الخميس 20 يونيو 2024

مسرح مصر.. ومسرح دولة مصر

21-7-2017 | 15:05

د. وفاء كمالو

يشهد الواقع الثقافى المصرى كارثة فكرية مؤسفة، تأتى كجريمة اغتيال فعلية لفن المسرح ، وتشويه رؤاه وتفريغ محتواه --، بعد أن صدر الحكم بإعدام المعنى والهدف والدلالة ، وتفتحت المسارات أمام الزيف والتغييب والتضليل، والاستهانة المطلقة بعقول الناس ،لذلك يمثل مسرح مصر ظاهرة خطيرة ، تفرض التوقف أمامها ، حيث تخترق عقول شباب العالم العربى ، لتسقط فى أعماقهم معنى الفن والذوق والجمال، وتهدم جوهر المسرح باعتباره الممارسة العلنية لفعل الحرية والديمقراطية ، وفى هذا السياق يصبح مسرح مصر هو المتهم الأول بإفساد الذوق العام ، وتغييب قيم المسرح ، وفلسفة الكوميديا ، وتشويه الروح والمعنى والانتماء.

من المؤكد أن اختيار اسم مسرح مصر هو استفزاز سافر لكل قيم الوعى والإبداع والجمال -- ، فالمسرح المصرى هو تاريخ وثقافة وفن وذاكرة وجذور ، وهذا الاختيار هو مسئولية وأمانة كبرى  لم يقدرها من اختاروه  فكيف استطاع أصحاب هذه التجربة أن يختصروا ملامح المسرح المصرى ، فى تيارات الإسفاف والابتذال والغياب؟ ؟ فقد أثبتت التجربة أن العروض التى تقدم ، لاتنتمى للمسرح، باعتبارها خروجاً سافراً عن أصول الكوميديا ، بكل مذاهبها ومدارسها واتجاهاتها .

لقد دخل الكوميديان أشرف عبد الباقى – الأب الشرعى لهذا التيار- ، دخل الزاوية الحرجة ، وأصبح عليه أن يواجه نفسه بحقيقة الخسائر الثقافية الفادحة ، والآثار السلبية الفاضحة ، التى يبعثها مسرح مصر ، تلك التجربة التى انطلقت برعاية قناة m b c ، وتعاون عبد الباقى مع المخرج نادر صلاح الدين ، فكونا فرقة من شباب الهواة ، لتقديم عرض جديد كل أسبوع ،وتحققت أمام الشباب فرصة ذهبية، من حيث الجمهور العريض ، والمسرح الأنيق ، والتصوير والعرض على أشهر الفضائيات ، ثم ردود الفعل العالية ، التى حققت لهم شهرة واسعة ، اخترقت عقول الشباب والكبار ، فى مصر والعالم العربى .

هكذا أصبحنا أمام معادلة صعبة عسيرة التوازن ،  تبعثها تيارات التغييب العارمة ، التى أعلنت العصيان على الفن والكوميديا ، وعلى مفاهيم الضحك – فكيف يمكن الافتراء على المسرح بتجارب تفتقد كل المقومات الفنية -- ، فليس هناك نص ولا كتابة ولا إخراج ولا تمثيل --- ، كل المفردات بدائية مسطحة ومختزلة -- ، كل ملامح الفن غائبة ، والشباب يفتقدون أبجديات الخبرة وأسرار الجمال ، ورشاقة الحركة وجماليات الأداء ---، لكنهم ينجحون فى إثارة الضحكات البلهاء الفارغة .

وفى هذا السياق ، مازال أشرف عبد الباقى مستمرا فى تقديم هذا الهراء المخيف، ومازال الناس فى بلادنا يفتقدون الوعى والحس والقيم والجمال ، ومازالت الإشكالية المطروحة هى أن صورة المسرح كحرية وإرادة واختيار ، وفن وفكر وفرجة وإبهار -- ، يجب أن تظل باقية فى أعماق الأجيال الطالعة .بعيدا عن الإصرار على اغتيال المسرح ، وتشويه الكوميديا وتضليل الناس ، واستلاب البقية الباقية من العقل النقدى المصرى .

فى قلب هذا المشهد المتوتر ، كانت قوة مصر الناعمة حاضرة بقوة لتعلن العصيان على وقائع الزيف والسقوط، لتؤكد عبر التجارب الحية الثائرة ، أن المسرح هو الحرية والكشف والمعرفة ، وفى هذا السياق يشهد واقعنا الثقافى تيارا عارما من تجارب مسرح الدولة ، التى تبعث ردود فعل عالية تتأكد عبر جماليات التواصل الجماهيرى المدهش مع أعمال تستحق الإعجاب والتقدير ، مثل مسرحية العسل عسل ، التى يقدمها المسرح الكوميدى الآن  لبيرم التونسى ، وسمير العصفورى والمخرج إميل شوقى ، وهى من التجارب الثائرة ، التى تبعث الجدل والتساؤلات ، والجمال الخلاب ، المسكون باندفاعات التمرد والعصيان ، ويذكر أن المسرحية من أعمال الريبوتوار ،حيث قدمت عام 1986 على مسرح الطليعة ، وحققت نجاحا ساحقا ، وامتد عرضها حتى عام 1990 ، ويبدو أن حرارة التجربة مازالت تتصاعد بالوهج حتى الآن.

