السبت 1 يونيو 2024

تعليم الفن .... والتيارات الموازية

21-7-2017 | 15:01

د.مصطفى الرزاز

فى مصر عدد وفير من كليات الفنون والتربية الفنية موزعة بين عدد من المحافظات. وقد أسست أول مدرسة للفنون الجميلة على النموذج الغربى، المدرسة الباريسية على وجه التحديد، عام 1908 برعاية الأمير يوسف كمال وعلى نفقته، وكانت الفنون التطبيقية سابقة على هذا التاريخ إذ تم إنشاء مدرسة العمليات فى عهد محمد على باشا وتطورت لتصبح مدرسة الفنون والزخرفة إلى أن أصبحت كلية الفنون التطبيقية، وتم تأسيس قسم التربية الفنية فى دار المعلمين فى أواخر العشرينيات وتطورت إلى أن أصبحت كلية التربية الفنية، وكانت هذه الكليات الثلاثة، الفنون التطبيقية، الفنون الجميلة، والتربية الفنية هى الوحيدة التى يدرس فيها الطلاب المصريون من مختلف المحافظات والعرب من أقطار شتى، إلى أن أنشئت كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية فى الخمسينيات، ثم فى دمشق، وتوالت بعد ذلك فى أماكن عديدة فى مصر وخارجها، فنشأت كلية الفنون الجميلة وكلية الفنون التطبيقية وفق مناهج ومعايير أوروبية محافظة تعنى بالمهارات المهنية فى تطبيق النماذج الأوروبية فكان الخريجون يتخرجون فى هذا الإطار، وكانت الفنون الجميلة طليعة النشاط فى الفن فى مصر الحديثة وتخرج منها جيل الرواد الطموح، ولكنها ما لبثت وتبنت مناهج محافظة كما سبقت الإشارة.

فى دار المعلمين فى أواخر القرن الماضى وعند عودة جيل من رواد التربية الفنية بزعامة حبيب جورجى تم تأسيس اتحاد الرسم والأشغال وإصدار المجلة الدولية للتربية الفنية عام 1938، وكان لهذه الجمعية وللمعهد العالى للتربية الفنية دور ريادي فى تبنى التيارات الطليعية فى الفن وإلقاء الضوء على التراث القومى والفن الشعبى والريفى والقطرى وفنون الأطفال فشقوا طريقا موازيا طليعيا لمدرسة الفنون الجميلة التى ظلت محافظة إلى هذا الوقت وبعده قامت الجمعية بمؤازرة المعهد الذى استقبل الطموحين من خريجى الفنون الجميلة والتطبيقية حيث ساهم حبيب جورجى وتلاميذه من أمثال حسين يوسف أمين وحامد سعيد ويوسف العفيفى وشفيق رزق وحمدى خميس وسعد الخادم ومحمود البسيونى فى معارض فنية طليعية وندوات ومحاضرات ومشاركات فى المؤتمرات الدولية، حيث انتشرت فى مصر مناهج التعليم الحديثة للفنون التى تقوم على مفاهيم متصلة بالابتكار، وتأمل التراث القومى القديم، والفن الريفى والشعبى، والثقافة الفنية، وأسسوا الجماعات الفنية النشطة، وفق أفكار وممارسات جديدة على الحركة الفنية المحافظة، انعكس ذلك الفكر على أفراد تلك الجماعات من خريجى كلية الفنون الجميلة ثم التطبيقيين وكان ذلك بمثابة تطور جوهرى فى مفاهيم الفن الحديث والثقافة الفنية، والاهتمام بالهوية المصرية فى الفن، بينما واصلت الكليات اعتماد المناهج الأكاديمية التقليدية، مع مدخلات جديدة ترتبت على الأفكار التى جاء بها المبعوثون للأكاديميات الأوروبية ثم الأمريكية بصفة عامة، فأثر ذلك بصورة جزئية فى تطوير مناهج بعض الأقسام كما كان لبعض العائدين من البعثات من ألمانيا خاصة دور كبير فى زرع أفكار الحداثة وتطبيقاتها فى أقسامهم وفى الحركة الفنية خارج الإطار الجامعى من خلال المحاضرات والندوات المفتوحة والحيوية ومن خلال معارضهم الطليعية.

ومن ناحية أخرى كانت الحركة الفنية فى الإسكندرية قبل نشأة كلية الفنون الجميلة بها تعتمد على مراسم الفنانين الأجانب وأنشطة الدعم من رجال الأعمال بها فنشأت حركة فنية متحررة من ضوابط الأكاديمية وأقيمت المعارض والندوات  المهمة، أدى ذلك النشاط الموازى لمعهد التربية الفنية، واتجاه أساتذة الرسم والأشغال الفنية والجماعات الفنية الثورية التى تبنوها والحركة الأهلية للفنون بمدينة الإسكندرية وعدد من العائدين من البعثات إلى أوروبا دورا مهما فى تحقيق تيار فنى تقدمى معاصر مواز لما تخرجه كليات الفنو ن الرسمية من كوادر محافظة ذات ثقافة ممتازة مع قليل من الخيال والطموح والثقافة.

