السبت 1 يونيو 2024

نصر أبو زيد : "دون كيشوت" فى مواجهة سلطة النص

22-7-2017 | 12:48

على رزق

لا شيء استثنائي في تلك الملامح التي لا تخطئ العين انتماءها لـ"دلتا مصر"، وجه ممتلئ أقرب ما يكون للاستدارة، عينان طيبتان، وابتسامة شبه مستقرة علي الوجه، ربما بفعل اتساع الفم، أو أنها انعكاس لطيبة القلب واتساع البصيرة. 

في قرية قحافة الملاصقة لمدينة طنطا ولد  عام 1943 طفل أسماه والده "نصرا" تيمنا بانتصار الحلفاء علي المحور في الحرب العالمية الثانية ، ــ وربما العكس كما قال هو ساخراــ،طفل ولد لأسرة فقيرة "من غمار الموالي"، ليعيش حياة متخمة بمعارك لم يسع لأغلبها، ليرحل بعد 67عاما من النضال في مواجهة "سلطة النص" وكل سلطة تريد الهيمنة علي العقل، دون أن تفقده المرارات ابتسامة "الفلاح المصري" المحب للحياة ..

المفكر المستنير الذي تحل ذكرى وفاته هذا الشهر (يوليو 2010) ربما بدأ تكوينه الفكري بتفتح الوعي علي فكرة "الثورة" وهو في التاسعة من عمره، والانبهار بقائدها "اللواء محمد نجيب" الذي رد علي رسالة من الطفل نصر برسالة شكر وصورة موقعة ، وربما أثر فيه ما رآه وسمعه  كـ"شبل" في جماعة الإخوان، التي التحق بأشبالها عام 1954،  و "البوصلة " التي أهداها له "الهضيبي" لعلها "تهديه" في حياة، لم يتخيل الاثنان ــ نصر ومرشد الجماعة ــ حجم الأنواء التي ستشهدها لاحقا** ..

حفظه للقرآن مبكرا،وإتقانه تجويده، وقيامه صبيا برفع الأذان الشرعي ،علي طريقة الإخوان،ثم ترقيه الصوري من شبل إلي عضو ،وساعات حبسه القليلة مع أول اصطدام بين الدولة والجماعة ، ربما كانت عوامل عجلت بمرحلة أخري في حياته ..

مبكرا بدأ "أبو زيد" البحث عن هويته الخاصة،غادر "الإخوان " إلي غير رجعة، لم يتمكن من الالتحاق بالأزهر لظروفه العائلية، فلم نخسر شيخا معمما، ولم يكلل مشروعه في شعر العامية بانطلاقة مناسبة ، وبقي "صلاح جاهين المحلة" مشروعا لم يخرج عن إطار المقهي الذي اجتمعت عليه يوما "شلة شباب"من مثقفي مدينة المحلة  التي عمل بها "فني لاسلكي"...

حتي تخرجه في قسم اللغة العربية ــ بكلية الآداب جامعة القاهرة ــ كـ"أول دفعته" وهو القادم من المدارس الليلية ، لم يكن نصر قد رسم مسارا واضحا لحياته، بخلاف تلك الرغبة والتصميم المدهشين علي ألا تهزمه أقداره، وألا ترسم له "سلطة الواقع " حياة غير التي يرغبها، وليس غريبا بالطبع أن يرفض من شكلت قيمة "الثورة" محطة بداية الوعي، منطق الاستسلام .

التحق نصر بقسم الدراسات الإسلامية، معيدا ، علي غير ما تخطيط، وبترغيب من أساتذته الذين قالوا له إن القسم لا يوجد به معيدون بخلاف قسم النقد الأدبي الذي كان يميل إليه ، أو يعتقد ذلك ، لتبدأ رحلة "مواجهة " انتقلت لاحقا من الأروقة الأكاديمية إلي الشارع، بخلاف السائد والمعتاد .

مسيرته الفكرية التي بدأت لاحقا كانت أكثر وضوحا من نظيرتها الحياتية، فوهب نصر نفسه باحثا وكاتبا لفكرة "التأويل"، كمدخل للفهم ثم الانعتاق من ربقة سلطة النص، وفك ارتباط المقدس بالمنتج الثقافي لعصره .

كتب أبو زيد عن المعتزلة وابن عربي ، كونهما ــ الفرقة والرجل ــ من مؤصلي فقه التأويل، كما استعان بالسيموطيقا والهرمونيطيقا، لفك الاشتباك بين الإلهي والبشري في الخطاب الديني.

