السبت 4 مايو 2024

ممثلة الكوميديا الأولى مارى منيب.. حماتى ملاك

الفنانة الراحلة ماري منيب

23-11-2022 | 09:47

أشـــــرف غــريـب

فى كل مرة أتعرض فيها لسيرة أحد رواد الفن الأوائل تبهرنى هذه القدرة الفائقة التى تتمتع بها مصر على امتصاص كل وافد وصهره فى بوتقتها حتى أنك لا تستطيع أن تميز بين من هو مصرى أصيل وبين من هو من أصول غير مصرية، فإذا بهؤلاء يصبحون جميعا بعقل آلة الهضم العبقرية مصريين بالروح والانتماء والهوى، ومارى منيب نموذج بالغ الوضوح على هذه القدرة المصرية المبهرة .. طفلة صغيرة أتت مع أسرتها من بر الشام لتصبح بعد سنوات قليلة نبتا أصيلا فى طرح الحارة الشعبية المصرية بكل ما تحمله من روح وخفة ظل، وسلاطة لسان أحيانا، بل وتحتل بشخصية الحماة التى عرفت بها مساحة لا يخطئها أحد فى الفلكلور الشعبى والمزاج الجمعى المصرى.   
 

لم تكن مارى منيب التى رحلت عن الدنيا فى الحادى والعشرين من يناير قبل ثلاثة وخمسين عاما مجرد كوميديانة عادية، فقد كانت أول امرأة تكسر احتكار نجومية الرجل فى عالم الكوميديا، قبلها كانت هناك بالتأكيد ممثلات لهن القدرة على الأداء الكوميدى، لكن واحدة منهن لم تصل إلى النجاح الذى حققته مارى منيب التى كانت تكتب لها المسرحيات وتسند إليها بطولات الأفلام تماما كحال ممثلى الكوميديا الرجال .
 اسمها بالكامل مارى سليم حبيب نصر، من مواليد الحادى عشر من فبراير عام 1905 فى منطقة الغوطة الغناء بالقرب من العاصمة السورية دمشق رغم أن عائلتها لبنانية من منطقة فرن الشباك،  وجاءت مارى منيب إلى مصر وهى طفلة بصحبة والدتها السيدة أسماء وشقيقتها الكبرى أليس سعيا وراء والدها الذى كان قد سبقهن للمضاربة فى بورصة القطن، وعلى طريقة المصادفات السينمائية كان رب الأسرة قد قرر العودة إلى الشام فى الوقت الذى كانت الأسرة نفسها قد وصلت إلى القاهرة، وحينما قررت الأم اصطحاب ابنتيها عائدة إلى بلادها جاءها نبأ وفاة الأب ،فقررت البقاء فى القاهرة ومواجهة مصيرها المجهول .
 والتحقت مارى فى مصر لبعض الوقت بمدرسة «دليفراند» القريبة من منزل الأسرة فى منطقة الفجالة بوسط القاهرة حيث كان يسكن أغلبية الأجانب والأقليات، لكنها توقفت عن التعليم وهى دون الثانية عشرة بعد أن أبلغ معلموها والدتها بعدم قدرة الطفلة على التحصيل الدراسى، ومن ثم التحقت هى وشقيقتها الكبرى أليس للعمل ككومبارس فى فرقة الممثل المسرحى الشهير على الكسار فى حدود سنة 1917 عن طريق الممثل الشامى جبران نعوم، ومنها إلى فرقة أمين عطا الله، ثم كونت مع زوجها فى ذلك الوقت فوزى منيب الذى حملت اسمه فرقة مسرحية تعرفت من خلالها على العديد من الأسماء اللامعة فى عالم المسرح وعلى رأسهم بشارة واكيم ،وفى عام 1934 حدثت لمارى منيب أهم نقلة فنية فى حياتها حينما انضمت إلى فرقة ممثل الكوميديا الأشهر نجيب الريحانى التى بقيت بها حتى وفاتها عام 1969، وفى هذه الفرقة تحددت ملامح شخصيتها الفنية على يد صاحبها وشريكه المؤلف بديع خيرى حيث اشتهرت بأداء شخصية المرأة الشعبية سليطة اللسان أو الحماة التى تمغص حياة الزوجين السعيدين، وهما الشخصيتان نفسيهما التى حققت بهما مارى شهرتها العريضة فى عالم السينما .
ولكن متى بدأت مارى منيب مشوارها السينمائى، ومن كان وراء تلك الخطوة ؟ الملفت أن ذلك كان أيضا عام 1934 من خلال مشاركتها المحدودة فى فيلم بعنوان «ابن الشعب» من إخراج إيلى أبتكمان وعن طريق زميلها القديم بشارة واكيم الذى كان شريكا فى إنتاج هذا الفيلم، ثم شاركت بمجموعة من الأدوار الصغيرة فى أفلام مثل: الغندورة مع منيرة المهدية، بسلامته عاوز يتجوز مع نجيب الريحانى، ونشيد الأمل مع المطربة أم كلثوم.


