الخميس 16 مايو 2024

الأقمار الساكنة.. مشردون وحالمون وباحثون عن الحظ والحب

الغلاف

ثقافة7-6-2022 | 21:23

محمد الحمامصي

في مجموعته القصصية "الأقمار الساكنة" يحكي الروائي والقاص الألماني كليمنس ماير عن أناس يقضون حياتهم على هامش مركز الأحداث، يفعل هذا بنبرة حذرة وخافتة للغاية كأنه يود فقط ألا يدفع هذه الشخصيات نحو موضع تسلط عليه الأضواء حيثما قد تستبيحهم نظراتنا الفضولية. وكأنه لا يود أن يزعجهم في هذه الدقائق القليلة التي لا يستطيعون فيها في الحقيقة نسيان وحدتهم ـ فهم جميعا وحيدون في الحقيقة ـ وإنما يستطيعون إزاحتها جانبا؛ إذ يراودهم لبعض الوقت الأمل المؤقت في أن هناك شخصا ما قد يكون من الممكن مشاركته في شيء ما. 

 تدور أحداث القصص، التي ترجمها سمر منير وصدرت عن دار صفصافة، في الشقة الهادئة وفي المستودع والحانة وعلى ضفاف النهر وبين جنبات المجمعات السكنية. تتجلى على أبطالها قسوة الحياة وأوهامها الضائعة، هم مخلوقات الليل المضطربة، مشردون وحالمون وباحثون عن الثروة والحب، يجوبون المدينة ليلا تملأهم أوهام كبيرة، متحدون في توقهم إلى الضوء والسطوع، والذي يعبر عنه المؤلف أحيانًا بشكل حرفي للغاية، أبطال يريدون دائمًا إضافة القليل من التألق إلى أي شيء، حتى لو كان مجرد حلم. مرارًا وتكرارًا كانوا يشكون من "أنه لا بد من وجود شيء مثل الحظ"، تمامًا مثل المخادع السابق الذي يشعر فجأة بالسعادة على حلبة الرقص، ومثل الرجل الذي يتلقى رسائل من صديق قديم كسب المال ويسافر في جميع أنحاء أمريكا الوسطى واللاتينية؛ لا يهم أن الرجل ربما يكتب هذه الرسائل لنفسه، أو مثل رولف محب الكلاب، هو المحظوظ للحظة وجيزة، بالصدفة يربح أربعة آلاف ونصف يورو في سباق، يتمايل في حالة سكر، الأوراق النقدية في جيب سترته، باتجاه الأطراف نحو الشرق، حيث يعيش، يمضي دون أن يرى ثلاثة رجال يركضون خلفه... النص ينقطع هنا، لكن القصة تبقى في رأس القارئ.

هكذا تضمن المجموعة المقسمة إلى ثلاثة أجزاء 9 قصص متفاوتة الحجم، ومن ثم فهي تضم عوالم متنوعة بما يؤكد براعة الكاتب وقدرته على تصوير أنماط حياة نماذج مختلفة من البشر في سياقات متنوعة، نساء يعملن في تنظيف القطارات أو مصففات شعر ورجال يعملون في خدمة البريد السريع نرى رجال أمن يحرسون مجمعات سكنية للأجانب مهددة بخطر التعرض لاعتداءات، يتماس في بعض القصص ما بعد الحرب العالمية الثانية ونتائجها على ألمانيا وسيطرة موسكو على ألمانيا الشرقية.

وقد فازت المجموعة بجائزة معرض لايبزيج للكتاب عام 2008 وفي حيثياتها أشارت لجنة التحكيم إلى أنها مجموعة "تستكشف آمال الإنسان بإيجاز مثير للإعجاب وأناقة لغوية، على خلفية عدم تحقيقها الجذري".. تدور حول شخصيات ليس فقط من أطراف المجتمع ولكن كلها على وشك السقوط، كل منها مدفوع للوحدة بسبب الانجراف غير المبرر نحو الفشل. تدخل غريزة الموت والعمل الخيري في تحالف غامض في هذا القصص. المعلم البدين، الذي يستهجن نتيجة وقوعه في حب فتاة تبلغ من العمر 11 عامًا؛ الرجل العجوز الذي يدفن حيواناته قبل أن يقول وداعًا؛ الملاكم الذي اعتاد على الخسارة لا يحالفه الفوز، أو رجل الأعمال السابق الذي يموت في هذيان سريالي.. إن المؤلف يفك الأسرار الدفينة لقدرية أبطاله الحزينين بتعاطف جريء ووداعة كبيرة.. إنه يقترب من شخصياته بمظهر دقيق وفضولي وشبه رقيق. يعرف ما يكتب عنه الناس، والأماكن، والأوساط الاجتماعية، والحالات المزاجية، وعادة ما يجد النغمة الصحيحة. خاصة في اللحظات الهادئة حيث تكشف قصصه عن قوة هائلة في الوصول للعمق".

