الأحد 5 مايو 2024

الرسول الكريم في عيون شعراء غير مسلمين

مسجد

دين ودنيا5-10-2022 | 20:38

د. أحمد فرحات

عرضت قتيلة بنت النضر للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف، فاستوقفته أنشدت قصيدها مدحا وعتابا.. فبكى رسول الله من شعرها حتى ابتلت لحيته من الدموع..

الشاعرة غير مسلمة وتنادي رسول الله باسمه الذي عرف به قبل الإسلام، ونادته بأداة تدل على القرب، ثم مدحته بالأبوين.. فالأم نجيبة في قومها، والأب كريم في نسبه..

دفعت أخلاق الرسول الكريم الشعراء حتى غير المسلمين إلى أن يتوجهوا إليه بالمدح والثناء.. مودة وحبا وشعورا بأنه نموذج إنساني متكامل.. 

وقال ابن كثير إن قصيدة أبو طالب بن عبدالمطلب قصيدة عظيمة بليغة جدا، لا يستطيع يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى منها.

 

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مركز اهتمام الشعراء غير المسلمين، فمدحوا أخلاقه الكريمة، وأثنوا على صفاته، وعددوا مناقب خُلقه، وهم ليسوا مسلمين ولكن أخلاق الرسول جعلتهم يتوجهون إليه صلى الله عليه وسلم على اعتبار أن دينه يدعو إلى مكارم الأخلاق، وكان من الذين مدحوا الرسول-صلى الله عليه وسلم- أمية بن أبي الصلت، وأبو طالب بن عبدالمطلب، وقتيلة بنت النضر بن الحارث، وأبو عزة الجمحي، وغيرهم ممن كانوا لا يدينون بدين الإسلام، ولكنهم أحبوا الرسول الكريم، ووجدوا فيه النموذج الإنساني المتكامل. 

ولكل واحد من هؤلاء سهم في مدح الإسلام ورسول الإسلام؛ فقُتَيْلَةُ بنتُ النَّضْرِ بن علقمة بن كلدة بن مناف بن عبدالدار بلغها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل أبيها صبرا، فَقُتلَ، أدركت الإسلام وأسلمت، وكانت تحت عبدالله بن الحارث الأصغر ابن عبد شمس، وكانت شاعرة محسنة، وقبل أن يشرح الله صدرها للإسلام بلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل أبيها، فقُتِلَ. وقد عرضت قتيلة بنت النضر للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف، فاستوقفته وجذبت رداءه حتى انكشف منكبه، فقالت مادحة معاتبة (الكامل): 

يا رَاكِبًا إنَّ الأثيلَ مَظِنَّةٌ 

من صبْحِ خامسة وأنت موفقُ

 

أَبلِغْ بهِ مَيْتا بأنَّ قصيدةً

  ما إنْ تزالُ بها الرَّكائبُ تخفقُ

 

مِنِّي إليهِ وعَبْرةً مَسْفُوحةً

  جادَتْ لمائحها وأُخرى تخنقُ

 

فَليسمعنّ النَّضرُ إنْ نَاديتُهُ

أمْ كيفَ يَسْمعُ ميتٌ لا ينطقُ

 

ظلّتْ سيوفُ بني أبيهِ تَنُوشُهُ

  للهِ أَرْحَامٌ هناكَ تَشَقَّقُ

 

قَسْرًا يُقادُ إلى المنيّةِ مُتعبًا

  رَسْفَ المقَيّدِ وهو عانٍ موثقُ

 

أَمُحَمَّدٌ وَلأَنْتَ نجلُ نَجِيْبَةٍ

  في قَوْمِهَا وَالفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ

 

مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا 

مَنَّ الفَتَى وَهُوَ المغيظُ المحْنقُ

 

فَالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ تركت قرابةً 

وَأَحَقّهمْ إِنْ كَانَ عِتْقٌ يُعتقُ 

 

لَوْ كُنْتَ قَابلَ فِدْيَةٍ فَلْيُنفقَنْ 

بِأَعَزّ مَا يغلُو به مَا يُنْفَقُ

 

فبكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى اخضلت لحيته وقال: لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه. 

