عندما يهيم خيالي في لحن جميل للسنباطي بمقدمة موسيقية عبقرية مثل من أجل عينيك أو أقبل الليل أو لموسيقار الأجيال في هذه ليلتي أو أغدًا ألقاك وأتأمل تلك القصائد وكتابها من عبدالله الفيصل أو جورج جرداق أو الهادي آدم وأطير مع مرسي جميل عزيز وألحان بليغ في سيرة الحب والمقدمة الموسيقية لألف ليلة وليلة وانتهي إلى فات الميعاد فأجدني أمام عصر عبقري في أصواته الخالدة فأم كلثوم مضى على وفاتها أكثر من نصف قرن، وكذلك عبد الحليم وفريد الأطرش وغيرهم ممن رحلوا عن عالمنا، فحسين السيد قرين عبد الوهاب أنطق الحجر وأحمد رامي قرين أم كلثوم أبكى قلوب المحبين ومحمد حمزة أنعش الأمل مع حليم، ولكن الزهرة زبلت قبل أن تنضج.
هل سمعت يومًا حاول تفتكرني وأنصت إلى مقدمتها الموسيقية وكلماتها التي تخترق القلوب وقد غناها في ليلة طويلة ليلة شم النسيم 1973، مع رسالة من تحت الماء ويامالكا قلبي في رحاب جامعة القاهرة، بعد أن كان طوال يومه السابق طريح الفراش في المستشفى.. أم طاف بك طائر الحزن مع موعود معاية بالعذاب يا قلبي.. أم سهرت الليل يومًا وأنت تسترق السمع مع مداح القمر.. تراك جلست يومًا على صخرة الروشة في بيروت وانت تسمع رسالة من تحت الماء بصوت نزار قباني أو ناوشتك قارئات الودع اللائي ينتشرن على طول كورنيشها لتسمع قارئة الفنجان.
بعد أن تناولت الترويقة "الإفطار"على أثير جارة الوادي والرحبانية.. ومن الأبنودي وأمل دنقل من صعيد مصر، أحلى الكلام ومن صلاح جاهين تترات وأغنيات وكاريكاتير ومن نجاة وفايزة وسلطان عذب النغمات وفي نفس الزمن.
من العمالقة تقرأ لطه حسين وعبد الرحمن الشرقاوي وتوفيق الحكيم ويحيى حقي وعبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود ومحمد زكي عبد القادر وعباس محمود العقاد.. شعر.. أدب وقصص ومسرحيات.. وكبار المخرجين صلاح أبو سيف وحلمي رفلة وعز الدين ذو الفقار وحسن الإمام وزكي طليمات وغيرهم وملوك الصحافة محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وأنيس منصور ورجاء النقاس وكامل الشناوي وبيرم التونسي الشاعر والكاتب والصحفي المتمرد.. وأعظم وأروع الأفلام التي خلدتها ذاكرة السينما العربية في بيتنا رجل، قصة إحسان عبد القدوس، ونهر الحب ومراتي مدير عام لصلاح ذو الفقار، والأرض لمحمود المليجي، وكلمة شرف لفريد شوقي والأيدي الناعمة بطولة أحمد مظهر ورد قلبي والأطلال ليوسف السباعي.. ومسرحيات يوسف وهبي والريحاني وسميحة أيوب وشفيق نور الدين وفؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي وعادل خيري.
هذا الزمن الذي انحصر ما بين الخمسينيات والستينيات إلى منتصف السبعينيات تقريبًا، وربما امتد بعضها قليلًا على استحياء في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي.. لقد كان هذا الزمن عبقريًا بكل المقاييس فهو حالة خاصة انصهرت في بوتقتها كل أنواع الفنون الجميلة والكلمة الراقية.. فلم يكن أحد يجرؤ أن يترك المدرسة لدرس خصوصي لا طالب ولا معلم.. هذا الزمن هو الذي أنتج أحمد زويل ومجدي يعقوب ومصطفى السيد وآلاف مثلهم داخل مصر وخارجها، فلم يكن عمر الشريف فلتة فهو من نتاج زمن عبقري.. كان كل شيء فيه يوزن بميزان الذهب وكانت القيم والمبادئ هما الحاكم والحد الفاصل، ولأن الإبداع والعبقرية عدوى فقد استشرت في كل مناحي الحياة، وبرغم أن البعض قد يزعم أن هذا الزمن لم يكن زمن الحريات فكيف طاب لهم الإبداع؟، والإجابة على السؤال صعبة برغم سهولتها فعلى كل لبيب أن يقرأ ويحلل ويبدي رأيه، هل بالفعل كان زمنا قمعيا أم كان متوازنًا.
مع العلم أن الأبنودي وإحسان عبد القدوس وأحمد فؤاد نجم دخلوا السجن وكذا الساخر الكبير محمود السعدني، ولكن عندما تسمع حكاياتهم وعلى لسان بعضهم تجدهم رغم كل ماكان يمتدحون هذا الزمن.. فكما أن العبقرية عدوى فأن الإسفاف أيضًا عدوى فعندما يبدأ الهبوط تتوالى أحداثه ويتنافس المتنافسون في إنتاج مزيد من الانحدار.. فالسمو يخلق مزيدًا من السمو والإنحدار ربما لايمكن كبحه.
نحمد الله أننا استمتعنا بزمن كنا نعيش فيه يوميًا بين كتابات يوسف إدريس ومصطفى أمين "فكرة"، وسلامة أحمد سلامة "من قريب" و"صواريخ" إبراهيم الورداني و"مواقف: أنيس منصور و"من ثقب الباب" لكامل زهيري ومقال الخميس بالجمهورية لمحسن محمد، و"بصراحة" الجمعة لهيكل، ولم يخلد أبدًا التاريخ أي من المنافقين من الصحفيين أو الكتاب فمن بقى في الذاكرة منهم هم أصحاب الرأي الحر الذين كان ولائهم لمصر، وليس لأشخاص مهما علا قدرهم.
سلام على ذاك الزمان وأهله وصحبه وأقرانه وما بقى من أوراقه وكلماته ورناته وضحكاته وحتى أحزانه.