الثلاثاء 11 يونيو 2024

لكن «النقب» شرقاوى

6-8-2017 | 12:17

كتب : يحيي تادرس

لكل شعب أبطاله الذين يتحولون إلي شبه أساطير يتغني بهم وبأفعالهم، التي تكون غالبا مغلفة «بخيال» جامح قد لا يمت للحقيقة أو الواقع بصلة:

سويسرا - وليم تل «مجموعة كتب وأفلام وسيمفونية و......»

انجلترا - روبن هود....

فرنسا- جان دارك

...... الهند - المهاتما غاندي

و............

فى العرب- عنترة - سيف بن ذي يزن - الزناتي خليفة

.....

مصر.. أيام الاحتلال البريطاني - كان «الناس» يبحثون عن بطل - بعيداً عن الزعامات والخطب والصراعات...

ومن هنا تولد «أسطورة» أدهم الشرقاوي

....

الموضوع - استهواني - وبالفعل - شددت الرحال إلي قرية «زبيدة» - بالبحيرة وقابلت بعض أفراد عائلته - وصورتهم في برامجي التليفزيونية - وفوجئت بحكايات تشيد كلها بأدهم وليس فقط أبناء عائلته بل .. أبناء قريته «كافة الأعمار و......»

.....

أدهم ... وأشهر خناقة بين «عبدالحليم حافظ ومحمد رشدي» فيمن له الحق في غناء «شبه ملحمة» عنه

و.... مسلسل وفيلم 1964 «لبني عبدالعزيز وعبدالله غيث وشويكار وصلاح منصور»

ولكن .. هناك دائما في كافة الروايات والحكايات والأساطير وجهة نظر مختلفة.... ومخالفة:

كتب في مجلة اللطائف المصورة الصادرة يوم الأثنين 31 أكتوبر 1921:

.... المجرم الأكبر/ الشقي الطاغية «أدهم عبدالحليم الشرقاوي» الذي ولد في عام 1898 ولقي مصرعه في أكتوبر 1921 - فكأنه «مات» عن ثلاث وعشرين سنة بعد أن دوخ الحكومة المصرية - نحو ثلاث سنوات.

ولد بناحية «زبيدة» من بلاد مركز إيتاي البارود - وألحقه أبوه بالمدارس الابتدائية حتي «تم» دروس السنة الرابعة.

- ثم أخرجه أبوه من المدارس حين لمس عدم استعداده لتلقي العلوم ولوحظت عليه العدوانية فكان يعتدي علي كل من يمسه بأبسط شئ.

....

وفي عام 1917 ارتكب حادثة قتل وهو في سن التاسعة عشرة وكان عمه «عبدالمجيد بك الشرقاوي - عمدة زبيدة» أحد شهود الإثبات.

- وفي أثناء محاكمته أمام محكمة الجنايات - سمع أحد الشهود - يشهد لغير صالحه فهجم علي أحد الحراس بقصد نزع سنجته ليطعن بها الشاهد.

وحكمت المحكمة علي أدهم بالسجن سبع سنوات مع الاشغال الشاقة فأرسل إلي ليمان طرة - وفي الليمان - ارتكب أدهم جريمة قتل أخري.

فقد تعرف هناك بأحد السجناء - وأدرك من كلام هذا السجين أنه القاتل الحقيقي لأحد أعمامه وأنه لم يقبض عليه في هذه الجريمة لأن مرتكبها ظل مجهولاً - وأنه قبض عليه في جريمة أخري.

....

ولما عرف أدهم هذه الحقيقة غافل السجين ذات يوم وضربه علي رأسه بالأداة التي يقطعون بها الأحجار... فقتله وهكذا حكم علي أدهم بالاشغال الشاقة المؤبدة.

.....

غير أن أدهم هرب من السجن في اضطرابات ثورة 19 واختفي في مكان ما في بلده وهناك انضم إليه عدد كبير من الاشقياء فكون منهم عصابة وأخذ يرتكب الجرائم العديدة وكان همه الوحيد أن يقتل عمه «عبدالمجيد بك الشرقاوي عمدة «زبيدة» لأنه كان أهم شاهد في قضيته الأولي.

فكان يتربص به في «غطيان الذرة» ولكنه عجز عن قتله.

.....

وتضيف «اللطائف المصورة» أن أدهم ظل يرتكب الحوادث المخلة بالأمن من قتل ونهب في ناحية «زبيدة» حتي يكون ذلك مدعاة «لرفت» عمه من العمودية - فلم يفلح أيضا.

