كان لا بد لقيام نهضة علمية من تجاوز نظرة أرسطو إلى الطبيعة. فلقد كانت الطبيعة فى نظره نسيجًا من الجواهر والصور والكيفيات، وكان الغرض من العلم هو تصنيف هذه الصور، والكشف عن علل ظهورها واختفائها. وكان العلم بكل مقوماته (الجواهر، الصور، العلل) ثابتًا بثبات الطبيعة ذاتها. وهكذا كانت العقلية العلمية جامدة لا تنشد أى تغيير فى الطبيعة أو أى تقدم علمى. وكان ارتباط العقل بالطبيعة الثابتة وبكيفياتها سببًا فى ضيق الأفق الذى اتسمت به هذه العقلية. ذلك لأن اعتماد الإنسان على حواسه المجردة قد جعله ينظر إلى الطبيعة فى الحدود الضيقة التى تستشفها هذه الحواس، ولم يكن العلم يستطيع أن يتجاوز هذه المعايير الإنسانية البسيطة والضيقة.
تلك كانت العقلية العلمية الأرسطية التى تجمدت فى "صور" الطبيعة من ناحية، وفى "صور" ألفاظ اللغة من ناحية أخرى. ومما زاد من وطأة هذا الجمود، أنه أضاف إلى البناء العلمى الكيفى، بناءً ميتافيزيقيًا ضخمًا قوامه المبادئ الأولية والجواهر الثابتة والعلل البعيدة. ولقد أُكْمِلَ هذا البناء بفكرة المحرك الأول الذى لا يتحرك، وإنما يحرك العالَم بحركة "العشق" لا كعلة فاعلة، بل كعلة غائية للكون والطبيعة. ويقتضينا الإنصاف أن نقول إن سيادة الفكر الأرسطى طوال ما يقرب من ألفى عام، وتأخر العلم هذه القرون العديدة، لم يكن مسئولية أرسطو المباشرة بقدر ما كان مسئولية أولئك المفكرين والعلماء الذين سلموا تسليمًا أعمى بكل ما قال به أرسطو، ولم يحاولوا فحصه ونقده ومحاولة تجديده.
والأمر الذى يلفت النظر فى ظاهرة الخضوع لسلطة مفكر مثل أرسطو، أن هذا الخضوع كان يتخذ شكل التمجيد، بل التقديس، لشخصية هذا الفيلسوف، ومع ذلك فقد جنى هذا التقديس على أرسطو جناية لا تغتفر: إذ إنه جمده وجعله صنمًا معبودًا، وهو أمر لو كان الفيلسوف نفسه قد شاهده لاستنكره أشد الاستنكار: إذ إن الفيلسوف الحق - وأرسطو كان بالقطع فيلسوفًا حقًا - لا يقبل أن يُتْخَذ تفكيره، مهما بلغ عمقه، وسيلة لتعطيل تفكير الآخرين وشل قدراتهم الإبداعية، بل إن أقصى تكريم للفيلسوف إنما يكون فى عدم تقديسه، وفى تجاوزه، لأن هذا التجاوز يدل على أنه أدى رسالته فى إثارة عقولنا إلى التفكير المستقل على الوجه الأكمل.
وإذا كان الفكر الإغريقي قد عنى عناية خاصة بالعلة الصورية، فإن الفكر الوسيط كان أكثر عناية واهتمامًا بالعلة الفاعلة. وذلك لأن الديانات المنزلة قد جاءت بفكرة الخلق من العدم، وعملية الخلق والإيجاد تستلزم بالضرورة علة فاعلة. أما العلة الغائية فقد قل الاهتمام بها فى مجال العلم الطبيعى. كما أصبحت العلل الميتافيزيقية فى العصور الوسطى هى المقدمات الضرورية للعلم، مما أدى إلى إضعاف جانب التجربة أمام الجانب الميتافيزيقى.
