ولدت بالعاصمة البرازيلية برازيليا في القرن الماضي الذي حمل نصف خبراتي التي نشأت عليها، وغادرتها مغادرة نهائية وعمري عاماً واحداً، فلم يتسن لي صناعة الذكريات التي يمكنني الرجوع إليها بضغطة زر، إلا أن الكثير من الصور الملونة قامت بهذا الدور.
هذا، بخلاف ما حدثني عنه والداي عن طبيعة الشعب البرازيلي المُحِبَة للحياة والترفيه والاستمتاع بالوقت بأبسط التفاصيل، فكانوا -ومازالوا- عاشقين لكل أنواع الرقص وعلى رأسها رقصة السامبا البرازيلية الشهيرة، فكانت تقام الكرنفالات على مدار العام في الشوارع لعموم الناس على اختلاف طبقاتهم وفئاتهم، والكل يتشارك فيها الرقص والغناء وارتداء الألوان الزاهية، فلغة الرقص والألوان هي اللغة المشتركة التي تفهمها شعوب القارة اللاتينية.
ثم ساقنا القدر للتواجد بالعديد من العواصم الأوروبية، فتواجدنا لفترة في العاصمة الروسية موسكو التي رأيت بها أعظم طوابير العالم في النظام والاحترام مهما طال زمن الانتظار، واحترام الشيوخ والأطفال، فكنت أنا من أحضر الآيس كريم (الماروجني) لأسرتي في أي مكان، لأن الروس كانوا يقدموني عليهم لصغر سني ولأنهم يقدرون لون بشرتي جداً.
وتلتها فترة إقامة امتدت لسنوات بعدد من المدن الألمانية تعلمت فيها أرقى أنواع النظام الأوروبي شديد الصرامة، والنظام الموحد المطبق على الجميع، بالشكل الذي جعلني أدرك أسباب شدة اعتزاز الشعب الألماني بنفسه مقارنة بباقي شعوب أوروبا والأرض.
بالإضافة إلى ما لاحظته من اتباع معظم الأوروبيين لنظرية الأسقف الزجاجية لتوفير الطاقة، واستغلال ضوء الشمس مهما كان خافتاً لسيطرة شهور المطر والضباب على معظم أوروبا، إلى جانب استغلالهم للساعات الأولى من الصباح في ساعات العمل استغلالاً لضوء الشمس.
وبتوالي زيارة العديد من العواصم الأوروبية، علمت وارتأيت السلوكيات الأوروبية الموحدة في معرفة قيمة الوقت والقدرة على استغلاله، فخلال وجودي بالعاصمة البلجيكية بروكسل منذ سنوات، نهضت مبكراً في الرابعة فجراً لكي ألحق بقطاري العائد إلى العاصمة الإسبانية مدريد، وخلال احتسائي للقليل من مشروبي المصري المفضل (الشاي بلبن) نظرت من النافذة لكي أستمتع بذخات المطر التي لم تتوقف لساعات، وإذ بي أفاجأ بعدد السيارات والمشاة الموجودين بالشارع المظلم الغارق في أمطاره، فالكل متوجه إلى عمله سواء في العاصمة أو خارجها!!
وبعد انتهاء قيامي بأداء فريضة الحج (ما قبل زمن الكورونا)، ثم التوجه إلى المدينة المنورة لزيارة الروضة الشريفة وقبر الرسول عليه الصلاة والسلام، كنت أقوم بتحين فترة السماح للسيدات لزيارة الروضة الشريف، فكان أفضلهم موعد ما بعد منتصف الليل إمتداداً لموعد صلاة الفجر والضحى، ولفت أنظاري أثناء طريق العودة اتجاه كل البائعين إلى محالهم لفتحها وقيام العديد من المصلين بالتوجه إليهم، وانتظام حركة البيع والشراء، بالشكل الذي يوحي ببدء اليوم فعلياً بالتطبيق العملي لقوله تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
هي مقارنات منطقية ومشروعة في ذهني أحملها معي أينما ذهبت، إلا في وطني الجميل المظلوم من أبنائه برغم العطايا الربانية المتعددة العامر بها، وطني ذو الحضارة الزراعية الفنية الثقافية التجارية الفريدة، الذي بات أهله ثم أصبحوا لا هم عاشقون للحياة يملؤنها إعماراً وألواناً وحياة، ولا هم مدركون لقيم الوقت الذي أمرنا الله بحسن استغلالها (عمرك كيف قضيته، وصحتك فيما أفنيتها) فلا ينهضون لإعمار الأرض كما أمرنا الخالق، ولا يقيمون للوقت وزناً من منطلق حسن استغلال كلا العمر والموارد، فلا منا لحقنا بركاب الأوروبيين العمليين العلميين، ولا منا لحقنا بدستور عمل الدين أصل كل تنظيم العلاقات.
فالوقت والحياة هما وجهان لعملة واحدة، ومازلنا لا نعير هذا أو تلك أي قدر من التدبر أو الاهتمام، حتى بوازع تحقيق المنفعة الشخصية، فنستيقظ في منتصف النهار بعد انقضاء أكثر من نصف ساعات اليوم المشمسة المضيئة ربانياً، ونتفاخر بأننا الشعب الساهر إلى آخر ساعات الفجر المظلمة، مستهلكين في ذلك كل الطاقات الكهربائية والبشرية، ومستنكرين على الملتزمين التزامهم، وشاكين باكين من كل فواتير الطاقة من غاز وكهرباء.
فقد حدثنا الرسول الكريم "أن اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم"، وها هو الغرب ينفذ ما أمرنا به من تلقاء نفسه قناعة والتزاماً وتوجهاً جماعياً، لا انصياعاً لأوامر الدين الذي نردده تفاخراً ولا نطبقه قناعة.
فمن منا أولى بالتدبر والتنفيذ؟! ومن منا أولى بالاستغلال الأمثل لمواردنا الطبيعية المجانية؟! فطاقة الشمس وضوءها وانعكاسها على نفوسنا وإنارة كل تفاصيل حياتنا كفيلة بأن تصنع منا وفينا ولنا كل الفوارق التي قد تجعلنا في مصاف الدول المتقدمة بإرادة شعبها لا نظامها وحكومتها.
فاللهم طاقة بشرية تدرك وتقدر طاقتها الشمسية.