لطالما خالجتني سانحةٌ مُلحّة إلى بسط مقالةٍ حِجاجِيّةٍ لبِقة يستحقها جرجي زيدان (1861 – 1914 ) تكشف عن اعتباراته الحقيقية وهو يخوض موضوعات التاريخ والصحافة والاجتماع والأدب، بعيدا من معابثة الآراء والأفكار السائدة التي قيض لها أن تنتشر عنه، سلبا وإيجابا، وقريبا من التمحيص والتدقيق في جل ما جاء به في كتبه مع تقديري دائما لمن قد يكون أجدر مني حقا ببيانه وتأويله للقارىء العزيز على اختلاف السبل إلى ذلك. إن البحث في كتابات زيدان مجاز إبداعي بحد ذاته، موقوف على ما يستشكله النقد من موضوعات خاضها هذا الرجل على وعورتها، وقال فيها ما لم يُقل، مع الاعتراف بأن الغوص على ما جاء به يوجب التؤدة حد الحذر، والوقوف بأريحية علمية على ما بثه مريدوه ومعارضوه من أفكار بين التأييد والاتهام لنتاجاته الجمة في مختلف الأجناس ثقافة وأدبا.
في مثل هذا التصور، أحسبني محقّاً في تجاوز السرد عن سيرة هذا الألمعي المعروفة للجميع، الذي لا يختلف اثنان على عصاميته الفريدة واجتهاده البحثي، لأذهب فورا إلى مصنفين بديعين، متعلقين بالاسلام نصا وروحا، جدَّ بهما زيدان ليكتب مناخه الابداعي بين التأريخ والأدب.
تاريخ التمدن الإسلامي: عشق زيدان البحث التاريخي، فلم يذهب إلى كتابته كما يرغب الناس بقراءته، إنما كما يجب أن يقرأوه، مدركاً أن المعنى الحقيقي للقومية العربية لا يستقيم من دون الاسلام التنويري الذي هو "أم الصبي" بموارده وطاقاته البشرية والفكرية، جادّا بنفَسٍ ريادي في الترويج لفهم ثقافة هذا الدين بشكل أفضل، ينفي الشعور بتقدم الثقافة الغربية على العرب والمسلمين، ويعبر غير مرة عن طموحه في تلازم الشرق العربي المسلم مع الغرب الأوروبي. فهو، وإن تأثر بالغرب إلا أن محاولة توأمة الشرق العربي معه كانت خطوة جيدة بل رآها ضرورية، لما في ذلك من فائدة للتطور الاجتماعي عند المسلمين، لا يمكننا الحكم على النوايا في اتخاذها، إنما بمقدورنا وضعها في ظروف الحرص على عقلية المواكبة المدينية لمنجزات هذا الغرب في تطوره وتقدمه، والاستفادة منه ما أمكننا ذلك، وهذا ليس عيبا ولا حراما ولو تعثرت الوسائل مع صدق النوايا وشرف المحاولة.
بهذا المعنى يمكن اعتبار هذا الرجل رائدا تنويريا جيدا ومعْلَمَة فكرية شاملة قدمت أفكاراً جديدة للثقافة العربية، وشقّت طريق البحث العلمي في ميادين فكرية مختلفة، وهو وإن تعرض لحملات ناقدة تذم طبيعة كتاباته وتوجهاتها، وننظر بتقدير كبير إلى أحقيتها بالقول والرأي، إلا أنه لم يكن متهما، بتشويه الاسلام والتزلف للغرب، أكثر من محمد عبده مثلاً، الذي عارض ثورة عرابي وعُرف بصداقاته الغربية، ولا طه حسين في نسفه الأدب الجاهلي ولا غيرهما ممن استشكلوا مواقف ومحطات تاريخية قومية وإسلامية تصدى لها هذا صاحبنا أيضا، مع التنبه إلى أن الكشف عن بعض سلبيات التاريخ الاسلامي هو للاستفادة من أخطائها وليس لمجرد بثها رئاء الناس، وهذا أمر محمود وطبيعي في تاريخ الشعوب يدفع في كل حال وحين، اتهام زيدان بالافتراء والتجني على التاريخ الاسلامي في مواقف لا تزال تحتاج إلى أبحاث علمية دقيقة. وفي عرض سريع لمحتوى هذا الكتاب / الموسوعة بأجزائه الخمسة التي صدرت بين عامي 1902 و1906، قدّم زيدان، بذائقة نهضوية، جردةً وافية موسوعية، لتاريخ الممالك الإسلامية منذ ظهور الإسلام ونشوء دولته وحتى مرحلة بدء تفكك الدولة العثمانية في العقد الأول من القرن العشرين.
