الثلاثاء 23 ابريل 2024

بلاغة الزمن في خطابات التنصيب الرئاسي من السادات الى السيسي (1)

مقالات29-8-2022 | 18:07

تعد خُطَبُ التنصيب - تلك الخُطَبُ التي يقدم من خلالها الرؤساء والملوك أنفسهم للشعب- خارطة طريق بين الحاكم والمحكوم، ومانفستو  manifesto (البيان الرسمي) يصوغ فيه الحاكم آليات حكمه وسياساته تجاه الشعب، طارحًا فيها طموحاته وآماله وتحدياته، وشارحًا ثلاثية الزمن التي لم تفتأ أن تتغير (الماضي والحاضر والمستقبل)، يسرد الأحداث التي انطوي عليها التاريخ والتي دفعته للصعود، فالتاريخُ مسارُ الحاضر والطريقُ إلي المستقبل من خلال الطموحات.

ولما كان التاريخ والحاضر والمستقبل هى ثلاثية خطابات التنصيب؛ فإن الأحداث التي مرت بها مصر منذ ثورة 23 يوليو1952 وصولًا إلي ثورة 30 يونيو 2013 تكاد تكون متشابهة، فقد أطاحت ثورة 23 يوليو بالملكية التي استمرت منذ تولي محمد علي حكم مصر 1805 حتي نهاية الملك فاروق 1952، اكتنف هذه الفترة احتلالٌ ومَلَكِيَة، وصعود وهبوط للتيارات الثورية ضد الاحتلال تارةً وضد الفساد أخريات دافعةً باللواء محمد نجيب إلي سُدَة الحكم، أعقب ذلك صراعًا علي الحكم بين محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة؛  حيث تولي جمال عبد الناصر الحكم لمدة يومين عقب استقالة محمد نجيب 25 فبراير 1954 إلي 27 فبراير 1954، وما لبث أن عاد نجيب للحكم 27 فبراير 1954 إلي 14 نوفمبر 1954 بقوة دافعة من الشعب، وفي 14 نوفمبر 1954 عزل مجلس قيادة الثورة محمد نجيب من جميع المناصب التي يشغلها، على أن يبقى منصب رئيس الجمهورية شاغرًا، مع استمرار مجلس قيادة الثورة بقيادة جمال عبد الناصر في تولي كافة سلطاته. وفي 25 يونيو 1954، اختير جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية، طبقاً للاستفتاء الذي أجري في 23 يونيو 1954.

بيد أننا لم نجد خطابًا سياسيًا لعبد الناصر موجهًا إلي الشعب في هذه الفترة؛ إذ تداخلت فترة حكمه في تأميم قناة السويس، وما تلاها من تكالب الدول الاستعمارية علي مصر وحروب العدوان الثلاثي 1956 ، وسياسات عبد الناصر تجاه الوحدة مع سوريا، وما تلاها من حرب اليمن، ثم نكسة 1967، ووافته المنية في عام 1970 ليترك الحكم للسادات الذي تولى حكم مصر في فترة عصيبة يري الشعب أنه لا يوجد من يسد الفراغ السياسي لعبد الناصر الذي كان يحاط بهالة من التقديس والكاريزما في آن واحد، كما أن الشعب طالب بالثأر من إسرائيل، فينتصر السادات ويكسر قاعدة كاريزما عبد الناصر الذي لن يتكرر، ويُغتال السادات في ذكري انتصارات أكتوبر عام 1981، أعقب ذلك محمد حسني مبارك الذي ظل يحكم مصر لمدة ثلاثين عامًا أخطأ وأصاب، وقامت الثورة عليه بدعوي الفساد والتوريث وتزوير انتخابات مجلس الشعب.

وجاءت ثورة 25 يناير2011 - أيًا كانت تسمياتها- علي نظام الرئيس محمد حسني مبارك مُظْهِرَةً العَوار السياسي الذي فرّغ المضمون السياسي من وجود بديل سياسي متفق عليه ووجود حزب يتلقف الراية في حال سقوط الحزب الوطني، فتمت المزايدات السياسية، واستغلت جماعة الاخوان الفراغ السياسي لتسيطر علي حلبة الحكم في مصر بذراعيه: التشريعي (مجلس الشعب) والسياسي (رئيس الدولة) الذي انقسمت في عهده البلاد والصفوف بين مؤيد ومعارض ومغلوب علي أمره، ثم جاءت ثورةُ 30 يونيو 2013 بعهدٍ جديد.