وكان النضر الذي قتله الرسول صلى الله عليه وسلم صبرا من المستهزئين بالرسول وبالإسلام، وكان يقرأ الكتب في أخبار العجم على العرب، ويقول محمد يأتيكم بأخبار عاد وثمود، وأنا آتيكم بأخبار القياصرة والأكاسرة، يريد بذلك القدح في نبوته.

والقصيدة تسير في خطين متوازيين: رثاء الأب، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم. وبين الرثاء والمدح وشائج قربى، فالرثاء في جوهره هو مدح للمتوفى، ولكن المدح هنا مقرون بالعتاب، وطالبا من الممدوح الصفح والعفو والمنة، وهي أمنيات المادح من الممدوح. ولأن المتوفى يمثل ذروة العاطفة لدى المادح فإن الممدوح يمثل أعلى من ذلك، وشرط الإيمان لدى المسلمين أن يكون حب الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى من حب أي إنسان آخر، وهو ما توافر لدى شاعرة غير مسلمة، مما جعل التأثر بكلامها يبلغ الذروة لدى الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى بكى واخضلت لحيته.

تبدأ الشاعرة الأبيات بالنداء غير محدد الاسم، تبعته بجملة خبرية مؤكدة بإن، أي أن النداء-وما يحمله من نبرة عالية الصوت بواسطة ذكر الأداة (يا) - منصب على الخبر المتضمن اسم مكان (الأثيل) وهو مكان مقبرة النضر، وهذا يمنح البيت نبرة حارة وعاطفة ذاتية متأججة، ومشاعر إنسانية ملتهبة وصادقة تجاه الأب الذي يرقد في منطقة نائبة عن الشاعرة، فالمكان الذي يقصده الراكب قد يصل إليه في صباح الليلة الخامسة من السير، ثم ختمت البيت بالدعاء للراكب (وأنت موفق) فكأنها تستجدي الراكب أن يصل إلى مكان القبر لإرسال رسالة إنسانية من ابنته. 

الجهر بمضمون الرسالة متمثل في الأمر المباشر(بلغ)، والبلاغ هنا قد يكون مفيدا لو أنه لحي يسمع ويرى، ولكنها تفاجئ القارئ بأن البلاغ لميت لا هو بسامع ولا براء، ونظرا لأن الميت هو ذروة العاطفة المتأججة فإنه هنا بمثابة الحي المنتظر الرسالة والتحية من أحبائه. ومضمون الرسالة المشار إليها آنفا يكمن في إبلاغ التحية، والتحية هنا حارة وشديدة الخصوصية؛ فالركائب تحمل التحايا للمحبين والمقربين، وما تزال تحملها بقدر حرارتها؛ لأنها تحية خاصة من الابنة التي بثت فيها كثيرا من الشكوى والضجر جعلتها تخفق دائما، ولن تهدأ هذه التحية حتى تصل إلى الأب وهو قابع في قبره. 

ولكن لماذا التحية؟ وما مدلولها؟ أو إن شئت: ما تأويلها؟ 

إن توجيه التحية إلى الأب هنا يحمل دلالتين: الأولى تحية شوق الابنة إلى الأب، وهي تحية صادقة لا بأس بها. والأخرى، هي تحية إعجاب لتحمله الموت صبرا جراء ما حدث له من فعل قد تكون هي نفسها معجبة به. لا سيما إذا علمنا أن أباها كان دائم القدح في نبوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان يشتري كتب الأعاجم فارس والروم، وكتب أهل الحيرة، فيحدث بها أهل مكة، وإذا سمع القرآن أعرض واستهزأ به. وذكر ابن عباس في قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) أنها نزلت في النضر بن الحارث. وهنا أيضا تكون الشاعرة متفقة مع ذاتها لأنها غير مسلمة، وقد كان الكفار أشد الناس تمسكا بمبادئهم وأهوائهم الباطلة. كما كانوا من المنصفين أيضا؛ فقد ذكرت كتب السيرة والسنة حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: جَاءَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ :(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سورة النحل آية 90، قَالَ: أَعِدْ، فَأَعَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً، وَإِنَّ أَعْلاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلُهُ لَمُغْدِقٌ وَمَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ".