كما فصل في تنظيم تلك الدول على اختلاف وتواتر عهودها، من مبايعة الخلفاء إلى مجالسهم العلمية والأدبية والمناظرات وثرواتهم، وشاراتهم وعلاماتهم، مواكبهم واحتفالاتهم، ألعابهم وملاهيهم من الصيد والقنص والسباقات والكرة والصولجان، إلى تنظيم الوزارة والقضاء ودواوين الجند والإنشاء، وبيوت المال، والحجابة ونقابة الأشراف ومشيخة الطرق الصوفية، إلى علوم العرب وأنسابهم وطبقات الناس والاجتماع، الخدم، الأرقاء، الخصيان، الجواري، أهل الفنون الجميلة، العلماء، الفقهاء والأدباء، التجار، الصناع، المزارعين، المرأة وأحوالها، آداب المجتمع، الطعام واللباس والمأوى وعمارة المدن والقصور ومباني الدولة وغيرها.
واعترف زيدان بوعورة ما سلكه في تدبيج هذا الكتاب وهو يتلقى نصائح كثيرين بصرف النظر عما يفعله، ولكنه تابع طريقه في الإضاءة على تاريخ مديني متألق للمسلمين له حضوره الموصوف بين الأمم وتأثيره العظيم فيمن يدخل تحت سلطانهم من رعايا الروم أو الفرس، مقربا إلى العقول والأَفهام صورته الحقيقية الوسطية السمحة، ضاربا مثالا فاقعا في تبنيه الخطاب الديني الاسلامي : من الحرص على إيراد المصطلحات الفقهية كأن يقول هي مثلًا "فتوح الأمويين... أو العباسيين" وليس "غزوات" على امتداد صفحات كتابه، أو يقول: "فلما ظهر الإسلام ونهض المسلمون للفتح، كانوا إذا أرسلوا قائدا إلى فتح بلد ولوه عليه قبل خروجه لفتحه، أو شرطوا عليه إذا فتحه فهو أمير عليه... الخ ". إلى عرض وصايا الخلفاء الراشدين لولاتهم وقوادهم إذا خرجوا للفتوحات كوصية الخليفة أبي بكر الصديق لأسامة يوم خروجه بالمسلمين إلى الشام قال " لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا، ولا تعقروا نخلا أو تحرقوه ولا تقطعوا شجرة ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا ً ولا شيخا كبيرا، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له "، أما مسألة التحكيم بين معاوية وعلي فقد سرد زيدان الحادثة كما وردت في غير مرجع تاريخي ولم يقدم رأيا خاصا فيها لحساسيتها. كذلك لم نجد في مراجعتنا لهذا الكتاب ما يؤكد انحيازه للغرب وآراء المستشرقين، بل تثاقفاً باتجاه معاكسٍ آخر في كثير من محطاته، لا سيما في تفصيله لحديث المعارك بين المسلمين والفرنجة، ومنها تناولُهُ لمعركة بلاط الشهداء (114 للهجرة ) إبان الخلافة الأموية، والتي خسرها المسلمون بين بلدتي تور وبواتييه في وسط فرنسا الحالية، إذ قلل من شأن تأريخ الغرب للواقعة وقتذاك "فكانت الوقائع كما سجلها مؤرخوهم مضطربة، أسطورية الطابع".
وأكد بحماسة وبما يستدعي التأمل مليّا، أن العرب لو فازوا في هذه الواقعة لانتشر الإسلام في فرنسا ثم سائر أوربا، لأن الفرنجة - سكان غالة إذ ذاك وهي فرنسا الحالية - كانوا أقوى أمم أوروبا النصرانية على مدافعة العرب يومئذ، ولانتشرت اللغة العربية في تلك القارة كما انتشرت في قارتي آسيا وأفريقيا وسائر العالم الإسلامي " !. والأمثلة كثيرة في هذا الكتاب الموسوعة لا مجال لذكرها طبعا لكنها تحيلنا إلى القول أن وعي زيدان المعرفي كان قوميا ويصب كله في خانة اخلاصه لأمته ولو كان نصرانيا، محايدا حتى العدالة في سرد التاريخ الاسلامي، لا سيما الفترات الحرجة منه، مستندا في كل ما أورده إلى مؤرخي العرب المعتمدين في مجمل الكتابات والابحاث التاريخية التي يعتد بها كالمقريزي والمسعودي وابن عبد ربه وابن الأثير والفخري وابن خلدون وغيرهم، مع تضفير نصوصه بالجداول والرسوم البيانية والفهارس لزوم الموضوعية والصدق فيما يكتبه. من هنا يمكن فهم الاقبال الكبير من الباحثين على النهل من هذا الكتاب وحتى اليوم، مما يعضد ما قاله جابر عصفور في زيدان بأنه " مسلم ثقافة ومسيحي دينا " أثبت تسامحه وانفتاحه في إصراره على كتابة عشرات الكتب والروايات والابحاث في التوجه الايجابي للاسلام، وأنه مُنِعَ من تدريس مادة التمدن الاسلامي في الجامعة المصرية لأنه مسيحي بضغط من مجموعات كثيرة رفضت ذلك بشدة وكانت المفارقة أن من تولوا هذه المهمة بعده هم مستشرقون مسيحيون أيضا ولم تنتطح في ذلك عنزتان!
