم، موقف لا يتخذه إلا رجل خبر الدنيا وخبرته. 

 * وقد يسأل سائل عن موقف الحكومة آنذاك، فأجيبه بأنه موقف لا يقل ظلما عن موقف أهل القرية، فقد قدم رجال البوليس، ليأكلوا من أرزاق الفلاحين القليلة، ومن أقواتهم وحيواناتهم الداجنة، ثم سجلوا القضية ضد مجهول، وكأنهم يقولون لأهل القرية؛ ماذا نفعل لكم؟ سوف نترككم وسط هذا التشابك والتراشق الرهيب، ونولي وجوهنا عائدين، تاركين لكم أن تحلوا مشكلاتكم معا بعيدا عنا. 

*تدين  رواية ’’الحرام‘‘ النظام الاجتماعي، الذي لم يراع حقوق العمال والفلاحين الأجراء، رغم أنهم عماد المجتمع، وقد برع يوسف إدريس في  الرصد الواقعي لتلك الشريحة من المجتمع المصري في حقبة ما، في علاقتها بأهل القرى التي يرحلون إليها، إزاء أية واقعة (حرام)، تلك المأساة التي جعلت الكل يشك في الكل، كمسيحة أفندي عندما ركبته الشكوك  في زوجته وابنته. وكذلك رغبة البعض في البحث عن الإشباع الجنسي وسيطرته على القلوب الفظة الغليظة  مثل فكرى أفندي.

* شخصيات يوسف إدريس من لحم ودم، وهي متنوعة، ومختلفة من حيث الأبعاد الداخلية والخارجية، وقد استطاع من خلالها التعبير عن رؤيته، خصوصا أنه لم يكتف بالقصة الرئيسة في الرواية – قصة عزيزة وعمال التراحيل، لكنه دعمها بقصص أخرى فرعية، تشمل شرائح أخرى من المجتمع، تحوي شخصيات أخرى مختلفة، قارنا بينها وبين القصة الرئيسة  بشكل فني، وذلك لتطوير الأحداث وحيويتها، عبر لغة فصحى غالبا، مع استعمال مقنن للعامية خاصة في الحوار، لذا تعد رواية ’’الحرام‘‘ للكاتب الكبير يوسف إدريس، الصادرة عام 1959، من أهم الأعمال  التي انحازت إلى طبقة العمال، خاصة عمال التراحيل.