وتجيء عبارة (مني إليه) بمثابة الشحنة العاطفية الزائدة من الابنة إلى أبيها، فهي متعلقة بالفعل (بلغ)، أي أنها توصي الراكب أن يبلغ عنها التحية إلى أبيها، وكذلك توصي بإرسال عَبْرتين: الأولى مسفوحة ومنسالة على الخدين رقراقة، والأخرى تحملها في ضميرها النابض بمشاعر الود، حتى كادت تخنقها، من غير أن تنزل. وبين العبرة المهراقة والأخرى المخنوقة تفيض مشاعر البنوة حارة صادقة. وهذه العبرة المخنوقة بين الحلوق لا يكاد يسمعها سوى من كانت له وبه، لذا جأرت بصوت مرتفع لتحدث نفسها في أسلوب تجريدي خالص، وسيلته الأمر والنبر: (فليسمعنّ النضر إن ناديته) لأنه الأب الوحيد القادر على سماع ما لا تستطيع هي الإفصاح عنه، ثم سرعان ما تثوب لرشدها وتفيق من غيها وتقول (أم كيف يسمع ميت لا ينطق؟).

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه.. جملة خبرية بعد أكثر من جملة طلبية إنشائية، وفيها تتحسر على أبيها وما آل إليه مصيره المحتوم، ملقية باللوم على إخوانه الذين وقفوا منه موقف العداء فبدلا من مناصرته والوقوف معه راحوا يضعون منه. ثم أرادت أن تستعطف قومها من المسلمين وتستجدي أرحامها منهم طالبة منهم المؤازرة لكن هيهات فقد قطعت هذه الأواصر. ثم راحت تصف مشهد القتل وصفا يقطر من دمها، وينخر في عظامها كلما تذكرته، فهو يقاد إلى الموت قسرا متعبا، يجرجر قيوده في مشية بطيئة حزينة مؤلمة. وفي لفتة بارعة منها استخدمت الفعل (يقاد) مبنيا للمجهول، ولم تظهر في البيت إلا ما يدل على وصف الطبيعة الإنسانية للبنت التي قتل أبوها صبرا، ولم تبدي سبب قتله ولا الظروف التي قادت إلى قتله، ولعل هذا السلوك الأدبي ما جعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يرق لشعرها، ويتجاوب معه بشكل لافت.   

أما الخط الثاني في القصيدة وهو مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتمثل في أسلوب النداء المعلوم والمحدد، بعكس النداء الأول، ولكي نضع الأمور في نصابها، فالشاعرة غير مسلمة وتنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه الذي عرف به قبل الإسلام، ونادته بواسطة أداة نداء تدل على القرب، ثم مدحته بالأبوين معا، الأم أولا، ثم الأب ثانيا، فالأم نجيبة في قومها، والأب كريم في نسبه، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم مُعَمٌ مُخْوَلٌ، أي كريم الطرفين معا. وفي هذا استعطاف لطيف وتمهيد جيد للممدوح، وفي هذا أيضا اعتراف بالذنب والإقرار به، لأن كريم الطرفين أهل للصفح والمنة. أما جملة النداء فإنها لم تكتمل في البيت الأول وعن طريق التضمين أكملت البيت الثاني (ما كان ضرك لو مننت) وفي هذا أيضا إقرار بالذنب واعتراف بالجريمة؛ لأن صاحب الفضل هو الذي يملك المن والصفح. وتجيء (ربما) هنا للتقليل، لأن العفو عند رسول الله مأمول، وإذا لم يُرْجَ العفو عنده فممن يرجى؟! 

