السبت 27 ابريل 2024

كاترينا مومزن كاشفة علاقة جوته بالإسلام

كاترينا مومزن

ثقافة5-10-2022 | 22:17

دالين صلاحية

لم يقتصر الاهتمام بالإسلام والسيرة النبوية على أقلام المستشرقين الألمان فقط، إذ عبّرت كاتبات ألمانيات عن التقدير والإعجاب من خلال المؤلفات والمقالات والمحاضرات، ونشرن الأبحاث القيمة التي تناولت التراث الإسلامي، والتي توسعت في الدراسات لتشمل الجوانب الاجتماعية والثقافية في الفكر الإسلامي المعاصر، وشغلن منصب أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية في عدة جامعات ألمانية من الراحلة آنه ماري شيمل إلى أنجيليكا نويفرت وجودرون كريمر وسواهن. على أنني سوف أخصص مقالتي للحديث عن الدكتورة كاترينا موموزن التي تعمّقت في أبحاثها عن علاقة أديب ألمانيا الكبير جوته بالإسلام والسيرة النبوية والتراث الأدبي العربي.

 

المستشرقة الألمانية التي منذ 1980 تحمل الجنسية الأمريكية أيضا كاترينا مومزن Katharina Momsen ما زالت حتى كتابة هذه السطور على قيد الحياة، وهي في السنة السابعة والتسعين من عمرها. هي حفيدة المؤرخ الألماني ثيودور مومزن، ولدت في برلين سنة 1925 وفيها درست اللغة العربية والعلوم المتعلقة بالإسلام، ونالت الدكتوراه في جامعتها سنة 1956 بأطروحة عنوانها "جوته وألف ليلة وليلة". ثم بدأت بالتدريس في جامعات ألمانية مختلفة حتى 1970 حيث أصبحت أستاذة جامعية في كندا، وبعد ثلاث سنوات انتقلت إلى أمريكا وظلّت أستاذة في عدة جامعات حتى تقاعدها سنة 1993. 

 

 ومن خلال اهتمامها بجوته وعلاقته بالأدب العربي وبالإسلام وتأثره بهما، جعلت هذه المادة الموضوع الأساسي لعدة كتب ألفّتها. من أبرزها "جوتة والعالم الإسلامي" وهو في الأصل محاضرة ألقتها في جامعة شتوتجارت سنة 1964 ثم توسّعت بها ونشرتها في كتاب سنة 1981، تعددت طبعاته باللغة الألمانية وبلغات عالمية مختلفة. وقد ذكرت فيه "لولا الشرق والعالم العربي الإسلامي لما كان أكبر شعراء ألمانيا ولا نهضة الأدب الألماني في القرن الثامن عشر ما هما عليه من نضج وأهمية".

 

على أن فضل كاترينا مومزن الواضح تجلّى في كتابها المهم "جوته والعالم العربي" الذي أثار انتباه القراء بالألمانية، ثم بلغات عديدة ترجم إليها الكتاب، إلى أهمية العلاقة بين أديب ألمانيا الكبير جوته وبين القرآن الكريم والسيرة النبوية، ومدى تأثره بهما في كتاباته. وقبل أن تظهر مؤلفات كاترينا مومزن، كانت هناك إشارات في الكتابات الألمانية إلى تأثر جوته بالتراث الإسلامي، لكن د. مومزن أماطت اللثام عن الكثير من التفاصيل المجهولة، وأصبحت مؤلفاتها المرجع السند بهذا الصدد.

 

يتألّف كتابها "جوته والعالم العربي" من ثلاثة فصول: علاقة جوته بالأدب الجاهلي، موقف جوته من الإسلام، ما استوحاه جوته من الأدب العربي والإسلامي. والاستعارات التي سأقتبسها منه في مقالتي هذه وأضعها بين مزدوجين هي من الترجمة العربية للكتاب بقلم د. عدنان عباس علي، التي راجعها د. عبدالغفار مكاوي وصدرت في سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية، عدد فبراير 1990 بعد سنتين من صدور الطبعة الألمانية. وفي ختام المقالة لي عودة للحديث عن مساهمة د. عبدالغفار مكاوي الجليلة في ترجمة كتاب جوته "الديوان الشرقي الغربي"، وما أضافه إلى الدراسات التي أنجزتها د. كاترينا مومزن.   