* سلسلة روايات تاريخ الإسلام: روايات هذه السلسلة كالتالي : المملوك الشارد (1891) أسير المتمهدي (1892) استبداد المماليك ( 1893 ) جهاد المحبين (1893 ) أرمانوسة المصرية ( 1896 ) فتاة غسان (جزآن) ( 98/1897) عذراء قريش ( 1899) " 17 رمضان " (1900) غادة كربلاء ( 1901 ) الحجاج بن يوسف ( 1902 ) فتح الأندلس ( 1903) شارل وعبد الرحمن ( 1904 ) أبو مسلم الخرساني ( 1905 ) العبّاسة أخت الرشيد ( 1906) الأمين والمأمون ( 1907) عروس فرغانة ( 1908) أحمد بن طولون ( 1909 ) عبد الرحمن الناصر ( 1910) الانقلاب العثماني ( 1911) فتاة القيروان ( 1912 ) صلاح الدين الأيوبي ( 1913 ) شجرة الدر ( 1914 ). يمكن اعتبار جرجي زيدان روائيا عربيا تغنيه ثقافتان : السفر من قطر لآخر، وإتقانه الواسع للّغات كالعبرية والتركية والسريانية والفرنسية والانكليزية مما عقد له الريادة في إطلاق أولَيات السرد عند العرب في فن الرواية، التي نشأت في الحيز التاريخي تحديدا ولاقت رواجاً منقطع النظير يفتح الباب واسعا على السؤال الكبير حول سر انتشارها الكبير، فلا تزال حتى اليوم محط إعجاب وتهافت لدى القراء وبعشرات الطبعات والترجمات إلى لغات عالمية كالتركية والانكليزية والفرنسية والألمانية وإلى عهد قريب منذ سنوات لا سيما في باريس. أهم ما في الروايات أنها وكما في " تاريخ التمدن الاسلامي "، قدمت الموضوعات التي عالجتها بأسلوب سهل لين، مستساغ جدا وبلغة حداثوية ابتعدت من غريب الكلام والجفاف والتفخيم، وتناولت شخصيات تاريخية أثيرة لدى العرب والمسلمين، مثيرا الجدل في رؤيته الروائية لمواقف وحقيقة تلك الشخصيات وتصرفاتها وإعادة تقييمها وفاق منظور حديث وطرح متقدم عما وصلت عليه إلى جيله، كعهد هارون الرشيد وخلافات الأمين والمأمون ومسألة الشعوبية بين العرب والعجم ومعاداة معاوية لبني هاشم والمعارك التي تلت مقتل الخليفة عثمان، وغيرها من المحطات الحرجة جدا في التاريخ الاسلامي، التي لا ننكر أنها تحتاج إلى بحوث موضوعية لتثبيت ما قاله زيدان أو نفيه، فلا نزكيه ولا نذمه بقدر ما نرى إلى إمكانية إعادة درس وتمحيص ما جاء به فيما لو كان فيه تجنّ وافتراء. على هذا النحو، يعرض في روايته " الانقلاب العثماني " لحوادث ومواقف تنتقد أحوال الدولة العثمانية على عهد السلطان عبد الحميد، وهو أمر لاقى استهجانا من كثيرين، وكأنها كانت بألف خير ! لكننا نتفهم موقفه إذا ما تأكدت تاريخيا الحوادث والمواقف التي أوردها زيدان في روايته : كالفساد في حياة ويوميات السلطان وحاشيته، من النساء، إلى الرشاوى، والجواسيس وغيرها وهي أمور ثبتت يوما بعد يوم لترفع اللوم عنه في حقيقة رؤيته الداعمة لتنحية عبد الحميد عن السلطة. إلى ذلك تعمّد زيدان تضفير نصوصه بجمالية فنية تقربها من القارىء، مع سهولة في الانشاء وتناسُبِ الألفاظ في العبارة الواحدة، كما أعمل الخيال فيها مازجا بين أخلاق الشرق المسلم وقيم الغرب المسيحي، تحت سماء ثقافة التسامح الديني ومبادىء الانسانية السمحة المشتركة، في خطاب روائي تعليمي من المستغرب جدا أن يلام عليه بحجة ابتعاده من الفنيات الجمالية لكتابة رواية. ولكن لزيدان مواقف مضيئة في إرثه الروائي، فهي تعكس جرأته الأدبية في طرق أبواب اجتماعية، ثقافية، وتاريخية لا يتحرج من الحديث والبحث فيها بموضوعية وتوثيق، جعلته من أوائل الروائيين الذين فتحوا الباب لتعميم أفكارهم الاجتماعية التي نادوا بها طوال حياتهم، لا سيما مسألة تحرر المرأة ومساواتها بالرجل في مجال الأعمال، عطفا على دعوته الدائمة إلى إنشاء جامعات عربية مدنية في سبيل نهضة علمية متطورة تعم البلاد، وليس انتهاء بالتخفيف من حدة النظر إلى مسائل العلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة في المجتمع الاسلامي من أجل بسط طبيعة تلك العلاقة بوضوح بعيدا من التزمت وإنكار الواقع.