ثم تُذَكّرُهُ صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم ووشائج القربى فيما بينهما، عن طريق ذكر النضر مرة أخرى مقرونا بالقرابة والرحم، وكم من معتد على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وكان نصيبه العفو والسماح والمغفرة، ولعل هذا ما جعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقرر (لا يقتل قرشي بعد هذا صبرا)، ثم يطلق كلمته المؤثرة (لو كنت سمعت شعرها هذا ما قتلته). وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحرا) وفي رواية لحكمة. 

وأما أبو طالب بن عبد المطلب -عم رسول الله- فله قصيدة طويلة، تربو على المائة وأحد عشر بيتا، عدها ابن سلام أبرع ما قال أبو طالب من الشعر، ووصفها بأنها "صحيحة جيدة" وقال ابن كثير إنها: "قصيدة عظيمة بليغة جدا، لا يستطيع يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى منها". 

ولد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وثلاثين سنة، ولما مات عبدالمطلب وصّى بالنبي صلى الله عليه وسلم إليه، فكفله وأحسن تربيته، وسافر به إلى الشام وهو صبي، ولما بعث صلى الله عليه وسلم قام بنصرته وذب عنه من عاداه، ومدحه عدة مدائح. واختلف في إسلامه، قال ابن حجر: رأيت لعلي بن حمزة البصري جزءا جمع فيه شعر أبي طالب، وزعم أنه كان مسلما ومات على الإسلام، وأن الحشويّة تزعم أنه مات كافرا، واستدل لدعواه بما لا دلالة فيه.. انتهى. وما يعنينا في هذا البحث أن أبا طالب كان كافرا وقتما قال هذه القصيدة؛ لأن أحدا لا يستطيع أن يجزم بوفاة أبي طالب على الإسلام أم على الكفر، بل الجزم بقوله هذه القصيدة وهو كافر ما رواه البغدادي في مناسبة هذه القصيدة فأشار إلى أن أبا طالب قالها وهو بالشِّعْب لما اعتزل مع بني هاشم وبني عبدالمطلب قريشا. 

"وسبب دخوله الشِّعْب: أن كفار قريش اتفق رأيهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد أفسد أبناءنا ونساءنا. فقالوا لقومه: خذوا منا دية مضاعفة، ويقتله رجل من غير قريش، وتريحوننا وتريحون أنفسكم! فأبى بنو هاشم من ذلك، وظاهرهم بنو عبدالمطلب. فاجتمع المشركون من قريش على منابذتهم وإخراجهم من مكة إلى الشعب.  

فلما دخلوا الشعب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من المؤمنين أن يخرجوا إلى أرض الحبشة، وكانت متجراً لقريش؛ وكان يثني على النجاشي بأنه لا يظلم عنده أحد. فانطلق عامة من آمن بالله ورسوله إلى الحبشة، ودخل بنو هاشم وبنو عبدالمطلب الشعب مؤمنهم وكافرهم: فالمؤمن ديناً، والكافر حمية. فلما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منعه قومه، أجمعوا على أن لا يبايعوهم ولا يدخلوا إليهم شيئاً من الرفق، وقطعوا عنهم الأسواق، ولم يتركوا طعاماً ولا إداماً إلا بادروا إليه واشتروه، ولا يناكحوهم ولا يقبلوا منهم صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة، وتمادوا على العمل بما فيها من ذلك ثلاث سنين.   

   فاشتد البلاء على بني هاشم ومن معهم، فأجمعوا على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: يا عم، إن ربي قد سلط الأرض على صحيفة قريش فلحستها، إلا ما كان اسماً لله فأبقته. قال: أربك أخبرك بهذا؟ قال: نعم قال: فوالله ما يدخل عليك أحد! ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد بعث الله عليها دابة فلحست ما فيها فإن كان كما يقول فأفيقوا، فلا والله لا نسلمه حتى نموت، وإن كان يقول باطلاً دفعناه إليكم. فقالوا: قد رضينا. ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هذا سحر ابن أخيك! وزادهم ذلك بغياً وعدواناً. فقال أبو طالب: يا معشر قريش، علام نحصر ونحبس؟ وقد بان الأمر وتبين أنكم أهل الظلم والقطيعة! ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة وقال: اللهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا. ثم انصرف إلى الشعب وقال هذه القصيدة. 

