الثلاثاء 24 سبتمبر 2024

كاسترو .. إرادة وطنية في مواجهة تحديات الإمبريالية

12-2-2017 | 13:23

د. أشرف البيومي - كاتب مصري

 عندما نتحدث عن قامة تاريخية مثل فيدل كاسترو يستحيل أن نشمل جميع إنجازات هذا القائد العظيم في هذه المساحة المحدودة. لهذا أجد من الضروري التركيز على ثلاثة إنجازات محورية وإضافة بعض الملاحظات حول وحدة النضال والمناضلين:

  أولها التخلص من دكتاتورية فاسدة وتابعة وتحقيق الاستقلال الحقيقي لكوبا وحماية هذا الاستقلال بإصرار وصمود أسطوري عبر عقود عديدة.

 ثانيها تحقيق معجزة تقدم البحث العلمي الهائل وانعكاس ذلك عمليا على صحة المواطنين كل المواطنين.

 ثالثها المشاركة العسكرية في حركات التحرر في إفريقيا وعلى رأسها أنجولا.

    لا يمكن تقييم إنجازات كاسترو ورفاقه الثوريين دون التعرف على حالة كوبا في ظل الدكتاتور باتيستا الحاكم السابق لكوبا والمدعوم أمريكيا. أول معرفتي بكوبا عندما ذهبت لجامعة ولاية فلوريدا عام 1955 وكان بها عدد من الطلبة الكوبيين الذين كان ولاء معظمهم لباتيستا، وبالتالي كانت انطباعاتي مشوهة ورغم ذلك كانت هناك معلومات تقارب الوضع الحقيقي لما يدور بكوبا والتي اكتملت عندما قام كاسترو ورفاقه بالثورة عام 1959.

   ومن الحقائق التي تعرفت عليها قيام باتيستا بتعليق العمل بدستور 1940 ومصادرة كافة الحريات بما في ذلك حق الإضراب وتحالفه مع كبار ملاك مزارع قصب السكر. وأدت سياساته لاتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء. كذلك اتسم النظام بفساد مستشر وقمع رهيب شمل التعذيب والإعدامات العامة وقتل 20 ألف مواطن. إضافة إلى اتساع نفوذ المافيا الأمريكية ورموز الإجرام الأمريكي وانتشار تجارة المخدرات والقمار والدعارة. استفاد باتيستا مباشرة من كافة هذه النشاطات الإجرامية. وبطبيعة الحال جنت الشركات الأمريكية الأموال الطائلة من جراء المميزات الهائلة التي منحتها لهم حكومة باتيستا.

    كان الموقف الرسمي الأمريكي مؤيدا لباتيستا رغم بعض الانتقادات لذر الرماد في العيون. لم نسمع عندئذ أن باتيستا حاكم غير شرعي لاستيلائه على الحكم بالقوة ولا لتعطيله الدستور ولا لانتهاكاته الخطيرة لحقوق الإنسان. ولكن كل هذه الاتهامات كانت من نصيب كاسترو ورفاقة الذين اتهموا بأنهم قتلة لشعبهم وبأن حكمهم غير شرعي..إلخ  الدعايات المسمومة.

    نجحت الثورة الكوبية وفر باتيستا إلى جمهورية الدومينيكان الكاريبية عند رفيقه الدكتاتور تروهييو وفي النهاية استقر في البرتغال حيث كان زميله الدكتاتور ساليزار مازال يحكم. بعد قرون من الاستعباد تحررت كوبا من الاستعمار والهيمنة الأجنبية كما تحققت المساواة بين المواطنين. كان الكوبيون السود الذين يعود أصلهم لأكثر من مليون إفريقي سخرتهم الرأسمالية العالمية ليصبحوا عبيدا في مزارع قصب السكر في كوبا يعانون ثنائية العنصرية الفجة والاستبداد الإجرامي.