لكل عهد من هذه العهود ماضٍ أليم ورث تركته، وحاضرٍ يريد أن يعالجه، ومستقبلٍ يريد أن يرسمه، ولما كان الخطاب ينطوي علي جانب بلاغي (إقناعي)، فإن كل رئيس يتباين في تقديم نفسه من خلال اظهار أخطاء الماضي أو تجاهلها، أو التعامل مع الحاضر أو رؤيته للمستقبل.

في هذا الإطار قامت الباحثة د. حنان عبد الوهاب عبد الحميد الأستاذ المساعد بالمعهد العالي للإعلام وفنون الاتصال بالسادس من أكتوبر بتحديد إشكاليتها البحثية من خلال البناء علي التراث العلمي السابق، وسد الفجوة المعرفية التي أفضت إلي قطيعةٍ معرفية في تحليل الخطاب الغربي (التيار الأنجلو-سكسونية| خطاب هاليداي) المتمثلة في الدراسات اللغوية للخطاب، والتيار النقدي (تيار مدرسة فرانكفورت وخطابها النقدي | خطاب ( فيركليف ) الذي يركز على الأيديولوجية ثم التيار الإسكندنافي (الخطاب الهولندي فان ديك) المتمثلة في المدرسة المعرفية للخطاب.

ومن ثم تأتي الإشكالية البحثية في محاولة لتجميع المدارس الثلاث في نقطة التقاء والبعد عن الافتراق في تأكيدهم علي ثلاثية الزمن (الماضي والحاضر والمستقبل)؛ فالمدرسة اللغوية الخاصة بهاليداي لا يمكن لها أن تتجاهل الزمن لأنه يشكل البنية الزمنية للأفعال الماضي والمضارع والمستقبل، وعلي المنوال نفسه لا يمكن للمدرسة النقدية (مدرسة فيركليف) أن تتجاهل الرواسب التاريخية للأيديولوجية في تأكيدها على الصراع بين قوي الماضي والحاضر والمستقبل، والكشف عن الهيمنة والتشققات والتصدعات الخطابية وأثرها الماضي ورواسبها التاريخية علي الحاضر، أما الخطاب المعرفي لفان ديك فإنه يركز علي الخبرة المعرفية ودورها في بناء المعني الذي تتشكل من الماضي وتتأثر بالحاضر وتؤثر في المستقبل، ويتم جمع شتات الثلاثية المنهجية من خلال نظرية "فعل القول" التي بني عليها الإطار التنظيري.

وتأسيسًا علي البنية المنهجية والنظرية يأتي الجانب الموضوعي للدراسة المتمثل في خُطَبِ التنصيب التي يصوغ فيه الحاكم آليات حكمه وسياساته تجاه الشعب، طارحًا فيها طموحاته وآماله وتحدياته وشارحًا ثلاثية الزمن وموقفه ممن سبقه، والظروف والملابسات الحالية وتحديات وطموحات المستقبل، وبناءً علي ما سبق تحددت المشكلة البحثية في: البلاغة الخطابية لثلاثية الزمن في خطابات التنصيب الرئاسي في مصر من محمد أنور السادات إلى عبد الفتاح السيسي.

وترجع أهمية الدراسة إلي التكاملية المعرفية؛ فهذه الدراسة تنتهج ما يُطلق عليه منهجية "التثليث" tertiary methodology  أو ما يُطلق عليه المقاربات البينية interdisciplinary approaches التي تربط ثلاثية اللغة والسياسة والاتصال، حيث يتم النظر إلي اللغة بوصفها المنتج الخطابي) حيث تتقاطع مع المُعْطَي السياسي (الظروف السياسية التي ساهمت في إنتاج الخطاب) وتضمن في الظرف الاتصالي (التقديم والتأخير| والإضمار والإعلام| والحذف والتضمين| للمضمون التي يطلق عليها تكنيكيات المراوغة الخطابية).

علاوة على رأب الصدع بين التشققات التباينات- المنهجية بين الدراسات الخطابية المتمثلة في المدرسة الهولندية (فان ديك) والألمانية فيركليف والأنجلوسكسونية (هاليداي) من خلال الإلتقاء حول ثلاثية الزمن (الماضي- الحاضر والمستقبل)، فضلًا عن ذلك تتجلي أهمية الدراسة في التأكيد علي أهمية البحوث الكيفية في نقل المعاني والدلالات المسكوت عنها والتي يصعب نقلها عبر التحليل الكمي، ومن ثم التأكيد علي الفهم.

