الخميس 25 ابريل 2024

الفلسفة.. الفلسفة كما يجب أنّ تُفهم (1)

مقالات3-8-2022 | 23:33

انتهينا في مقالنا السابق الذي حمل عنوان "مقال في حب القراءة والثقافة الجادة"، عند تساؤل، هل كل أنواع الكتب والمعارف تضمن لنا المعرفة الحقة؟ هل يوجد علم دون آخر أستطيع ان استثمر فيه وقت الفراغ، كي أخرج منه بمعرفة سليمة وصادقة؟ سنُجيب على هذان السؤلان بالترتيب. أما التساؤل الأول، بالطبع لا، ولكن يوجد علم دون آخر يكون هو مفتاح العلوم جمعاء. أما التساؤل الثاني، نعم يوجد علم أستطيع أن استثمر فيه وقت الفراغ، وأن أخرج منه بمحصلة معرفية وثقافية لا بأس بها. وهاتان الإجابتان تقودنا لتساؤل ثالث وهو، من يكون هذا العلم القادر على أن يكون مفتاح للعلوم، وفي نفس الوقت أستطيع أن أخرج منه بمحصلة ثقافية مفهومه ومبسطة؟ هذا العلم هو الفلسفة، ولك أن تَعَرِف عزيز القارئ أن الفلسفة هي أحد فروع العلوم الإنسانية، بل هي أهم وأشمل فرع من العلوم الإنسانية، إن الفلسفة هي أم العلوم.

لذلك أردنا أن يكون موضوع مقالنا هذا هو معرفة بسيطة ومفهومه وتطبيقية عن هذا الفرع المعرفي الزخم، بعيداً عن النظريات الفلسفية بصورة مُقته، حتى نتمكن من الوقوف على فهم صحيح وسليم عن الفلسفة بعيداً عن اقاويل من أساؤوا فهمها. ولكي نتمكن من استكمال هذه الفهم سنجعل موضوع المقالات القادم تخص الفلسفة من ناحية فهمها وربطها بالوقع ومساعدتنا في شؤن الحياة. حتى نستطيع ان نقف امام دعاوى القائلين بأن الفلسفة في منأى عن الواقع والحياة.

لنكن واقعيّين! هذه هي العبارة الرائجة بيننا في هذه الأيام، وهي تدل على أننا أخذنا نفيق من سباتنا الطويل، ونطّرح أوهامنا المضلّلة، وندرك أهمية الواقع. ولكن الاهتمام بالواقع لا يفيد أو يحقق الغاية منه إلا إذا كان أساسه دراسة الواقع من طريق الملاحظة والمقارنة والاستنباط والتجربة في سبيل فهمه على الوجه الصحيح.

والسؤال الآن، هل عُنى أحدنا عناية جدّية بمثل هذه الدراسة؟ ولنتساءل أيضًا، ما هي هذه الدراسة التي تستطيع تقييم الواقع تقيماً سليماً بعيداً عن التجاوزات والساذجات؟
الفلسفة، الفلسفة وحدها هي من تستطيع ان تقدم لنا دراسة جادة وصادقة عن الواقع، لقد استطاع الانسان بواسطة الفلسفة أن يتغلب على استبداد الاقدار به، وسيطرة الخرافات على ذهنه، وتهديد الطبيعة لمقومات حياته. وهو بسبيل التمكن من غلبته على الاستعباد الطبيعي والبشري بألوانه كافة دون أن تكون لمصادفات القدر، ونزوات البشر أيه هيمنة عليه. حتى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، اهتمت الفلسفة بالمسائل السياسية والاجتماعية دون أن يميز أحد بشكل قاطع بين "التأمل الفلسفي" و"البرهان العلمي". 

من المُعتقد عادة أن دراسة الفلسفة هي شيء كثير الصعوبة ولا يضيف شيء جديد للواقع. ولا ننكرأبداً الصعوبات التي تعترض كل دراسة بصورة عامة ودراسة الفلسفة بصورة خاصة، ولكن هذه الصعوبات قابلة تماماً للذليل، إذ تنجم عن كونها تتحدث عن أشياء جديدة بالنسبة للكثير من القراء.

كلمة فلسفة.. لا تُوحي قد لأول وهلة بالثقة عند الكثيرين خصوصاً من بين الكادحين؛ لأنهم يعتقدون أن الفيلسوف شخص يحلق بأفكاره في الفضاء دون أن تكون قدماه راسختين على الأرض، كما أن (التفلسف) في تصورهم ضرب من التلاعب بالأفكار تخصص فيه بعض المطلعين على أسراره، ولا يعني على الإطلاق الذين يعيشون من عرق جبينهم.

أما كلمة فيلسوف.. تعني في الاستعمال الشائع، أما ذاك الإنسان الذي يغرق في الخيال أو الذي يأخذ الأمور بتفاؤل، ذاك الذي "لا يحمل هما"، والحال ان العكس هو الصحيح، فالفيلسوف هو ذاك الذي يريد إيجاد أجوبة دقيقة لبعض الأسئلة، وإذا كنا نعتبر ان الفلسفة تريد إعطاء تفسير لمشاكل الكون، (كيف وجد العالم؟ وإلى اين المصير؟) فذلك يعني أن الفيلسوف يهتم بكثير من الأشياء وانه عكس ما شاع، "يحمل هماً كبيراً".