وإذا كان فلاسفة اليونان، وعلى رأسهم أرسطو، قد استخفوا بالتفكير العلمى التجريبى، فإنهم - من ناحية أخرى - كادوا أن يبلغوا حد الكمال فى العلوم التى تستند إلى النظر العقلى المجرد، ولا سيما العلوم الصورية (الرياضة والمنطق). لقد بلغوا الأوج فى التفكير الاستنباطى، حتى لتُعَد هندسة إقليدس نموذجًا للتفكير الرياضى الكامل. كما بلغوا الأوج فى التفكير المنطقى، حتى لقد جاء ما كتبه أرسطو فى ذلك بداية أوشكت - لما بلغته من درجة بعيدة فى دقة التفكير - أن تكون هى النهاية أيضًا، لولا أن قيض الله للمنطق رجالاً بعثوه بعثًا جديدًا، يبشر بالتطور والنماء السريعين.
إن حرص اليونانيين القدماء على أن تظل العلوم العقلية محتفظة بنقائها، بعيدًا عن أدران العالَم المادى، قد أدى إلى انفصال العلوم الرياضية عن العلم الطبيعى.
وهكذا كان العلم الطبيعى يعانى من الإهمال أولاً، ومن الانصراف عن تطبيق الرياضيات فى صياغة قوانينه ثانيًا، مما أدى - كما ذكرنا - إلى سيادة النظرة "الكيفية" إلى الأشياء. فحين يتحدثون عن خصائص العناصر الطبيعية يصفونها من خلال "كيفيات" فيقولون إنها حارة أو باردة، خفيفة أو ثقيلة. أما التعبير "بالأرقام" عن درجة الحرارة أو الوزن فلم يخطر ببالهم، لأن الرياضة فى نظرهم لها عالمها الرفيع الذى لا ينبغى أن يقترب من عالَم الأشياء الأرضية. ولا شك أن هذه النظرة "الكيفية" إلى الطبيعة كانت تعنى تخلفًا تامًا فى العلوم التجريبية، فلا غرابة فى ألا يبدأ بحث الطبيعة بحثًا علميًا دقيقًا إلا بعد انقضاء عصر الحضارة اليونانية بقرون عديدة.
لقد نجحت المجتمعات الحديثة في تجاوز هذه النظرة المتخلفة للعلم، في حين أن كثيرًا من شعوب مجتمعاتنا العربية ما زالت متمسكة بهذا التصور المتخلف للعلم، إذ راجت بعض المعتقدات الدينية التى أسقطت من حسابها كل التطورات العلمية الحديثة، وظلت متمسكة بصورة العلم التي سادت العصور الوسطى. إن ضيق الأفق، والقفز على ما أنجزه العلم خلال مئات السنين الماضية، هو الذى مازال يصور للبعض أن «الأرض هى مركز الكون»، ليس هذا فحسب، بل إن هذا البعض يصل به الشطط إلى حد القول «إن مكة هى مركز الكون»!! إن الهم الأكبر لبعض الدعاة الذين يتاجرون بالدين هو مخاطبة الناس عن عذاب القبر و«الثعبان الأقرع».
المشكلة أنهم يلصقون تخلفهم بالإسلام، وإذا حاربت تخلفهم يتهمونك بأنك تحارب الإسلام، ولأن تصورهم للكون قاصر، فهم لا يرون فى الكون سوى المجموعة الشمسية والأرض مركزها، ويبنون تصورهم الدينى على هذا التصور العلمى القاصر، ومن ثمَّ اعتقدوا وهمًا أن الله هذا الخالق العظيم لا يشغله شىء سوى هذا الكوكب ضئيل الشأن المسمى «الأرض»، ولا يؤرقه أمر سوى ما يفعله هذا الكائن الضئيل للغاية المسمى «إنسان». تصور علمى قاصر يترتب عليه تصور دينى مضلل. الله أعظم مما تتصورون، وكذلك الدين أيها المتربحون.