أعوذُ بربِّ النَّاسِ من كلِّ طاعنٍ

عَلَيْنا بسوءٍ أوْ مُلِحٌّ بباطلِ

 

كذبتمْ وبيتِ اللهِ نُبْزَى  محمَّداً

ولمَّا نطاعنْ دونهُ ونُناضِلِ

 

ونُسلمُهُ حتَّى نُصرّعَ حولَهُ

ونُذهَلَ عن أبنائنا والحلائلِ

 

وما تَرْكُ قومٍ لا أبا لك سيّداً

يحوطُ الذِّمارَ غير ذرْبٍ مُواكلِ

 

يلوذُ بهِ الهلاكُ من آلِ هاشمٍ

فهمْ عندهُ في نعمةٍ وفواضلِ

 

وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجههِ

ثُمالُ اليتامى عِصمةٌ للأراملِ

 

لَعَمْرِي لَقَدْ كُلِّفْتُ وَجْدًا بأحْمَدَ

وَإِخْوَتِهِ دأب المحبّ المواصلِ 

 

فَلا زَالَ في الدُّنيا جمَالا لأهلِهَا 

وَزينا لمن ولاهُ ذبَّ المشاكلِ 

 

فَمَنْ مِثْلُهُ في النَّاسِ! أيُّ مُؤملٍ 

إِذَا قَاسه الحُكَّامَ أهلُ التَّفَاضُلِ

 

حَلِيْمٌ رَشِيْدٌ عَادِلٌ غيرُ طَائشٍ

يُوَالي إلاها ليسَ عنهُ بذاهِلِ

 

فَأَيَّدَهُ رَبُّ العِبَادِ بنَصْرِهِ 

وَأَظْهَرَ دِيْنًا حَقُّهُ غَيْرُ نَاصِلِ 

 

فَوَاللهِ لَوْلا أَنْ أَجِيءَ بسبة 

تجر عَلَى أَشْيَاخِنَا في المحافِلِ 

 

لَكِنَّا اتّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ 

مِنَ الدَّهْرِ جدا غير قولِ التَّهَازُلِ 

 

وقد علِموا أنَّ ابنَنَا لا مُكذَّبٌ

لدينا ولا يُعنى بقولِ الأباطلِ

 

القصيدة طويلة، ومثبتة في الخزانة والسيرة النبوية، وديوان أبي طالب، وغيرها من أمهات الكتب الأدبية، وتبدأ بقوله: 

خليليَّ ما أذني لأول عاذل

  بصغواء في حق ولا عند باطلِ

 

وقد اخترت منها أبياتا قليلة لتدل على الفكرة، فالقصيدة كلها صورة كلية لرجل دافع عن الإسلام، ورسول الإسلام، منبها أشراف قومه أنه لن يسلمهم محمدا كي لا ينالوا منه. فاستعاذ أبو طالب برب الناس، وبحرم مكة، لأنه يدرك جيدا مكانة الحرم وقدره لدى صناديد قريش، فهم قد تمادوا في ظلمهم لبني هاشم، وعشيرة محمد، وطعنوا بكل سوء، وضيقوا عليهم الأرض، وحاصروهم، وهنا تكمن أهمية تذكيره لهم بحرم مكة، وأنهم سدنة البيت، وما كان يفترض بهم أن يفعلوا ما فعلوه.