يذكر أن كليمنس ماير كاتب ألماني من مواليد عام 1977، قضى شبابه في أحد الأحياء العمالية في مدينة لايبزيج وعاصر حكم الاتحاد السوفيتي لألمانيا الشرقية، كما عاصر التحول السياسي في ألمانيا وإعادة توحيدها مما انعكس في كثير من أعماله.

مقتطف من قصة شظايا زجاجية في العقار 95

"سجائر قديمة" قالتها فجأة وانحنت نحو أسفل ورفعت أحد أعقاب السجائر ومدَّت إصبعين من أصابع يدها بحذر نحو الفلتر الطويل والذي أصبح لونه مصفرًّا منذ وقتٍ طويل. رفعتْ عُقب السيجارة عاليًا وأمسكت به لوهلة في الهواء، بيننا، ثم ضغطت عليه في الغرفة فأحدثت صوت طرقعة. 
"أنت تحكي... حكاية أسطورية (قالتها بالروسية)...".
قلت لها: "حكاية أسطورية".
قالت: "أجل. لا يوجد جندي هنا".
"لا" أومأتُ برأسي "ما من جندي".
"لكن أنت هنا أيها الضابط" قالتها وارتعش صوتها قليلًا وابتسمتْ واستدارت نحوي «سنشرب نبيذ القرم (قالتها بالروسية)" رفعتْ يدها كأنها تريد أن تطلب شيئًا من الرجل الواقف خلف البار "اليوم عيد ميلادي".
وقفتْ أمامي وأمسكت بي من كتفيَّ وتناولت يدي وجذبتني إلى منتصف الغرفة، إلى المكان الذي كانت فيه بالتأكيد ساحة الرقص في السابق. 
قالت: "تعالي. أرجوك".
رقصنا في صمت، باضطراب في البداية، ونحن نبحث عن إيقاع ما وعن موسيقى ما، ولم يكن هناك سوى صوت أقدامنا على الأرض. رقصنا ببطء شديد وقرَّبتها مني بشدة وشعرتُ كيف كان ثدياها يرتفعان وينخفضان عندما كانت تتنفس. وعندما استدرنا ونحن نرقص باتجاه النوافذ العالية، التي نفذ من خلالها ضوء المساء، أصدرت شظايا الزجاج صوت طرقعة أسفل أقدامنا. وضعتْ رأسها على كتفي. كنت أطول منها بقليل فحسب وعندما كنت أميل رأسي بخفة، كان وجهي يلمس شعرها ذا اللون البني المائل إلى الاحمرار. خرجنا عن الإيقاع؛ فقد كنا مضطرين أن نرقص حول المنضدة المقلوبة على الأرض. أخذنا نرقص على نحوٍ أبطأ شيئًا فشيئًا ونحن نضع أيدينا على ظهورنا وضممنا بعضنا بعضًا وكنا نشعر في بعض الأحيان بالضوء الذي كان ينفذ عبر النافذة، وبعد ذلك رحل الضوء مرة أخرى. تحركنا عبر الغرفة. كانت تدندن بلحنٍ ما وهي تضع شفتيها على قميصي. تحركنا في الضوء وأخذنا نرقص حتى حلَّ الظلام وأصبحت الشمس غارقة خلف أسقف ثكنة الروس القديمة.
أصبحت الغرفة مظلمة. ذهبتْ إلى النافذة واستطعتُ أن أتبيَّن في الضوء القليل شعرها ذا اللون البني المائل إلى الاحمرار. لم يتغير أي شيء. في مكانٍ ما اندلعت من جديد حرب ما، كانت قد أتت بها إليَّ مرة أخرى. 
"ماذا عن والديكِ؟".
"لا أعرف (قالتها بالروسية)".
«وماذا عن والدتك؟».
"لا أعرف (قالتها بالروسية)".
"ماما، والدتك أنتِ؟ (قالها بالروسية)" لم أكن قد عاودت الحديث باللغة الروسية منذ ذلك الحين؛ فأخذتُ أبحث عن الكلمات وأخذتُ أبحث عن الجمل.