كان المجاز سلاحه للتأويل، بينما كانت خبراته الحياتية وفي مقدمتها فقد الأب والاعتماد علي الذات دافعا ليقين لا يتزحزح بقيمة الاستقلال الفكري ، وحرية الرأي..

عمل نصر "أكاديميا" باجتهاد نادر علي تأصيل مشروعه الفكري، فقدم ما يزيد علي العشرين كتابا عن الاتجاه العقلي في التفسير ، ونقد الخطاب الديني ، ومفهوم النص وإشكاليات القراءة والتأويل ، فضلا عن عشرات المقالات، وقبل هذا وذاك إسهامه كمحاضر أكاديمي بجامعته الأم "القاهرة " وجامعات أخري ..

لا يمكن اختزال منهج نصر أبو زيد في كونه منفتحا علي الآخر، أو مقدسا لسلطة العقل باعتباره مناط التكليف فقط ، فقد بني الرجل ــ أو حاول ــ منهجا متكاملا لإعادة قراءة ومساءلة التراث، مستفيدا مما تركه المعتزلة ، وابن عربي تحديدا، واضعا "سلطة النص في مواجهة العقل" كما عنون أحد مقالاته.

وقدم نصر مقدمة لـ"منهج إسلامي جديد للتأويل" بدأه بطرح إشكالية تعريف الكلام الإلهي وعلاقته بالذات الإلهية ، وهي الإشكالية التي حفظها التاريخ باسم مشكلة أو محنة "خلق القرآن"، وهي الفكرة التي دافع عنها المعتزلة ودفعوا أثمانا باهظة من أجلها.

واعتبر نصر أن خلوص الحاكم والمجتمع الإسلامي في القرن الثالث الهجري إلي اعتبار عقيدة خلق القرآن بدعة وربما هرطقة، مقابل الانتصار لفكرة أن القرآن أزلي ، هو أول قرار سياسي بإغلاق باب الاجتهاد.

كما اعتبر أن غياب النقاش العلمي حول قضايا الفكر الديني كان ــ علي الأقل ــ أحد عوامل السقوط الثاني لبغداد ، مكنيا عن سقوط منظومة حضارية كاملة ..

رصد نصر أبو زيد في منهجه محاولات التجديد، وما شابها من أخطاء او عثرات، وتوقف عند الإمام محمد عبده "صاحب المحاولة الوحيدة في التاريخ الإسلامي الحديث لصياغة لاهوت إسلامي " حسب تعبيره .

ورفض نصر ما اعتبره "منهجا نفعيا في فهم النصوص الدينية" وحاور وناظر كثيرين علي شاطئ الفهم الآخر كالدكتور عمارة والمهندس محمد شحرور صاحب كتاب "الكتاب والقرآن"  الذي جمعه به سجال فكري دار أغلبه علي صفحات مجلة أدب ونقد .

كان من الممكن أن تستمر الرحلة الفكرية لمجدد بحجم "أبو زيد" أكاديمية، أو في دوائر أكثر اتساعا عبر الصحف والميديا ، من دون أزمات وفي إطارها كمجادلات فكرية، يصنف الكتب، وينشر المقالات ، ويحصد جوائز أكاديمية وفكرية متنوعة ، لولا محنة "التفريق " التي ألحقته بأساتذته من معتزلة القرن الثالث، حيث تقدم في العام 1993 ببحث للترقي إلي درجة الأستاذية، رأي فيه الدكتور عبدالصبور شاهين عضو لجنة الترقيات أنه "كفر"، فقامت الدنيا ولم تقعد ، ورفع محام ما دعوي تفريق نصر عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس، ليقضي قاض أسقط التاريخ اسمه بتفريقهما، وتتسارع الأحداث ليجد الدكتور نصر نفسه مضطرا لمغادرة الوطن، والتنقل بين مناف أبرزها هولندا التي احتل في جامعتها مقعدا يحمل اسم "ابن رشد" أحد فلاسفة التنوير في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وصاحب محنة أخري مع الجمود الفكري ..

في المنفي أصيب أبو زيد بفيروس غريب ــ أهو اليأس أو الحنين ؟!ــ ليعود إلي الوطن مثقلا بالمرض والأمل ، ويرحل بعد أسبوعين فقط إلي حيث لا يمكن لأحد منع أفكاره من التحليق.

--------------------

مراجع:

- المعلومات الواردة في البورتريه عن  بداياته المبكرة من مقال لنصر أبو زيد بعنوان حياتي  نشره عام 2000 في مجلة أبواب.