   قبل الثورة كانت كوبا تعاني من الاستعمار الغربي والهيمنة الأمريكية لفترة طويلة. بعد الثورة تحققت إنجازات هائلة على رأسها استقلال كوبا ثم الدفاع عنه بضراوة في معركة خليج الخنازير وإبان أزمة الصواريخ مع الاتحاد السوفيتي، حليف كوبا. صمدت كوبا في مواجهة حصار اقتصادي غاشم مستمر حتى الآن ومحاولات اغتيال متعددة لقائد الثورة كاسترو. كما حققت إنجازا خارقا في مجال التعليم والبحث العلمي والصحة العامة التي نافست معدلاتها أغنى الدول.

   لم يكتف كاسترو والحكومة الكوبية بالمشاركة الفعالة في حركات التحرير في إفريقيا بل ناصر القضية الفلسطينية وعارض بشدة الحروب الأمريكية الآثمة في فيتنام ولاوس وكمبوديا والأنظمة العنصرية في جنوب إفريقيا ووضع الأمريكيين السود. كان كاسترو صديقا لزعماء قوى التحرر في العالم مثل مانديلا وهوجو شافيز وعبد الناصر الذي عبر كاسترو له عندما قابله في نيويورك عن امتنانه وكيف أن توقيت الثورة الكوبية وإلهامها انبثق من صمود مصر أمام العدوان الثلاثي عام 1956.

    من المنطقي أن نرجع مآسي الاستعمار والعبودية وااستخدام العنف والإبادة البشرية لأس البلاء وهو الجشع المتمثل في الرأسمالية. لقد عبر كاسترو عن قبح الرأسمالية ومخاطرها بقوله: "أعتقد كما يعرف العالم أجمع أن النظام الرأسمالي لا يعمل، لا في الولايات المتحدة ولا في العالم، وتجره من أزمة لأخرى وفي كل المرة تكون الأزمة أكثر خطورة". لقد قدمت الثورة الكوبية بقيادة كاسترو وجيفارا وراؤول كاسترو وكاميلو نموذجا حيا لدول عديدة خصوصا في أمريكا اللاتينية ومن هنا ندرك خطورة ذلك على الإمبريالية وحلفائها.

دعم حركات التحرر في إفريقيا والعالم:

   في عام 1975 شاركت القوات الكوبية بقوة 25 ألف جندي مع الحركة الشعبية لتحرير أنجولا MPLA)) لدحر قوى الاستعمار البرتغالية وحلفائها، منها حكومة جنوب إفريقيا العنصرية وحكومة زائير التابعة للإمبريالية ومنظمات مثل يونيتا ((UNITA المدعومة من السي آي إيه ومن دول أوروبية غربية. وفي عام 1988 ساهمت القوات الكوبية في مواجهة ينيتا وقوات جنوب إفريقيا لحماية الحكومة الثورية الأنجولية في معارك حاسمة بكيتو Cuito، انتهت بانتصار قوى التحرر وقتل جوناس سافمبي قائد يونيتا.

   في النهاية تحررت أنجولا من استعمار برتغالي بغيض ومن قوى الهيمنة التي سعت من أجل أن تحل محله، كل ذلك بمساعدة كوبا المحورية، هذه الجزيرة الصغيرة وشعبها الذي يصل تعداده حوالي 11 مليونا. هنا نتوقف لتقديم التحية لكاسترو وجيش كوبا الذين هبوا لنصرة أنجولا رغم معارضة الحليف السوفيتي. تبرز هنا قناعة كاسترو الراسخة بأن المعركة ضد الاستعمار والهيمنة معركة واحدة مهما تعددت الميادين وتبرز أيضا استقلالية القرار لدى كاسترو وكوبا. لقد أثبت كاسترو صدق مقولته: "نحن أمة لاتينية إفريقية.. والدم الإفريقي يجري في عروقنا".