ولما كبرت عصابته صار يستأجر لارتكاب جرائم القتل مقابل القليل من المال فقتل الكثيرين ومنهم خفير نظامي وشقيقه الشيخ يوسف أبو مندور وهو من أعيان المركز وآخرين ثم أخذ يهدد العمد والأعيان ليبتز منهم مبالغ طائلة مقابل المحافظة علي أرواحهم.

وأخيراً هاجم الشرقاوي مع أحد أعوانه وكانا ملثمين - الشيخ «حسن السيوي» وهو من أعيان ناحية كفر خليفة وهاجمه بينما كان جالسا مع خمسة من اصدقائه يلعبون الطاولة - وكان ذلك في العاشرة صباحاً - ويقتله ويدب الرعب في قلوب الأهالي.

وكان أدهم يسطو علي التجار علي قارعة الطريق نهاراً ويسلب محافظهم وما يحملون وعندما شاع الرعب بين الناس - عززت الحكومة «أخيراً!» قوات الأمن في المنطقة - وأكثرت من دورياتها..

وتخاصم أدهم مع أحد أقربائه وهو خفير اسمه «محمود أبوالعلا» - الذي وشي لدي البوليس ودلهم علي مكانه..

وحين شددت الحكومة النكير علي أدهم الشرقاوي وجدت في مطاردته تركه أعوانه خوفا علي حياتهم.

... أما هو فلم يخف - بل ظل ينتقل بين مراكز إيتاي البارود وكوم حمادة والدلنجات وأخيراً أرسل «ملاحظ» بوليس التوفيقية أحد الجاويشية ويدعي محمد خليل ومعه أونباشي سوداني وأحد الخفراء فكمنوا له داخل غيط الذرة بزمام عزبة جلال وكان أدهم يتأهب لتناول غدائه الذي جاءت به امرأة عجوز وكان يخفره - أحد الخفراء النظاميين!

و لما أحس أدهم بحركة دخل غيط الذرة - أطلق عدة طلقات من بندقيته «الماوزر» ولكن الجاويش محمد خليل يطلق عليه رصاصتين فسقط قتيلاً قبل أن يتناول شيئا من طعامه ووجدوا معه نحو مائة طلقة - وخنجراً.

.....

وتقول «اللطائف المصورة» أن أدهم لم يكن قوي العضلات إلي درجة تمكنه من ارتكاب هذه الجرائم ولكنه كان من أجرأ اللصوص والقتلة.....

تلك صورة وحكاية أدهم - كما صورتها الحكومة - لكن الفلكلور الشعبي - يصنع منه بطلاً «كما في الموال الشهير» إذ كان يقتل من أجل الشرف ويسرق من أجل الفقراء.

... فأين هي الحقيقة؟

لقد عرفت مصر - عديداً من السفاحين الذين دوخوا الحكومة وكان أشهرهم «الخط» فى الصعيد الأعلي «صوره الفنان عادل إمام» ولكن الخط لم تتجمع حوله أسطورة - وظل بخيال الناس مجرد مجرم أثيم دوخ الحكومة سنوات حتي لقي نهايته.

لكن عرفت مصر نماذج نادرة من السفاحين الذين تحولوا في الضمير الشعبي إلي أبطال- ومنهم «سعيد مهران» الذي صوره نجيب محفوظ فى «اللص والكلاب» وأدي «شكري سرحان» دوره ببراعة فائقة «اللص والكلاب - 1962- وإلي جانب شكري سرحان كمال الشناوي - شادية - سلوي محمود».

.....

ونعود إلي أدهم وعدة تساؤلات..

.... هل تقاعس الأمن عن القبض عليه كان إخلالا بالأمن العام أو بأمن قوات الاحتلال «نفس ظروف اختلال الأمن في أحداث ريا وسكينة»..

وتساؤلات أخري ظلت الصحف الصادرة حينها في ترديده.

كيف هرب أدهم من ليمان طرة؟ - هل قام سجناء هذا الليمان بشغب - أدي إلي هروبه؟ ثم كيف حدث هذا الشغب - ومن قاده من الداخل وهل تلقي معاونة من الخارج.

... إن تلك الأحداث العاصفة التي حدثت خلال ثورة 1919 أثارت الضمير الشعبي ضد الاحتلال البريطاني وجعل من أدهم بطلا يقاوم قوات الاحتلال...

......

ونبتعد الآن عن أجواء الجريمة مهما كانت دوافعها ونقترب من روح الوطن في بعض السنوات الساخنة «خلال وأثناء ثورة 1919 ونختار بلدة المنيا كما كتب عنها د. لويس عوض في كتابه أوراق العمر فى أعوام 1922 - 1923 كانت المظاهرات الصاخبة تطوف شوارع المنيا هاتفة «النيل لا يتجزأ والسودان لا ينفصل» - مصر والسودان لنا...