وفى ثمانينيات القرن الماضى ظهر تيار مواز آخر نشط هو تقدمى حيث أدت جماعات التجريبيين فى الإسكندرية والمحور بالقاهرة إلى نشر ثقافة الحداثة والتجريبية وبعض الأفكار المفاهيمية والأسلوبية لما بعد الحداثة، كان جيل الرواد من خريجى الفنون الجميلة طليعة موازية للمعايير الأكاديمية للمدرسة تحرر البعض منهم فى بحثه الفنى والأسلوبى وموضوعات التبادل، غير أن الأجيال اللاحقة من الخريجين قد أصبحوا أكثر تشددا ومحافظة عن التيارات الأكاديمية التى أسست فى نهايات القرن الثامن عشر وعبر القرن التاسع عشر، وكان لتيارات التحرر الفنى والفكرى من الجماعات الفنية الناشطة بدءا من الثلاثينيات بدعم من رواد التربية الفنية وتبنى البعض منهم  شباب الفنون الجميلة فنيا وفكريا مضمارا لتوليد تيار مواز آخر فى الحركة  الفنية، وكان جيل الستينيات العائدون من البعثات الأوروبية ومن مرسم الأقصر والجماعات النقدية الأخيرة فى الحركة الفنية فى الثمانينيات بالقاهرة والإسكندرية دافعا لتنشيط حركة موازية تقدمية.

وفى العصر الحديث كان تأسيس صالون الشباب السنوى ثم حركة الفنون بمكتبة الإسكندرية بمثابة قاطرة إبداعية جديدة مستنيرة فى التعامل مع إفكار وممارسات فنون الحداثة المتأخرة وما بعدها من خلال الطموح المؤسسى والشخصى للشباب وانفتاحهم على المعارض والبيناليات الدولية المهمة التى أقامتها وزارة الثقافة ومكتبة الإسكندرية ومن خلال تواصل الشباب مع فنانين دوليين فى ورش العمل والندوات ومن خلال التواصل مع شبكات المعلومات الدولية بكفاءة وفاعلية، وحصول عدد منهم على منح قصيرة نسبيا فى مراكز الفن المرموقة التقدمية فى أوروبا وأمريكا واليابان فنشأت حركة فنية متدفقة وطموحة وتقدمية حققت نجاحات دولية مهمة للفن المصرى فى بينالى فينيسيا الدولى أهم البيناليات وأعرقها فى العالم وفى عيده المئوى حصل أربعة من الفنانين الشبان الطليعيين وموسيقى شاب على جائزة أفضل جناح فى البينالى، جائزة أسد القديس ماركوس الرفيعة.

كان كل ذلك دافعا لتدفق تيار آخر متحرر ومواز للتيار الأكاديمى الذى ظل بمناهجه العريقة المحافظة وتصاعد الطابع الأبوى للأساتذة من الأجيال القديمة فتراجعت معطياتها المؤثرة فى آلاف الخريجين الذين اعتصموا بالمهارات التقنية والمقولات الرومانسية، دون اعتبار يذكر للثقافة الفنية وأفكار الإبداع والشخصية والتوازى مع التوجهات الفلسفية والأسلوبية لفنون ما بعد الحداثة وارتباطاتها  المفاهيمية والبيئية والاجتماعية والروحانية والرمزية فهذه مجالات لم يسمح لها أن تتواجد فى مناهج الدراسة.

الملخص، إن حالة المناهج متراجعة كثيرا عن مثيلاتها فى الأكاديميات ذات المكانة العالمية، فى حين يفلت عدد من الخريجين من تلك الدائرة الضيقة إلى عالم الفن الرحب بجهودهم التواصلية الخاصة ثم ممارساتهم الإبداعية ومشاركاتهم فى البيناليات والمحافل الدولية بقدر من الندية، ومن المؤسف أن تلك النماذج غير مرغوب فيها داخل الكليات ، بينما يتركز نشاطهم خارجها مما لا يساعد على إدماج أفكارهم وتجلياتهم الأسلوبية فى مسار المناهج القائمة.

فى الستينيات والسبعينيات كنا ننتقد تركيز الكليات على تخريج كوادر ذات مهنية ممتازة دون العوامل المهمة لبناء الشخصية الفنية والتى سبق الإشارة إليها، ولكن عوامل مثل الزيادة المفرطة فى أعداد الطلاب فى الكليات  والمعاهد والأقسام المتزايدة وتضاؤل عدد أعضاء هيئة التدريس ومعلميهم فضلا عن أن أعدادا من هؤلاء لم يحصلوا على مستويات التمايز الضرورية. كل ذلك جعل مجرد إعداد الخريجين على مستوى جيد من الاحترافية التقنية غير متاح فى أغلب الأحيان، وصار التساهل والتراجع عن معايير التمايز، فانخفض  مستوى العديد من الخريجين مهاريا وتقنيا، ومن ثم فإن العناصر المنافسة دوليا هى من بين الشباب الذى تحرر من المناهج التقليدية وتمرد عليها ليبنى ذاته الفنية المتقدمة والمعاصرة، بينما واصل عدد من فنانى الستينيات والسبعينيات والثمانينيات تمايزهم الفنى وقدراتهم التدريسية الممتازة كل بطريقته وتبنى الفنانين الشبان ودعم جهودهم وإتاحة الفرص المهنية والمشاركات الدولية لهم، ومن أهم الأمور أن تتداخل أفكار الحداثة المتأخرة وما بعدها ومجريات الحركات الفنية فى الدول المتقدمة والنشاط الواعى التقدمى لتيار أجيال الشباب فى صميم أهداف وبرامج وآليات التدريس فى كليات الفنون والتربية الفنية  لتحقيق تحول إيجابي وثورى فى أدائها والوعى برسالتها ويلتقى مسار الأكاديمية والمسارات المتوازية فى نهر الإبداع الفنى.