البحث العلمي في خدمة الشعب عمليا:

   في عام 2006 حققت رغبة قوية لزيارة كوبا كان الدافع الأساسي لتجشم هذه الرحلة المكلفة هو دراسة التجربة الكوبية العلمية والتقدم الهائل الذي أنجزته في مجال البحث العلمي وتحديدا في مجال البيوتكنولوجي. قمت بزيارة العديد من المؤسسات العلمية بهافانا وسانت كلارا وأجريت نقاشات مكثفة حول البدايات والعقبات التي واجهت المشروع في مراحله الأولى وتأثير الحصار وانهيار الاتحاد السوفيتي ودور القيادة السياسية والفلسفة الخلفية له وعوامل النجاح الأساسية التي بدونها يستحيل تحقيق أي إنجاز. تقدم التجربة العلمية في كوبا نموذجا فريدا لدول عربية خصوصا وأن هذا النجاح تحقق في مواجهة عقبات ضخمة منها الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة على كوبا الفقيرة في مواردها الطبيعية.

    يقتضي التقييم العلمي لثورة كوبا تسليط الضوء على الدور المحوري لكاسترو في النهضة العلمية لهذه الجزيرة الصغيرة التي تقع على بعد أميال قليلة من زعيمة الإمبريالية. ليست هناك أي مبالغة في أن القيادة السياسية تلعب دورا حاسما لإنجاز ضخم في المجال العلمي خصوصا بالنسبة للبلاد النامية. كما أن أي نهضة علمية لا بد أن تكون متلازمة مع مشروع تنمية طموح معتمد على الذات. ومما لا شك فيه أن كاسترو كانت لديه بصيرة نفاذة في الاستثمار الهائل في مجال البيولوجيا الجزيئية حتى في أحلك الظروف الاقتصادية التي مرت بها كوبا في التسعينيات مما يؤكد قناعته وثقته الكبيرة في قدرات وتفاني العلماء الكوبيين.

   منذ البداية آمن فيدل بدور العلم ففي خطابه في يناير 1960 قال "إن مستقبل كوبا يجب أن يكون مستقبل رجال العلم، رجال يفكرون" وشتان بين مقولات تترجم إلى أفعال ونتائج ملموسة ومقولات رنانة تضيع في الهواء تفتقد إلى المصداقية ولا يستمع إليها أو يكترث بها أحد. قال لي الدكتور بدرو لوبيز ساورا أحد العلماء البارزين بمركز الهندسة الوراثية والبيوتكنولوجي CIGB: "في السبعينيات كنا مجموعة من العلماء نقوم ببحوث أكاديمية وفي أوائل الثمانينيات توفرت لدينا كتلة حرجة من العلماء وكان إنتاج كمية من الإنترفيرون Interferon في مدي شهرين هو أول نجاح لنا. كان فيدل يحضر في معملنا كل يوم وأحيانا مرتين وثلاث مرات من 11 إبريل 1981 حتى 3 أغسطس 1981 ليتابع ويسأل ويطمئن أن كل احتياجاتنا متوفرة". أما الدكتور أوجستين لآهي مدير مركز بحوث المناعة الجزيئية CIM وأحد القيادات العلمية الفذة فيقول: "في سبتمبر 1989 مساء أحد الأيام دخل فيدل المعمل وكان يبدو أن في ذهنه شيئا ما، وجرت مناقشات مطولة في هذا المساء وتلته عدة جلسات أخرى. تحدث عن ضرورة إنشاء مركز كبير رغم أننا كنا نرغب فقط في تحديث لمعملنا الصغير، لكن فيدل كان يخطط لتطوير صناعة لم تكن في مخيلتنا وقتها. وبدأ بإنشاء مركز بحوث المناعة الجزيئية CIM الذي أنت وأنا فيه الآن. يذكر أن الإنشاء بدأ في 1991 وفي ضرب الناتج المحلي الكوبي بسبب تفكك الاتحاد السوفيتي ولكن فيدل أصر على الانتهاء من المبني الذي اكتمل في 1994".

