الجمعة 31 مايو 2024

قائد الشهداء قصة الشهيد «المنسى».. من مدينة العاشر وحتى كمين «البرث»

14-7-2017 | 19:16

تحقيق: فاطمة قنديل

بالتأكيد ليس العقيد أحمد المنسى أول الشهداء، ولن يكون آخرهم، لكنه يستحق لقب قائد الشهداء، هو قائد لا يخاف الموت، طلب من نفسه أن يذهب إلى سيناء ليكون فى أرض المعركة، طلب الشهادة بنفسه وسط رجاله.. تصدى بقلب بطل ليدافع عن أرض وطنه. عندما نتابع سيرة الشهيد ومشوار حياته أو تسمع لأصدقائه.. ندرك حقًا أن العسكرية المصرية فعلًا “محظوظة” برجال نادرين فى كل شيء، وكأن الله عز وجل قدر لها أن تتألف من خيرة خلقه، فحقًا هم نموذج مُجسد للقب “خير أجناد الأرض”.
وُلد الشهيد العقيد أحمد صابر المنسى عام ١٩٧٧ فى منيا القمح بمحافظة الشرقية وتخرج فى الكلية الحربية عام ١٩٩٢ ضابطًا بسلاح الصاعقة.
خدم الشهيد فى الوحدة «٩٩٩ قتال»، وهى وحدة العمليات الخاصة للصاعقة بالقوات المسلحة، حصل على ماجستير العلوم العسكرية من كلية القادة والأركان عام ٢٠١٣ وفى أكتوبر ٢٠١٦ انتقل للخدمة فى سيناء بعد استشهاد زميله ودفعته فى الكلية الحربية العقيد رامى حسانين لتولى قيادة الكتيبة ١٠٣ صاعقة خلفًا له.. كان انتقال برغبة الشهيد المنسى أو أبو حمزة كما كان يناديه المقربون منه لأن اكبر ابناءه الثلاث هو حمزة وتلميذ الابتدائى.

ذهب المنسى إلى سيناء ليكمل مهمته فى سبيل الوطن، لكن القدر كان فى انتظاره ليكتب شهيدا أو يصبح حديث الساعة ومواقع التواصل الاجتماعى والشوارع والميادين والبيوت وكل شيء، فى البداية كنت أعتقد أنه مجرد نوع من الحزن على بطل استشهد فى سبيل توفير الأمن والأمان لوطنه، لكن أصدقاءه وزملاءه فى العمل حسموا الأمر، وأكدوا أن كل ما قيل فى حق الشهيد لا يوفيه حقه فى الخلق والعلم والعمل والثقافة والتفانى.

أحد زملاء الشهيد فى سلاح الصاعقة منذ ما يزيد على ٢٥ عامًا وجاره فى نفس الوقت ملازم شرف ياسر مأمون، عندما سألته عن الشهيد تلعثم فى الكلام من شدة البكاء وقال.. يعجز الكلام عن وصف الشهيد أحمد المنسى «فهو كان المنتهى فى كل شيء» منتهى الاحترام وحُسن الخلق والتواضع وطيبة القلب والمهارة والتفانى فى العمل والمثل والقدوة لكل زملائه وقادته أيضًا وواعظًا لكل من يتعامل معه... أول مرة التقى فيها بالشهيد أحمد المنسى كانت منذ ٢٥ عامًا فى سلاح الصاعقة بأنشاص، حينما كان حديث التخرج من الكلية الحربية، وكان برتبة ملازم، وكان الشهيد واحدًا من أمهر ضباط الصاعقة، وكان بارزًا فى فريق الرماية واللياقة البدنية وخدم فى الوحدة «٩٩٩ صاعقة» وهذه الوحدة لا يخدم فيها إلا أمهر ضباط الصاعقة، وقضى فيها أغلب فترة خدمته قبل أن ينتقل للخدمة فى سيناء فى ٢٠١٦ بعد استشهاد زميله ودفعته العقيد رامى حسانين فى أكتوبر ٢٠١٦ وتولى المنسى الكتيبة ١٠٣ صاعقة بعد الشهيد حسانين.
كنا نطلق على الشهيد «الدينمو بتاع الكتيبة وروحها» كان مشهورًا بحسن الخلق ومحبوبًا من الجميع، وكان أول من يستيقظ ليؤذن لصلاة الفجر، وكان دائم الاستشهاد بآيات القرآن الكريم فى جميع أحاديثه، وكان دائما يذكرنا بأن الدين أمرنا ألا نعتدى على أحد وأن نواجه من يعتدى علينا، وأن تقاليد قواتنا المسلحة هى الشرف فى الحرب، ولذلك فالحرب على الإرهاب هى فرض عين علينا، لأننا المسئولون عن حماية مصر وشعبها والله عز وجل سيسألنا وسيحاسبنا على ذلك.