 

تقول مومزن: "لقد أخذ هذا الكتاب على عاتقه مهمّة ملء الفراغ وتقديم عرض شامل لعلاقة جوته بالعالم العربي. والدراسة تسعى إلى الإجابة عن الأسئلة التالية: ماذا قال جوته بشأن العرب وما رأيه فيهم؟ أين هي آثار الأدب العربي في مؤلفاته؟ كيف يمكن تفسير ميل جوته للإسلام وللنبي محمد (صلي الله عليه وسلم)؟ عن سبب إعجابه بالعرب قالت المستشرقة مومزن "إنها أمّة تبني مجدها على تراث موروث وتتمسّك بعادات تعارفت عليها منذ القدم"، وأشارت إلى افتتانه بشعراء المعلّقات وأصالة قريحتهم الشعرية وقدرتهم على التصوّر والتخيّل.  

 

وحين أضاءت كاترينا مومزن على علاقة جوته بالإسلام قالت: "كل الشواهد تدلّ على أنه كان في أعماق وجدانه شديد الاهتمام بالإسلام، وأن معرفته بالقرآن الكريم، بعد الكتاب المقدس، أوثق من معرفته بأيّ كتاب من كتب الديانات الأخرى. ولم يقتصر اهتمامه بالإسلام وتعاطفه معه على مرحلة معيّنة من حياته، بل كان ظاهرة تميّزت بها كل مراحل عمره الطويل. فلقد نظم وهو في الثالثة والعشرين قصيدة رائعة أشاد فيها بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، وحين بلغ السبعين من العمر أعلن على الملأ أنه يعتزم أن يحتفل في خشوع بتلك الليلة المقدسة التي أنزل فيها القرآن على النبي". 

 

وقد كشفت المستشرقة عن مخطوطة اقتبس فيها جوته أربع وعشرين آية من القرآن الكريم ودوّنها بخطه وهي "تكشف عن جوانب من العقيدة الإسلامية كان جوته مهتمّا بها". ومن هذه الآيات ﴿وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربّه قُل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين﴾ (العنكبوت 50). وهذه الآية ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلآهنا وإلآهكم واحد ونحن له مسلمون﴾ (العنكبوت 46) وعلّق عليها جوته بخطّه "ما أروعها". 

 

وكشفت أن الدراسات الإسلامية التي قام بها ألهمته التخطيط لكتابة مسرحية تراجيدية عظيمة عن النبي (ص). ومع أن النص لم يكتمل، فلقد دوّنت منه شذرات ظلّت محفوظة إلى اليوم، وقد تضمّنت "ثناء ومديحا لم يسبق لشاعر ألماني في العصور كلها أن قدّمهما لنبي الإسلام (ص) وقصيدته الشهيرة "نشيد محمد" تعبّر عن مدى الولاء الذي كان الشاعر الشاب يكنّه لشخصية النبي، وهي تصوّره هاديا للبشر في صورة نهر يبدأ بالتدفّق رقيقا هادئا، ثم لا يلبث أن يجيش بكل مطّرد ويتحوّل في عنفوانه إلى سيل عارم. وهي تصوّر اتساع هذا النهر وتعاظم قوته الروحية في زحفها الظافر الرائع لتصبّ أخيرا في البحر المحيط، رمز الألوهية". 

 

ولدى دراسة د. مومزن لأبرز دواوين جوته "الديوان الشرقي الغربي" ذكرت عددا من القصائد التي استلهمت القرآن الكريم، وخير شاهد هو الرباعية التي نظمها قائلا: "لله المشرق، لله المغرب/ والأرض شمالا والأرض جنوبا تسكن آمنة/ بين يديه". وهذه فيها تأثر واضح بالآية 115 من سورة البقرة ﴿ولله المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه الله إن الله واسع عليم﴾. وشرحت كاترينا مومزن أسلوب جوته في كتابة هذه الرباعية فقالت: "من الواضح أنه قد ضمّن البيت الأول الآية القرآنية صراحة، ثم أضاف إليها البيتين الأخيرين جريًا على الأسلوب الذي تعوّد عليه. وحرصا منه على التوسّع في الفكرة المستقاة من الآية القرآنية وتحويلها إلى رباعية شعرية، أضاف إليها الشمال والجنوب رغبة منه في تأكيد أن العالم كلّه يستظلّ بالعناية الإلهية". وفي الرباعية التي صاغ فيها الأبيات التالية "جعل لكم الكواكب والنجوم/ لتهتدوا بها في البرّ والبحر/ لكي تنعموا بزينتها/ وتنظروا دائما إلى السماء" تأثر مباشر بالآية الكريمة ﴿وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصّلنا الآيات لقوم يعملون﴾ (سور الأنعام – 97).  

