قُتِلَت الإعلامية الفلسطينية شرين أبو عاقلة برصاص الغدر الإسرائيلي، فانفجر الغضب العربي، وارتفعت الأصوات المزمجرة في فضاء المنطقة العربية؛ ولكن سرعان ما ستخفت تلك الصرخات، بل وستخمد وكأن شيئًا لم يكن. تمامًا كما حدث عندما مزقت رصاصات قوات الاحتلال الإسرائيلي جسد الطفل الفلسطيني «محمد الدرة» وهو بين ذراعي والده .. ثارت دماء الغضب في عروق العرب، وعلت في ذلك الوقت الاحتجاجات وارتفعت الصرخات، وسُيّرت المظاهرات تجوب شوارع العواصم العربية معلنةً رفضها للإجرام الإسرائيلي. وظننا أن الدنيا التي قامت لن تقعد ثانيةً، لكنها قعدت، بل استرخت وغَطَّت في نوم عميق.
وهكذا تتوالى الأحداث المفجعة على الجسد العربي المشلول الذي لا يملك سوى الصراخ .. غضب جامح ثم خمول وفتور؛ دفع بعض المحللين السياسيين داخل المنطقة العربية وخارجها إلى وصف العرب بأنهم «ظاهرة صوتية» حتى أن المفكر السعودي عبد الله القصيمي وضع كتابًا حمل العنوان ذاته.
قد يكون أحد أسباب هذه الظاهرة العربية الغريبة والعجيبة هو أننا أمة تغفل الحاضر وتنكفئ على الماضي تجتره اِجتِرارًا، أمة تتقدم إلى الوراء، ترى مستقبلها في ماضيها، وتسعى بلهفة وشغف لبلوغ ذلك الماضي. يحدث هذا في منطقتنا العربية في الوقت الذي تستثمر فيه إسرائيل حاضرها، وتخطط لمستقبلها استنادًا إلى رؤية علمية سليمة. أما نحن فتستغرقنا المناقشات البيزنطية حول ما إذا كانت شرين أبو عاقلة ماتت شهيدة أم لا؟ والمقصود بالجدل البيزنطي هو الجدل العقيم الذي لا فائدة منه.
والكلمة جاءت من بيزنطة Byzantium وهى مدينة يونانية قديمة. فبينما كان جيش السلطان العثماني محمد الفاتح يقف على أسوار مدينة «بيزنطة» ويحاصرها ويقذفها بالقنابل والمنجنيق، ويحاولون تسلق أسوارها العالية من أجل الدخول إليها وفتحها، كان الرهبان وعلماء بيزنطة في الكنيسة الكبيرة، يتجادلون فيما بينهم حول مسألة ما إذا كانت الملائكة ذكورًا أم إناثًا؟ وكانوا يتجادلون أيضًا حول هل البيضة التي وُجِدتَ أولاً أم الفرخة ؟! فكان هذا الجدل العقيم أحد أسباب سقوط بيزنطة! وهكذا نحن اليوم ننشغل بمسألة ما إذا كانت شرين أبو عاقلة قد ماتت شهيدة أم لا؟ غافلين عن كل الأخطار التي تحاصرنا من كل حدب وصوب.
إن الاغتيال الآثم للإعلامية شرين أبو عاقلة ليس أول حادث غادر يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي، ولن يكون الأخير، ومن ثمَّ علينا ألا نكتفي بتكرار عبارات الاستهجان ضد مرتكبي هذا العمل الإجرامي ومن يساندهم ويدعمهم، علينا ألا نكتفي بالصراخ والنحيب، ونحسبن ونحوقل (نكتفي بترديد: حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
علينا ألا نكتفي بارتداء ملابس الحداد، وإقامة سرادق ضخم بطول الوطن العربي وعرضه نعزي بعضنا بعضاً لعدة أيام، ما نلبث أن ننصرف بعدها إلى شئون حياتنا اليومية المعتادة؛ وكأن شيئاً لم يكن "وبراءة الأطفال في أعيننا".
وبعد أيام (أو ربما أسابيع) يقع مرة أخرى عدوان صهيوني خسيس، فنعاود الاكتفاء بما اكتفينا به المرة الأولى: إدانة العدوان والصراخ والنحيب على الضحايا. والنتيجة هي تكرار ارتكاب الأعمال الإجرامية من جانب إسرائيل. إن دماء شهدائنا تصرخ مطالبة بالقصاص . . والقصاص لا يكون بالصراخ والنحيب.. القصاص يتم بإعمال العقل.. وبالتخطيط العلمي والإفادة من الأخطاء ومحاولة تجنبها، وبناء العقول العربية المؤمنة بالعلم وبالتفكير العلمي، بدلاً من تأجيج المشاعر والانفعالات العقيمة.