كما أكد هذا أيضاً الفيلسوف التنويري "روجيه بول دروا" قائلاً: " غالباً، ما ثير كلمة "فلسفة" الرهبة، إذ نتخيل أن الأسئلة التي تطرحها مُعقدة للغاية بشكل رهيب، وأن مفرداتها غامضة، وكتب الفلسفة لا نفهم حتى عناوينها، إنها عالم مستقل بذاته، قاصر على بعض المتخصصين النادرين، الذين ربما يبدون أشبه بكائنات فضائية. باختصار ليست الفلسفة نشاطاً متاحاً للجميع، وقد نخطيْ إذا ما اعتقدنا ذلك".

عزيزي القارئ، إن الفلسفة الحقيقة السلمية والتي تستحق لقبها، هي الفلسفة النابعة من أسفل أي من الأرض، فلسفة تأتي من تقدم العمل الذي يدرس ظواهر الطبيعة ليخضع قواها لصالح الإنسان، فأنا مقتنع أشد الاقتناع بأن الفكر يرتبط بالجهد ارتباطاً لا ينفصم ولستُ من أنصار الفكر الذي يقعد أصحابه أو ينزرون بلا حراك. وبحسب اجماع المُشتغلين بالفلسفة: "إن الفلسفة تريد شرح الكون والطبيعة، وأنها دراسة المشكلات الأكثر عمومية، لأن المشكلات الأقل عمومية تدرسها العلوم، فالفلسفة إذن هي امتداد للعلوم بمعنى انها ترتكز عليها وتتعلق بها".

إن الفلسفة سلاح من أسلحة معركة الفكر والتنوير والثقافة الجادة الحاقة، ولكننا في حاجة إلى الفلسفة من نوع معين، فلسفة تُعلنا معاني الكفاح والتضحية تجعله يؤمن بإمكانيات الواقع وتحيي آمال المستقبل في نفسه وتبت فيه الثقة في حتمية النصر.

كانت الفلسفة تعنى عند اليونان (حب المعرفة)، وهذا هو المعنى الدقيق لكلمة (فيلوسوفيا) أي (حب المعرفة)، التي اشتقت منها كلمة فلسفة، والمعرفة تعني معرفة (العالم والإنسان)، ولذل تمكن الإنسان بواسطة هذه المعرفة أي (الفلسفة) من إيضاح قواعد العمل الإنساني وتحديد موقف معين من الحياة، والحكيم هو الذي يتصرف في كل الأمور وفقاً لمثل هذه القواعد التي تقوم على معرفة العالم والإنسان. وظلت الفلسفة قائمة منذ ذلك العصر؛ لأنها تعبر عن حاجة، وكثيراً ما تعطي هذه الكلمة معاني مختلفة، ولكن أكثر هذه المعاني ثباتاً هو الفلسفة مفهوم (تصور باللغة التقليدية للفلسفة) شامل للعالم يمكن أن نستنبط منه طريقة معينة في السلوك. 

الفلسفة ليست عملاً شاقاً ولا نشاطاً طبيعياً وتلقائياً، إذ نستطيع أن نمارسها على مستويات عدة، كما نعزف الموسيقى او نلعب رياضة أو نحل الرياضيات، بوصفنا مبتدئين، أو ممارسين، أو هاوين، أو محترفين. إن الفلسفة في ابسط معانيها هي "شكلاً من التفكير والبحث عن الحقائق ومطاردة الأوهام".

وقبل أن انتقل إلى نهاية مقلنا هذا، اسوق لكم كلمة الفلسفة ومقابلها في اللغتين اليونانية والإنجليزية، حتى تتمكن اعيينا من معرفة شكل الرسمان اليوناني وهو Φίλοςσοφία، أما الإنجليزي وهو philosophy، وخاصة الرسم اليوناني، وذلك طبقاً لِمَا ذكرناه آنفاً ان الفلسفة تُعرف في معناها الشائع بحب الحكمة أو المعرفة ونرد هذا إلى اليونان. 

وفي الختام، ما يهمنا هنا هو أن نبدأ، بعيداً عن الأوهام، الأحكام المسبقة أو الرؤى الضبابية. نبدأ في قراءة وفهم هذا العلم، الذي بفضله نستطيع قراءة الماضي ومواكبة الحاضر واستشراف المستقبل. والسؤال الذي يثور بداخلنا الآن، هل نستطيع بقراءة الفلسفة أن نصل لرؤية حقيقية للواقع، لا تحمل شوائب تطمس معالم الواقع، وتمنحنا ترتيب جيد للمستقبل، ام ينقصنا وسيط بيننا وبين قراءة وفهم الفلسفة حتى نصل إلى هذه الرؤية وذلِك الترتيب؟ سيكون هذا هو موضوع مقالنا القادم.

Dr.Randa
Dr.Radwa