"أنا لا..." كانت تقف إلى النافذة وهي تدير ظهرها لي. لم تكن تريد أن أضيء النور. كان قد انتابها شعور بالخوف على الرغم من أن الوضع بالخارج أصبح عندئذ هادئًا وكانت إحدى سيارات الشرطة فقط لا تزال تقف أمام المجمع السكني للأجانب. كان أحد ضباط الشرطة يتكئ على السيارة بينما كان ضابط آخر قد أنزل زجاج النافذة الجانبية نحو أسفل ولم يكن يظهر منه سوى ذراعه التي كانت متدلية خارج النافذة وكان الضابط يحمل سيجارة بين أصابعه. 
"أنا... أنا لا...".
"لا، أنتِ لا يا "ماريكا".
"ماريكا؟".. استدارت من جديد نحوي. ربما كان عمرها تسعة عشر أو عشرين عامًا. كانت قد شبَّكت ذراعيها أمام صدرها وارتعشتْ قليلًا. 
سألتها عن بلدها وذكرتُ لها البلد الصغير ذا الجبال والسهول التي كانت قد حكت لي عنها ذات مرة. لكنها لم ترد عليَّ. نظرتْ إليَّ بعينيها الواسعتين اللتين بدا أن لونهما الأزرق أصبح أغمق مثلما يتغير لون الماء ويصبح أغمق عندما تنقبض السماء أو عندما يحلُّ المساء.
لكن ربما كان ضوء الشفق في الغرفة وحده هو السبب في ذلك.
قلت: "والدتكِ. أمكِ (قالها بالروسية)...".
"لا" قالت وأضافت بالروسية: "لا، لا أعرف...".
"لا" قلتها وأردفت «لا، لا. والدتك. ماذا يا «ماريكا»؟ أين يا "ماريكا"؟ (قالها بالروسية)» كنت قد حاولتُ أن أستكشف أين كانت عندما اختفت، آنذاك، لكن هذا لم يكن أمرًا مجديًا وسرعان ما فقدتُ الأمل بالفعل.
"أنا لست "ماريكا" قالتها وأضافت بالروسية: "لا أفهم..." وتراجعت من جديد بضع خطوات نحو النافذة.
كان الملصق على الحائط عبارة عن نتيجة كبيرة بها حروف باللغة العربية ومناظر طبيعية صحراوية مبتذلة ومسجد. من المؤكد أنها لم تسكن في الغرفة وحدها أو أن الملصق كان معلقًا هناك بالفعل عندما جاءت إلى هنا.
عدتُ في طريقي إلى السور. كانت سيارة الشرطة ما زالت واقفة أمام المجمع السكني للأجانب وكان كلا رجلي الشرطة يجلسان بداخلها وقد أصبح زجاج النوافذ مرفوعًا لأعلى وبدا كأنهما كانا نائمين في مقعديهما. 
أصدرت الشظايا الزجاجية صوت طرقعة أسفل حذائي. وكانت إحدى النوافذ قد تحطمت، بالأعلى في الطابق الثاني، وكانت الغرفة من خلفها معتمة وخاوية. انحنيتُ وتناولت إحدى الشظايا.
"هل ما زلت أنت مسؤول الأمن؟".
"لا".
"أنت ما زلت شابًّا...".
"أنتِ ما زلتِ شابةً يا "ماريكا".
"كلانا شاب أيها الضابط الصغير".
"أجل، كلانا".
ألقيتُ الشظية الزجاجية في الظلام وعدت إلى العقار 95، إلى المنازل الشاهقة الساكنة ذات الطوابق المتعددة في مدينة الأقمار حيثما كان الكلب ينتظر في بيت حراستنا الصغير أو حيثما كان نائمًا. ظللتُ واقفًا مرة أخرى إلى السور. ظننتُ لوهلة أنني رأيتها، بأنفها الصغير، أنفها ذي الأرنبة المرتفعة، يا لها من كلمة جميلة، شعرها متوسط الطول وذا اللون البني المائل إلى الاحمرار...
جلستُ في السيارة ونظرتُ إلى الحافلة وقد استقلها رجال ونساء وأطفال.
هل تم نقلهم من مكانهم؟ هل تعرضوا للإجلاء؟ الضوء الأزرق لسيارات الشرطة. جلستُ في سيارة خدمتنا حتى حلَّ الصباح.
"من رقم واحد إلى رقم اثني عشر. منرقم واحد إلى رقم اثني عشر".
"رقم اثني عشر يسمعك".