    هذا النجاح سبب قلقا شديدا للسلطة في الولايات المتحدة. نسوق، "دون تعليق"، ما جاء في تقرير لجنة "المساعدة من أجل كوبا حرة"، في مايو 2004 ، والذي تبناه بوش قائلا "لقد وجهت (الحكومة الكوبية) مبالغ طائلة لنشاطات مثل إنشاء مراكز لعلوم البيولوجيا والبيوتكنولوجيا، هذه النشاطات غير مناسبة من حيث الحجم أو التكاليف لدولة فقيرة أساسا والتي فشلت في تبرير ذلك ماليا". من الواضح أن النموذج الكوبي غير مستحب من قبل الإمبريالية التي تجده مناقضا ومقلقا لمصالحها.

    حظي التعليم في كوبا منذ اللحظة الأولى بعد نجاح الثورة باهتمام بالغ. فقد تعرض نظام التعليم لتغييرات جذرية فأصبح التعليم مجانا في كل المستويات في 1961 وأممت جميع المعاهد التعليمية وأصبح التعليم يخضع لإدارة الدولة ومنعت المعاهد الخاصة بعد 1991.

   لقد انعكست الإرادة السياسية على حجم الإنفاق المحلي الإجمالي على البحث والتطوير، لأن كوبا وضعت، منذ فترة مبكرة (بدءا من 1981)، أولوياتها في ميدان التقانة البيولوجية وصناعة الأدوية. كما أصبح لديها كما جاء في تقارير اليونسكو ودوريات علمية مثل Nature وغيرها "أنساق متقدمة من اختبارات المناعة الكيميائية، وتقوم بتصنيع كثير من المنتجات". تشهد الإصدارات العلمية "بقدرات بحثية ضخمة لكوبا في مجال العلوم ، ربما أكبر من أي دولة نامية خارج جنوب شرق آسيا". ويذكر أحد الناشرين "أن كوبا نجحت بالذات في إنشاء صناعة بيوتكنولوجية قدمت بكفاءة أدوية وأمصالا معتمدة على نفسها بالإضافة إلى صناعة أدوية وليدة ونجحت بشكل باهر في التصدير (رغم الحصار المفروض عليها)، كما استفاد قطاعا الزراعة والصناعة بدرجة كبيرة من البحث العلمي". وكما لاحظت مجلة Nature: "من المهم السؤال: كيف فعلت كوبا ذلك؟ وما الدروس التي يمكن لدول أخرى أن تستنتجه من ذلك؟".

   يقول محرر مجلة Monthly Review في تعليقه المنشور في إبريل 2007: "في الحقيقة الحالة الكوبية مدهشة أكثر ليس فقط لأنها دولة فقيرة – يقصد في الموارد الطبيعية ولكنها غنية بمواردها البشرية كأي دولة- ولكن لأنها تتعرض لحصار اقتصادي قاس تفرضه عليها الولايات المتحدة الأمريكية والذي اتسع ليشمل المعرفة العلمية". وفضلا عن ذلك أن هذا التقدم العلمي حدث في العقد ونصف بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان يساعد كوبا اقتصاديا وتكنولوجيا. ومن المدهش أن كاسترو رفض أي انتقاص من ميزانية البحث العلمي رغم المعاناة الاقتصادية الطاحنة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

   ومن الأخبار المثيرة قرار أوباما مؤخرا بالمشاركة في إجراء مزيد من الاختبارات على مصل CimaVax-EGF والذي أبدى نجاحا كبير في علاج سرطان الرئة الأكثر انتشارا بالإضافة إلى الحماية من المرض. جاء المصل نتيجة أبحاث لمدة 25 عاما في مركز كوبا للمناعة الجزيئية Cuba’s Center of Molecular Immunology ويعمل المصل عن طريق استنهاض أجهزة المناعة للمريض.