وعلى الرغم من النجاح الهادئ الذى يمكن أن توصف به البدايات السينمائية لمارى منيب على عكس بدايتها المسرحية مع فرقة نجيب الريحانى فإن هذا النجاح كان كفيلا بانتقالها سريعا إلى أدوار البطولة على يد المصور والمخرج توليو كابارينى الذى اختارها للقيام ببطولة فيلم «مراتى نمرة 2» سنة 1937، وفيه لعبت دور زوجة حلاق شعبى تضيق بتصرفات زوجها ،غير أن أول علامة سينمائية وصلت إلينا كانت فى فيلم « العزيمة» سنة 1939 للمخرج كمال سليم حيث لعبت مارى دور الأم التى تريد أن تزوج ابنتها ( فاطمة رشدى ) من أحد أثرياء الحارة الشعبية على غير  هوى الفتاة، ولم تتحول مارى فى هذا الفيلم فقط إلى أدوار الأم لفتاة ناضجة وهى فى الرابعة والثلاثين من عمرها ساعدها على ذلك ملامحها الشكلية وامتلاء جسمها، وإنما تحولت أيضا لتقديم شخصية شريرة لا تهمها سعادة ابنتها بقدر اهتمامها بجمع المال حتى لو على حساب هدم بيت ابنتها وزوجها الشاب المكافح (حسين صدقى) وعلى أية حال فإنها لم تقدم تلك الشخصية المستفزة للحماة مرة أخرى إلا فى فيلم المخرج صلاح أبو سيف « الأسطى حسن» سنة 1952، صحيح أنها لم تكن بشر حماة فيلم «العزيمة» لكن نبرة المنغصات وحدة اللسان كانت عالية على حساب روح الكوميديا، وبخلاف هذين الفيلمين فإن الحماة مارى منيب لم تكن تنطلق فى علاقتها بزوج ابنتها أو زوجة ابنها من دوافع شريرة بقدر ما يمكن اعتباره غيرة على ما تظنه صالح ابنها أو ابنتها، ومن هنا يأتى تدخلها فى حياة الزوجين ،فتحدث المنغصات التى تتولد عنها الكوميديا عادة، وحتى دورها فى فيلم «لعبة الست» لولى الدين سامح سنة 1946 والذى قدمته مرة أخرى فى فيلم «العائلة الكريمة» لفطين عبد الوهاب سنة 1964 ورغم أنها سعت لتطليق ابنتها كى تزوجها لآخر أكثر ثراء فإنها لم تكن منحرفة أو شريرة فى ذاتها بقدر اقتناعها بأن ابنتها تستحق رجلا يضمن لها الحياة الرغدة، وبالطبع لعب الأداء الكوميدى الراقى لمارى منيب دوره فى التخفيف من درجة النفور التى يمكن أن يشعر بها المشاهد تجاه شخصية كهذه، وهو فارق مهم بين شخصيتى «سنية جنح» حماة نجيب الريحانى فى «لعبة الست» وبين «أم فاطمة» حماة حسين صدقى فى «العزيمة» .
 وقد لعبت مارى منيب أكثر من تنويعة على هذا الدور أبرزها «حماتى قنبلة ذرية» لحلمى رفلة سنة 1951 و«حكاية جواز» لحسن الصيفى سنة 1964، أما دور الحماة التقليدية التى لا يصل هدفها إلى التفرقة بين الزوجين بقدر ما تبحث لها عن وجود  ودور فى حياة الابن أو الابنة حتى لو أدى تدخلها – دون أن تعمد أو تريد – إلى وصول الحياة الزوجية إلى حافة الانهيار، فهذا كان الدور الغالب فى أفلام مارى منيب كما شاهدنا فى أعمال مثل : الحموات الفاتنات، عفريتة إسماعيل ياسين، حماتى ملاك ،هذا هو الحب، واعترافات زوج .
ويلفت الانتباه فى سينما مارى منيب قدرتها على تحويل الأدوار الصغيرة إلى كبيرة تتوازى مع أدوار البطولة حتى أن المشاهد ربما يخرج من الفيلم دون أن يتذكر منه سوى مارى منيب، وربما كان المثال الأبرز فى هذا الأمر دورها فى آخر أفلامها «لصوص لكن ظرفاء» سنة 1969 من إخراج إبراهيم لطفى، لكن مارى منيب التى بدت سليطة اللسان فى أدوار المرأة الشعبية، أو حادة الطباع فى أدوار الحماة تتحول إلى امرأة أخرى فى غاية الوداعة والطيبة، وربما السذاجة وقلة الحيلة حينما لعبت فى المرات القليلة دور الأم كما حدث فى فيلمى « بابا أمين» إخراج يوسف شاهين سنة 1950 و«رسالة من امرأة مجهولة» لصلاح أبو  سيف سنة 1962 .