 

وفي هذا السياق يجدر بنا الإشارة إلى أن الأستاذ الدكتور عبدالغفار مكاوي ترجم "الديوان الشرقي الغربي" كاملا بصياغة رائعة في كتاب عنوانه "النور والفراشة" وشرح فيه رؤية جوته للإسلام والأدبين العربي والفارسي، وقد صدر مرتين عن "دار المعارف" مرة ضمن سلسلة "إقرأ" وفيه عرض موجز يجذب القارئ العربي إلى "الديوان الشرقي الغربي" ويعينه على تذوّق بعض قصائده، ثم بترجمة دقيقة للديوان ودراسة مستفيضة عنه. 

 

من بين أبيات الديوان التي تكشف عمق اطلاع جوته على الإسلام قوله: "عندما كان المسلمون يستشهدون بالقرآن الكريم/ كانوا يذكرون السورة والآية/ وكان كل مسلم، بما ينبغي عليه من توقير/ يشعر بالإجلال والطمأنينة في أعماق الضمير".

أ

ما في قصيدة "رجال موعودون" فقد نظم جوته "بعد غزوة بدر، تحت سماء مرصّعة بالنجوم/ قال الرسول/ ليَبْكِ العدو موتاه كما يشاء/ فهم صرعى بلا أمل في الرجوع/ أما أخوتنا فلا تحزنوا عليهم/ لأنهم أحياء يتنقلون هناك فوق الأفلاك/ إن الكواكب السبعة أجمعين/ قد فتحت بواباتها المعدنية على اتساعها/ وها هم الأحباب المجتبون يطرقون/ أبواب الفردوس بجسارة/ وَيلْقَوْن على غير توقّع فرِحين مستبشرين، ألوانا من النعيم التي ذقتها في معراجي/ عندما حملني البراق في غمضة عين، واجتاز بي السماوات جميعا". وفضلا عن معرفة جوته بالإسراء والمعراج وغزوة بدر، فمن الواضح تأثره بالآية الكريمة ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ (سورة آل عمران -169).  

 

وقد ذاع عن جوته قوله "إذا كان الإسلام معناه/ أن نسلّم أمرنا لله/ فعلى الإسلام نعيش ونموت كلنا"، وهذه الأبيات هي بترجمة د. مكاوي الأمينة كما يلي: "من الحماقة أن يتحيّز كلّ إنسان/ لما يراه وأن يثني عليه/ وإذا الإسلام كان معناه أن لله التسليم/ فإننا أجمعين، نحيا ونموت مسلمين".   

 

ومن أهم إنجازات د. عبدالغفار مكاوي في كتابه هذا، نشره لقصائد كتبها جوته وقد ضُمّت إلى ديوانه بعد وفاته. ومنها قصيدة بعنوان "أيتها الطفلة الحلوة" يشرح لها إنجازات الأنبياء عليهم السلام، من إبراهيم الذي "اختار ربّ النجوم والكواكب/ ليكون ربّه الأعلى/ إلى موسى الذي "في وحشة الصحراء/ صار عظيما بفضل الواحد الأحد" إلى داود الذي "تقلّب بين الكثير من جوانب ضعفه/ وعرف في النهاية كيف يتوب ويبرئ نفسه/ لقد اهتديت بفضل الواحد الأحد"  إلى يسوع الذي "كان طاهر الشعور ولم يفكّر/ في ظلّ الهدوء والسكينة إلا في الله الواحد" وصولا إلى الأبيات التالية: "وهكذا كان من الضروري أن يظهر الحق/ وهو ما نجح فيه محمد/ فبفكرة الواحد الأحد/ ساد العالم بأسره".  

 

إن ما أقدمت عليه د. كاترينا مومزن من اكتشاف مفصّل لعلاقة أديب ألمانيا الكبير جوته بالإسلام وبالتراث العربي، وتركيز الأضواء عليها، وتعريف القراء الألمان والعرب بها، وما أضافه د. عبدالغفار مكاوي في هذا السياق، إنما هو بمثابة بناء جسر مهم في حوار الحضارات، وتعريف الواحد بالآخر.   

Dr.Randa
Dr.Radwa