وظهرت بعض الأغاني لعلي الكسار «بربري مصر الوحيد» مثل دنجر دنجر وتقول ما معناه «النيل رأسه في ناحية ورجليه في الناحية التاني» وكانت هذه الأغنية وغيرها من مشاركات مسارح روض الفرج في الحركة الوطنية..

......

وقد حدث في مرحلة من مراحل ثورة 19- أن أعلن زعيم من زعماء الوفد اسمه محمود بسيوني «يوجد شارع باسمه متفرع من ميدان طلعت حرب - سليمان سابقا» استقلال بلدته «زفتي» عن المملكة المصرية - وكان يقال إنه أعلن نفسه امبراطوراً علي امبراطورية زفتي!

....

وكان محمود بسيوني من زعماء الوفد وأصبح في مرحلة لاحقة رئيسا لمجلس الشيوخ «وقد تم تسجيل هذا الحدث في فيلم أو مسلسل تليفزيوني تحت اسم «جمهورية زفتي».

......

و.....تعالوا بنا نجتاز الزمن إلي المقاومة الباسلة لجنود الاحتلال - التي كان أبطالها - الفدائيون المصريون و.... الدور الخفي الذي لعبه الفنان محمود شكوكو في دعمه لهم.

فقد انتشرت آنذاك في الأسواق المصرية تمثال من الجبس للفنان شكوكو - لينتشر في كل أحياء مصر - ولم يكن الغرض بيعه مقابل «قرش» ولكن بقصد استبداله بالزجاجات الفارغة وكان نداء الباعة.

شكوكو بقزازة

.... وكانت هذه الزجاجات تستخدم كقنابل ضد قوات الاحتلال!

......

ومع الدكتور لويس عوض و.... ذكريات لا يمكن تخيل تفاصيلها في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار.

كان أبى قد اتفق معي علي أن يعطيني مصروفات الجامعة وكانت ثلاثين جنيها تدفع علي قسطين ومصروفات شهرية لي - قدرها جنيهان - لنفقات المعيشة... مع وعد غامض بزيادة الجنيهين إلي جنيهين ونصف!

... وكان المفروض - أن خمسين قرشا «أي نصف جنيه» تكفي لإيجار السكن شهرياً والباقي «جنيه ونصف» لنفقات المعيشة!

وقد زودني أبي عند سفري بثمانية جنيهات لتأثيث سكن:

سرير مفرد ومرتبة وملاءتان ومخدة بكيسين وبطانية ومكتب متوسط ودولاب خشبي صغير وكومودينو وشيالة كتب وترابيزة سفرة وترابيزة مطبخ و«وابور غاز» وبعض الأوعية كالكسرولات وأدوات القهوة الشاي وشماعة ومرآة.

وكانت الجنيهات الثمانية كافية لكل هذا - فاشتريت كل هذه الاشياء من القبة الخضراء ونقلتها إلي الجيزة دفعة واحدة علي عربة كارو مقابل عشرة قروش.

وكانت كل هذه الأسعار طبيعية أيام كان القرش الصاغ «كان الجنيه يساوي مائة قرش» يشتري عشر بيضات أو عشرة أرطال طماطم أو نصف رطل لحم «كان كيلو اللحم بخمسة قروش وكان أجر الفلاح أو «النفر» إذا وجد العمل يتراوح بين 5،2 و3 قروش.

....

و...... كان مرتب خريج الجامعة 12 جنيها شهريا والماجستير 15 جنيها والدكتوراه 18جنيها بحالهم!»

.....

وكانت الأزمة العالمية قد أخذت بخناق البلاد لسنوات ابتداء من 1929 فكثرت التفاليس وكسد البيع والشراء و... شاعت البطالة ولا سيما بطالة المتعلمين وخريجي الجامعة .... وفي هذه الظروف يوقف «إسماعيل صدقي» كل التعيينات الجديدة ويلغي «تثبيت» الموظفين.

وكان السعيد السعيد من يجد باشا من الباشوات يتوسط له ليعين في وظيفة كتابية بمرتب شهري «أربعة جنيهات»..

....

عزيزي القارئ

.. تلك مجرد لمحات لمصر زمان - أما أدهم الشرقاوي - فقد أثارني المسلسل المعروض الآن علي شاشات التليفزيون وبحثت في أوراقي القديمة بحثا عن بعض أسراره.