لقد بان كذب قريش وافتضح أمرهم، بعدما أعلمهم بقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بشأن الصحيفة التي علقوها على أستار الكعبة، وهنا نجد الشاعر يبدأ البيت الثاني بجملة فعلية (كذبتم) ليدل على استمرار كذبهم وتجدده، ثم يتبعها بقسم غليظ (وبيت الله) ليؤكد عدم ترك محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الفعل المبني للمجهول (نبزى) وفيه (لا) محذوفة كقوله تعالى (تالله تفتؤ) والتقدير تالله لا تفتؤ. 

وهذا أبُو عَزَّة الجُمَحِي  قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 

1-مَنْ مُبَلِّغٌ عَنِّي الرَّسُولَ محمدا 

بِأنّكَ حَقٌّ وَالمليكُ حَمِيدُ

 

2-وَأَنْتَ امْرؤٌ تَدْعُو إلى الحقِّ والهُدَى  

        عليكَ مِنَ اللهِ العظيمِ شَهِيدُ

 

 

3-وأنت امرؤٌ بُوّئتَ فينَا مباءةً         

لها درجاتٌ سَهْلَةٌ وَصُعُودُ

 

 

4-فإنَّكَ مَنْ حَارَبْتَه لمحارَبٌ         

شَقِيّ ومَن سَالمتَه لسعيدُ

 

 

5-ولكنْ إذا ذُكِّرْتُ بدراً وأهلَه    

      تأوّبَ مَا بى حَسْرةٌ وقعودُ

 

 

أما أمية بن أبي الصلت فهو أمية بن عوف بن عقدة بن عنزة بن قسي، وقسي هو ثقيف بن منّبه بن بكر بن هوازن. والدته هي رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف وزوجته هي أم حبيب بنت أبي العاصي، وأخته هي الفارعة التي "قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح الطائف، وكانت ذات لب وعقل وجمال، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعجب بها، وقال لها يوما: هل تحفظين من شعر أخيك شيئا؟ فأخبرته خبره، وما رأت منه، وقصت قصته في شق جوفه وإخراج قلبه، ثم صرفه مكانه، وهو نائم". وعرف بيت أمية بالشعر فوالده شاعر، وكذلك ولداه القاسم وربيعة. 

وكان أمية بن أبي الصلت "داهية من دواهي ثقيف، وثقيف من دهاة العرب، وقد بلغ من اقتداره في نفسه أنه قد كان هَمَّ بادِّعَاء النبوة، وهو يعلم كيف الخصال التي يكون عليها الرجل بها نبيا أو متنبيا إذ اجتمعت له. نعم، حتى ترشح لذلك بطلب الروايات. ودرس الكتب وقد بان عند العرب علامة، ومعروفا بالجولان في البلاد راوية".        

وهذا أمية بن أبي الصلت قد عرف معظم الأديان السابقة على الإسلام، فقيل عنه إنه كان نصرانيا، وقيل يهوديا، وقيل حنيفيا، لكنه لم يُسْلِمْ، بل أسلم شعره، ولم يذق حلاوة الإسلام، ومع ذلك مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (المتقارب): 

لَكَ الحَمدُ والمَنُّ ربَّ العِبا   

    دِ أَنتَ المَليكُ وأَنتَ الحَكَم

 

وَدِنْ دينَ رَبِّكَ حَتّى التُّقَى

واجتَنِبَنَّ الهَوى والضَجَم

 

مُحَمدٌ أَرسَلَهُ بالهُدى

فَعاشَ غَنِياً وَلم يُهتَضَمُ

 

عَطاءٌ مِنَ اللَهِ أُعطيتَه

وخَصَّ بِهِ اللَهُ أَهلَ الحَرَمْ

 

وقَد عَلِموا أَنَّهُ خَيرُهم

وفي بَيتِهِم ذِي النَدى والَكرَمْ

 

كِتاباً مِنَ اللَهِ نَقرأ بِهِ

فَمَن يَعتَريهِ فَقِدْمًا أَثَمْ

 

وإنِّي أذينٌ لَكُم أَنَّهُ

سَيُنجِزُكُم رَبُّكم ما زَعَم

 

 

إبراهيم غضنفر