من المواقف التى لا ينساها الملازم مأمون.. عندما أعلن بنك التعمير والإسكان عن حجز وحدات سكنية فعرض على الشهيد أن يقدما للحصول على شقة فرد عليه.. وآخد شقة ليه وهى مش من حقى الشقق دى مش من حقنا دى من حق ناس تانية هما أولى بيها وأنا الحمد لله عايش فى بيت والدى، ومش محتاج حاجة».
أيضًا منذ حوالى شهر شاهدت له صورة على صفحته على فيس بوك وهو مصاب بطلقة فى كتفه، فكلمته وقلت له انزل إجازة ريح شوية، قاللى أريح فين لأ طبعًا أنا خيطت دراعى ورجعت ع الكتيبة على طول والدكتور قاللى أنت محتاج للراحة ١٥ يوما وبعيد عن الشمس قلت له لو أنت شايف كدة تعال معايا كتيبتى وخللى بالك منى هناك أنا مش هينفع أسيبها شغلتى ومهمتى.
ويتذكر ياسر آخر مقابلة له مع الشهيد المنسى ويقول.. نحن جيران منذ ٢٠ سنة، وفى شهر رمضان الماضى تهاتفنا قبلها تليفونيًا، وقال لى إنه سينزل إجازة ويريد مقابلتى وبالفعل تقابلنا أنا وهو وزميل آخر وجلسنا على كافيه فى العاشر من رمضان، وأثناء جلستنا شاهد متسولا كبيرا فى السن يجلس فى الشارع، وكان به جرح كبير فى ساقه ينزف بشدة، فأخذه ووضعه فى سيارته واتصل ببعض الأطباء من معارف والده الدكتور صابر المنسى، وذهب به إلى مستشفى الدمرداش، والأطباء هناك قالوا له: إنه لو انتظر أكثر من ذلك كان سيتعرض لعملية بتر للساق لا محالة خلال يومين على الأكثر، وظل الشهيد متواجدا مع الرجل حتى تم عمل اللازم له، وكانت إجازته ٤ أيام وظل طوال الإجازة يذهب له يوميًا مستشفى الدمرداش للاطمئنان عليه.
العقيد أحمد المنسى عايش من زمان شهيد بيننا، شهيد بأخلاقه وتواضعه وتفانيه فى مساعدة الناس وخاصة المحتاجين، شهيد بتفانيه فى عمله شهيد بروحه الحلوة شهيد يسير على قدمين.
قبل أن ينتقل للعمل فى سيناء، وهو برتبة رائد، كان يحضر إلى منزلى يوميًا فى الصباح لنذهب للعمل سويًا بسيارته، وكنت أقول له إننى سأذهب بسيارتى يقول لى لأ هوصلك معايا وبعد الانتهاء من العمل كان يعيدنى مرة أخرى إلى منزلى.
قصص أخرى من إنسانية الشهيد المنسى يرويها محمد إبراهيم، أحد تلاميذ الشهيد، يحكى قصصًا أخرى من إنسانية المنسى، فأول مرة يلتقى به عام ٢٠٠٧ عندما كان طالبًا بالكلية الحربية بالقسم المتوسط، يقول محمد ذهبنا لتلقى فرقة صاعقة فى أنشاص والشهيد حينها كان مشرف فرقتنا وكان خير مُعلم ومثلا وقدوة لنا تعلمنا منه الكثير والكثير ليس على مستوى العسكرية فقط، ولكن على المستوى الشخصى بحيث كُنا ننظر له ونحن طلاب وكل فرد منا يتمنى فى داخله أن يُصبح مثله يومًا ما، لأنه كان قدوة فى كل شيء فى العسكرية والصاعقة والرماية والانضباط والروح القتالية العالية والثقافة والتدين.
ومن حُسن حظى وقدرى أننى عندما تخرجت فى الكلية الحربية عملت تحت قيادة الشهيد، ووجدته محبوبًا من الجميع «ضباط وصف ضباط وجنود» لدرجة أنه كان برتبة نقيب حينها وكانوا ينادونه بالرائد منسى، وكنت سعيد جدًا أننى معه فى الكتيبة لكى أتعلم منه كمان وكمان «لأن القعدة معاه لوحدها تتاقل بالذهب» والنقاش معه كان يتخطى حدود وتفاصيل العمل؛ فكنت أتناقش معه فى أدق خصوصيات حياتى، وكان دائمًا يفيدنى بآرائه ويمدنى بالنصيحة وعمره ما تعامل معى على أنه قائد بل كنت دائمًا أخًا أصغر له، كان قوى الشخصية جدًا ويثق فى نفسه لأبعد الحدود ومع ذلك كان متواضعا لأبعد الحدود ولم يكن يخشى إلا الله عز وجل ولا يهاب شيئا غيره، وهذا أهم شيء تعلمته منه.
أما جاره فى مدينة العاشر من رمضان وصديقه منذ مرحلة الإعدادية، أسامة نبيل، ويعمل مُدرسًا.. فيقول أنا والشهيد عشرة عُمر منذ ٢٨ سنة منذ أن كُنا فى المرحلة الإعدادية وبرغم قوة شخصيته كان طيب القلب جدًا ومسالمًا يكره المشاكل وكان اجتماعيا جدًا يحب الجميع وهم يحبونه، ومنذ الصغر وهو يحلم بدخول الكلية الحربية والالتحاق بالعسكرية وخدمة الوطن، كنا نتدرب على الكاراتيه، وبعدها ذهبت للتدريب على كرة القدم، وهو كان يتلقى تدريب الكونغ فو، كان عندما يُنهى تدريبًا فى فن قتالى ما يدخل فى فن قتالى غيره لكى يُعد نفسه للالتحاق بالعسكرية، وكان دائمًا يقول لى.. “نفسى أدخل الجيش وأكون فرد فيه أحمى بلدى وأصونها، وكنت أقول له.. وإيه اللى يخليك ترمى نفسك فى المخاطر دى شوفلك أى كلية تانية وخلاص، فكان يقول لى.. المخاطر اتخلقت للرجال وأنا راجل وخُلقت خصيصًا لها”
كان يعمل بجد واجتهاد وتفان ويتمنى الشهادة إذا كانت فى سبيل الدفاع عن وطنه بمعنى أدق “كان بايع نفسه على البلد ولا يهاب شيئا إلا الله”.