كما يمكن فى إطار سعيها للتمرد على أدوار الحماة النظر إلى شخصية المرأة التى فاتتها فرصة الزواج كما فى فيلمى «سى عمر» و«أبو حلموس» أمام نجيب الريحانى، أو تقديمها لشخصية السيدة التركية فى أفلام مثل: شهداء الغرام، كذبة أبريل، والمراهقان، وكلها تنويعات على الشخصية التى قدمتها فى أشهر مسرحياتها على الإطلاق «إلا خمسة» من إنتاج فرقة الريحانى، وأيا كانت طبيعة الدور الذى تلعبه فإنها كانت تملك أدواتها كممثلة سواء الخاصة بالمواصفات الشكلية والأداء الحركى أو القدرة الفائقة على التلوين الصوتى.
بقيت الإشارة إلى أن البطولة الأولى أتت مارى منيب تسع مرات، وهو يعد رقما كبيرا خاصة لدى ممثلة كوميديانة تجاوزت المرحلة العمرية التى يمكن أن تؤدى فيها أدوار البطولة مثلما حدث فى أفلام: أم رتيبة، حماتى ملاك، شهر عسل بصل، والناس اللى تحت، والذى يلفت الانتباه فى هذه التجربة المحدودة مع أدوار البطولة أن معظمها تركز فى سنواتها الأخيرة، وأن تلك الأدوار وغيرها كانت تكتب لها خصيصا، وهذا يعنى أن نجاحها الفنى كان فى تصاعد مع نضج تجربتها وتقدمها فى العمر، ليس هذا فقط بل أن أدوارها التى تركتها استطاعت أن تضيف إليها جمهورا جديدا طوال أكثر من خمسين عاما تفصل بيننا وبين يوم رحيلها فى الحادى والعشرين من يناير 1969 عن عمر قارب الرابعة والستين.
أما عن ملابسات رحيلها ففى الثانية من فجر الحادى والعشرين من يناير 1969 وبعد أن أضحكت مارى جمهورها كما لم تضحكه من قبل بأدائها لدورها فى مسرحية «خلف الحبايب»  اطمأنت كعادتها على قططها وكلابها التى تربيها  بالمسرح، ثم استقلت سيارة التاكسى الخاصة بها، وحينما وصلت إلى فيلتها فى حدائق شبرا أخذت تداعب أفراد أسرتها وأبناء أختها التى تولت تربيتهم بعد وفاة الأم، ثم أكلت برتقالتها الليلية المعتادة واحتضنت ابنها بديع على غير المألوف، وذهبت لتنام، وبعد ساعتين أو ثلاث استيقظ زوجها الحاج عبدالسلام فهمى على صوت غريب يخرج منها، فنادى بسرعة على أولادها الذين استدعوا على الفور الطبيب الذى أخبرهم بالنبأ الأليم، وفى صباح اليوم التالى نشرت صحيفة الأهرام نعى الفنانة الكبيرة الذى جاء نصه:
فى ذمة الله .. مارى منيب حرم عبدالسلام فهمى بالمعاش ووالدة فؤاد منيب بأمريكا وبديع منيب بالتعاونية للبترول وخالة طاهر عبد السلام المدرس بقومية المنيل وحرم عبد العزيز المهدى التاجر وقريبة عائلات نصر ومسك بلبنان ومنيب وعبدالرحمن ومهدى والحناوى بمصر، وقد شيعت الجنازة من مسجد عمر مكرم وأقيم العزاء بمنزلها 72 شارع طاهر بحدائق القبة.