 

تأتى مسرحية يوم أن قتلوا الغناء ، التى يقدمها مسرح الطليعة حاليا ، تأتى كثورة جمالية عارمة ، امتلكت أقصى درجات الحرية و لتبوح وتروى عن الفكر والإرادة الإنسانية ، وهى نتاج لوعى جيل جديد يصنع الحياة والمستقبل ، ويهدى الوطن وثيقة عشق إبداعى ، تدين الموت والدم والجهل والتخلف والإرهاب ، وتفتح مسارات الغناء والاكتمال والحرية ، تلك الرؤى التى لامسناها عبر النص الخلاب للمؤلف الشاب محمود جمال ، الذى كتب قطعة فنية تبدو كتراجيديا أسطورية ، تجمع بين جماليات الحس المأساوى ، ومشاغبات الوهج الثورى ، لتطرح وعيا مغايرا و يشتبك مع مجون الواقع وخطاياه الآثمة ، أما الإخراج فكان للفنان تامر كرم، الذى أهدى الجمهور عملا وطنيا راقيا ، يدرك المتلقى من خلاله أن كل الذى حدث فى الماضى ، ومايحدث الآن ، هو صراع نارى عنيد يبحث عن ضرورات التغيير ، بعيدا عن القهر وجموح التسلط .

ما تزال مسرحية قواعد العشق الأربعين ، التى يقدمها المسرح الحديث الآن ، للمؤلفة التركية إيليف شافاق ، والمخرج عادل حسان ، وصاحبة الإعداد الرشيق رشا عبد المنعم ، تضعنا أمام  حقيقة تؤكد أن الجمهور يمتلك حسا عاليا ويبحث عن المعنى والجمال والفن الثرى ، فقد كان إقبال الجمهور على هذة المسرحية يفوق كل التصورات ، رغم إشكاليات الدعاية--- ، لكن الأصداء ترددت بقوة وشاهدها رجال السياسة والاقتصاد والمفكرون والمثقفون والجمهور ، الذى يبحث عن هارمونية الجمال والفكر الرحب ، والرؤى الإنسانية التى تتوحد مع سماحة العقائد والأديان ، وفى سياق متصل تأتى مونودراما واحدة حلوة ، من إنتاج مسرح الطليعة ، لنلمس فيها مأساة السقوط الإنساتى المخيف من خلال عذابات امرأة وحيدة ، تروى عن وجود مختنق ، لتشتبك وتدين البذاءة التى توحشت فى حياة النساء، وفى قلب مجتمع يرتد بقوة نحو السقوط ، وفى هذا الإطار يعايش الجمهور مواجهة حية لهوس الاستلاب والاختزال ، عبر الأداء الجميل للفنانة مروة عيد ، التى بعثت تيارات الحياة الفوارة على خشبة المسرح، عبر الرؤية الإخراجية المتميزة لأكرم مصطفى .

كانت كوميديا لعبة العراف ، التى شاهدناها مؤخرا على مسرح الغد للفنان الشاب عمر الشحات ، كانت دليلا واضحا على أن الفن الجميل يتجاوز كل القيود ، ويظل دائما يضىء ذاكرة التاريخ ، فقد تناول عمر الشحات الأسطورة اليونانية أوديب للشاعر الإغريقى هوميروس ، وحولها إلى حالة هزلية صاخبة ، تنطلق من الكوميديا ديلارتى ، فحطم أيقونات التراجيديا المأساوية ، ليكتب الشباب والصبايا أساطيرهم الخاصة ، الساكنة فى قلب واقعنا الشرس العنيد ، وهكذا أثارت هذه التجربة ، إعجاب النقاد والجمهور ، وذكرتنا ببدايات الكاتب الفرنسى الشهير موليير – الأب الشرعى للكوميديا ديلارتى الذى أهدى  المسرح العالمى ثروة فنية  لايمكن أن تقال فيها كلمة أخيرة .

فى إطار تجارب الثقافة الجماهيرية ، شاهدنا مؤخرا مسرحية البيانو ، لمؤلفها الكبير محمود دياب ، والمخرج حسن الوزير ، الذى اتجه إلى البدايات المبكرة جدا لمحمود دياب، وتناول مسرحية البيانو، فجاءت كنبوءة مدهشة تقرأ تفاصيل المستقبل ، عبر مفارقات الدراما واستعارات الجمال ، لتطرح تلك المواجهة الشرسة مع وقائع وجود مهزوم و مازال ينهار فى موجات السقوط بعد غياب معنى العدالة والإنسانية وانهيار منظومة القيم .

من المؤكد أن الأعمال الفنية الحقيقية تبقى حية ومتوهجة وقابلة للتفاعل مع الأطر الإنسانية والسياسية والتاريخية ، المختلفة ، وعلينا أن نتذكر مثلا أوبريت الليلة الكبيرة ، لصلاح جاهين وصلاح السقا .الذى ما يزال يمتلك قوة خارقة على البقاء والتفاعل والامتداد ،وهو من أهم أعمال الريبورتوار الباقية منذ الستينيات وحتى الآن ، فقد شاهدته مؤخرا على المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية ، وكان مشحونا بكل طاقات الجمال ، ويشاهده الجمهور العريض بشغف ، ومن المعروف أن تاريخ مسرحنا فى مصر يموج بالأعمال الكبرى الثرية ، التى تؤكد أن الفن الحقيقى يبقى ويواجه ، ويعيش ، أما فقاعات الخلل والتزييف ، فهى تسقط من ذاكرة الإبداع -- ، ورغم كل الصخب والضجيج والإقبال الجماهيرى على تجارب أشرف عبد الباقى فى مسرح مصر ، إلا أن هذه التيارات الهابطة ستسقط حتما من ذاكرة التاريخ ، ولكنها ستظل شرخا فى جدار الفكر والفن ، فالمسرح لم يكن أبدا قافية وتلفيقاً وتزييفاً ومراوغة  .