السبت 27 يوليو 2024

الإرهاب المتأسلم وفكاكه (6 - 6)

مقالات15-9-2022 | 18:13

إذا ما كانت الرؤى النظرية غير المتحيزة وتجربة تونس العملية أسقطت طرح أن العمل على المزيد من علمنة المجتمعات الإسلامية سبيل ناجع لهزيمة تطرفها وعنفها، فما هو السبيل إذن لمقاومة الإرهاب المتأسلم؟

الحقيقة أننى لم أقف على مثيل للأسس التى صكها عالم الاجتماع جيمس ثومبسون لمكافحة الإرهاب بشكل عام، رغم مضى زمن طويل على تحديده لها، فوفقاً لرؤيته ينبغى على الحكومات التى تعانى من شروره أن يكون لها هدف سياسى واضح يتمثل فى إنشاء بلد حر ومستقل وموحد ومستقر سياسياً واقتصادياً .

 وأن تعمل وفقاً للقانون ، فاستمرار شرعيتها مرتبط بالتزامها بقواعده التى ارتضاها مواطنيها عن قناعة وطيب خاطر ، وأن يكون لها خطة شاملة وليست أمنية فقط ، وإن تعطى الأولوية لمكافحة الفساد السياسى قبل مكافحة تنظيماته، وأن تعنى بتأمين مناطق وجودها أولاً قبل أن تفكر فى الانقضاض على الإرهابيين .

ولخصوصية الإرهاب المتأسلم ، أضيف بأن يتم الكف عن منازعة الإسلام الذى لا نعرفه عن إدراك سليم إلا استثناءً، فهناك من صنع ببعض الأذهان المسطحة صورة غير حقيقية عنه تضارع ما كان من كهنوت أوروبى بالعصور الوسطى، ومضى يطالب بالعمل على إقصائه أو أقلمته كما فعل الغرب  بدينه وتقدم ، وكل هذا ما هو إلا انعكاس لقياس خاطئ رتب نتائج غير صحيحة ، فالنموذجان غير متطابقان أو حتى متشابهان.

والكف عن المنازعة هنا ينبغى أن تكون ممن يحاولون الاستحواذ عليه من جماعات التشدد والعنف أو ممن  يسعون لإقصائه أو إخضاعه أو مصادرته بشكل أو آخر ، فالإسلام فى أصله كفيل بإقامة المجتمع الذى نأمله شريطة أن نتوقف عن ذبحه على مذابح أغراضنا الدنيوية ، نستدعيه حينما نريد وننفيه عندما نهوى.

أما عن مواجهة الإرهاب على الأرض بالقوة الأمنية والعسكرية ، فيجب أن تعتمد على أصول علمية وخبرات واقعية نظيفة وليس تهويلات أو مزايدات تضاعف من فواعله ، فبكل الأحوال ينبغى ألا تضع الحكومات نفسها موضع الند أو تصنع لنفسها لثأر مع من انحرفوا عن جادة الطريق .

فمآسى الإرهاب وجرائمه يجب ألا تُفقدها مكانتها الفوقية أو تدفعها لمواجهات عشوائية تقارب ما يكون بمعارك الخمارات ، فعبارة أن العنف لا يولد إلا عنفاً التى ساقها تشارلز ديكنز بروايته "قصة مدينتين" حقيقة ينطق بها الواقع، فالمبالغة فى استخدام القوة أو اللجوء لها بغير ما يناسبها يؤدى لعنف مضاد، فسلاح الإرهاب يجب أن يواجه بسلاح العدالة والفكرة الفاسدة يجب إزالتها بالفكرة الصالحة  .

أما العلمنة، فليست حلا، وإلا ما كان غربيون متأسلمون غارقون بمجتمعات تعلمنت من قرون تورطوا بإرهاب القاعدة وداعش، وفى هذا السياق يقول الفيلسوف الفرنسى مارسيل جوشيه "إن الخروج من سطوة الدين التى هى سطوة مباشرة وشديدة الوضوح، و تسلل العولمة إلى الحياة العملية للبشر فى إطار ظروف اجتماعية وتاريخية معينة يمكن النظر له على أنه انتهاك ثقافى، واعتداء على القيم التقليدية وهو ما قد يؤدى لرد فعل حاد ذى طبيعة دينية " .

فغربنة مجتمعات متجذر فيها الإسلام يضع هويتها بمأزق تتمزق فيه بين ما هو أصيل وما هو وافد ، فتتعطل ماكينات عملها وتستنفذ بدوامات من الصراعات الفكرية السياسية والاجتماعية على نحو يؤدى لتورطها فى العنف، ثم إن العلمنة مفعلة بأشكال مختلفة بمجتمعنا منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً عندما تم تبنى قوانين أوربية تفصل بين الأخلاق والقانون ومع هذا نتخلف ونتراجع .

لكن هذا لا يعنى انقطاعنا عن الغرب أو مخاصمتنا للحداثة بمعناها الصائب وليس كما يحاول البعض ابتسارها وحصرها فى فصل الدين عن الدولة،  فالصراع الثنائى المصنوع بين تراثنا والتنوير والعلم والدين والموروث والوافد ليس به ظل من الحقيقة، فأخذنا بقيم الغرب العلمية والتكنولوجيا والحضارية المتناغمة مع قيمنا وبما أنتجه من نظم مؤسسية تعلى من الحريات السياسية وحقوق الإنسان فى سياقها القويم واجب لا غنى عنه .

الخلاصة أن على من يهاجمون كل ما يتصل بثوابت الإسلام وفروعه بصورة أو بأخرى بدعوى مقاومة الإرهاب المتأسلم البحث عن مبرر آخر، وليكونوا اكثر صراحة مع أنفسهم ومجتمعاتهم ويوضحوا لنا حقيقة نظرتهم لفكرة الدين عموماً وللإسلام تحديداً .