وقد استهدفت الدراسة الكشف عن التنافر أو التقارب الخطابي فيما يتصل بثلاثية الزمن وفقًا للتقارب أو التنافر الأيديولوجي بين (خطابات الافتتاحية الأربع ( السادات ومبارك ومرسي والسيسي)  فيما يتصل بالخطاب النقدي (فيركليف)، والكشف عن البني المعرفية والخلفية والخبرة السياسية لمنتج الخطابات الأربع (السادات ومبارك ومرسي والسيسي) وأثرها في تقديم المنتج الخطابي وفقًا لخطاب "فان ديك"، ورصد الأنساق اللغوية الخاصة بالذات (أنا/نحن) والآخر(هم)، وأثرها في بناء الدلالات الخطابية وفقًا لخطاب "فان ديك"، والكشف عن الخطاب الارتدادي prospective Discourse  introspective perspective، ورصد كيفية توظيف الخطابات الأربع (السادات ومبارك ومرسي والسيسي) النزعة البراجماتية في استقطاب الجماهير لخطابها السياسي.

وقد تبنت هذه الدراسة المنهج التكاملي في دراسة تحليل الخطاب ثلاثي الأبعاد، وذلك من خلال تحليل الأبعاد اللغوية والمعرفية والنقدية للخطاب رغبة في الاستفادة القصوي من إمكانات كل منظور وتجنب القصور في أحدها.

وحددت عينة الدراسة إطارها العام أو ما يُطلق عليه إطار العينة؛ حيث كان موضوع الدراسة البلاغة الخطابية ينصرف إلي تحليل البني الإقناعية للخطاب من خلال تدعيمه بثلاثية الزمان (الحاضر والماضي والمستقبل) بغية تصنيف الحجج والأدلة التي يرتكز عليها كاتب / مُنتج الخطاب في تقديم نفسه للجمهور، خاصةً في الخطابات الافتتاحية التي تعد البيان التوضيحى لسياسات الرئيس في بداية حكمه.

أما العينة الزمنية للدراسة فقد تم اختيار جميع الخطابات للرؤساء المصريين من ثورة يوليو 1952 حتي تولي الرئيس السيسي رئاسة مصر، ولكن بالبحث في الأدلة والمصادر لم يتم تقديم خطاب افتتاحي أو ما يطلق عليه خطاب التتويج عند كل من الرئيس محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر العربية، ولم يتم العثور أيضًا علي أول خطاب افتتاحي لعبد الناصر يوضح سياساته خلفًا لمحمد نجيب، وربما يرجع السبب في ذلك إلي الفترة الزمنية المصاحبة لتولي محمد نجيب عقب تنحي الملك فاروق عن الحكم ثم تركه للحكم إلي وصاية ابنه وما تخلل ذلك من عدم استقرار دستوري وسياسي، وعلي المنوال نفسه فإن فترة تولي جمال عبد الناصر كانت فترة مد وجزر بين مجلس قيادة الثورة بقيادة عبد الناصر والرئيس محمد نجيب؛ مما جعل مجلس قيادة الثورة يجرد الرئيس محمد نجيب من منصب رئاسة الجمهورية، ويجعل الرئاسة في مجلس قيادة الثورة بقيادة جمال عبد الناصر، فقد حالت هذه الظروف السياسية والدستورية من وجهه نظرنا في خروج خطاب سياسي يتصل بتولي الحكم.

 وفي المقابل لم يكن هنالك تقدم في الوسائل الإعلامية لطرح الخطاب السياسي، فقد كانت الصحف والإذاعة هما الوسيلتان المسيطرتان في تلك الفترة، وأن كنا ندعم الفرضية الأولي على الفرضية الثانية، أي أن الأسباب الدستورية والسياسية هي التي أحالت دون ظهور الخطابيْن الافتتاحييْن لجمال عبد الناصر ومحمد نجيب.

وعلي هذا الأساس، تم تحديد الدراسة الزمنية في خطب الرئيس محمد أنور السادات أمام مجلس الأمة في 7 أكتوبر 1970، ثم خطاب محمد حسني مبارك، ثم خطاب محمد مرسي العياط في ميدان التحرير، ثم خطاب عبد الفتاح السيسي. ولم يتم تناول الخطابات الانتقالية الخاصة بصوفى أبو طالب الذى كان رئيسا لمجلس الشعب وشغل منصب رئيس الجمهورية بعد اغتيال السادات لمدة 8 أيام في الفترة من 6 أكتوبر الى 14 أكتوبر 1981 أو المجلس العسكري، أو المستشار عدلي منصور، فلم يتأسس عليها نظام حكم ولكن جاءت في معظمها تسيير للأعمال وخطابات دستورية. أما فيما يخص المجال المكاني لجمع العينة فقد تم جمع الخطاب من خلال الكلمات المفتاحية عبر الإنترنت، وكذلك اعتمدنا بشكلٍ أساسي على الخطب المكتوبة.

وفي الأسبوع القادم نعرض نتائج هذه الدراسة المهمة.

 

 

 

 

 

Dr.Randa
Dr.Radwa