الثلاثاء 23 ابريل 2024

الفلسفة.. والحياة الصحية العقلية

مقالات20-12-2022 | 13:16

الصحة العقلية.. قد تكون هذه الجملة غير مألوفة على مسامعنا بعض الشيء، فكل ما يتردد على مسامعنا من هذه الجملة هي كلمة "صحة"، وما يتكون في أذهاننا فور سماع كلمة "صحة" هو كل ما يتعلق بالجسد من آلم وأوجاع، وكيف يمكننا المحافظة على أجسامنا بصورة صحية بعيدة عن الأامراض، أي كل ما يتعلق بالراعية الصحية للجسد. هذا عن الصحة الجسدية، ولكن ماذا يُقصد بالصحة العقلية؟

الصحة العقلية هي نوع مختلف تمامًا عن المعنى السابق للصحة، وقد يرد البعض هذا النوع إلى ما يسمى بـ "الصحة النفسية". وليكن في علمنا عزيزي القارئ أنه شتان بين النوعان. هناك فرق شاسع بين النوعان: الصحة العقلية والصحة النفسية. وبعبارة موجزة، الصحة العقلية هي صمام الأمان أو هي الدرع المانع الذي يعمل على حمياتنا من الوقوع في المشكلات النفسية. والسؤال الآن، كيف يمكننا أن نحصل على هذا الدرع أو نُفعل هذا الصمام من أجل حماية صحتنا النفسية وتعزيز صحتنا العقلية؟

عزيزي القارئ هناك فرق واضح بين العلاج الفلسفي والنفسي وهو ما أشرنا إليه في مقالنا – الاستشارة الفلسفية – أو بين الطب الفلسفي والطب النفسي، كما سبق وتحدثنا باستفاضة حول الطرق التي يتبعها أو يقدمها لنا الطب النفسي في مقال الأسبوع الماضي – فلسفة الحياة.. كيف نعيش مع أفكارنا؟ – إلا أن دورنا هنا في هذا المقال هو الحديث عن الدور الذي تلعبه الفلسفة في حياتنا اليومية، والتي يمكن أن نوليه اهتمامًا كبيرًا، بل وجعل الفلسفة هي الأداة الأولى لحل مشكلاتنا، من أجل الوصول إلى حياة صحية وعقلية.

والسؤال الآن، كيف يمكن للفلسفة أن توفر لنا حياة صحية عقلية؟ ولكن السؤال الأولى أن يُسأل، ما هي متطلبات الحياة الصحية العقلية؟ أعزاءي القراء دعونا نبدأ بالإجابة عن السؤال الثاني لأنه الدرجة الأساسية التي تنقلنا إلى الدرجة الأعلى وهو السؤال الأول. إذا سُأل أي إنسان عن متطلباته في الحياة؟ لأجابنا قائلًا: "أريد أن اشترى سيارة فخمة وحديثة.. أو أريد أن أكون لدي مال أو غنيًا.. أو أريد أن اعمل عملًا إضافيًا.. وغيرها من الأحلام والأماني التي تختلف من شخص لآخر حسب مستواه الاجتماعي والثقافي أو العقلي.

وعند سؤالنا مرة أخرى لماذا تريد كل هذا؟ لأجابنا قائلًا: "لكي أنعم بالسعادة". تخيل معي عزيزي القارئ أن السعادة هي النتيجة النهائية التي يسعى كل إنسان لاقتناصها وبلوغها. وهو أمر مشروع ومكفول لكل إنسان يعيش على وجه الأرض، بشرط أن يكون الطريق المؤدي لها تحت ضوء الدين والاخلاق الإنسانية القويمة. والآن دعونا نتفق جميعًا على أن "السعادة" هي المطلب الأساسي والنتيجة النهائية لجميع أفعالنا، وهنا يأتي السؤال الأول، كيف يمكن للفلسفة أن توفر لنا حياة صحية عقلية؟ أو بعبارة أخرى، هل يمكنها الفلسفة أن تحقق لنا السعادة أو تساعدنا في الوصول إليها؟

سبق لنا الإشارة لمصطلح "الصحة العقلية" بمقالنا "الاستشارة الفلسفية" ووصلنا في هذا المقال إلى أن الصحة العقلية تتميز بالقدرة على الحب وعلى الإنشاء، وبالتخلص من الارتباط بالقبيلة والأرض ارتباطًا أمويًا، وبالإحساس بالذاتية الذي يقوم على أساس إحساس المرء بذاته باعتبارها أداته في استغلال قواه، وبإدراك الواقع داخل النفوس وخارجها، أي بتقدم العقل والنظرة الموضوعية. والسؤال الآن، هل يمكنها الفلسفة أن تقدم لنا هذا الامتيازات التي تتطلبها الصحة العقلية؟

بالتأكيد عزيزي القارئ، قدمت لنا الفلسفة طوال تاريخها نظريات وأفكار حول هذه النقطة تحديًا، وقد تحدثنا عن نموذج منها بصورة موجزة في كبسولة فلسفية نُشِرَت لنا بمجلة النيل والفرات، وهي المحاولة اللامعة في التاريخ الفلسفي بأكمله التي قدمتها لنا المدرستين الابيقورية والرواقية – تعد هذه الفلسفتان هي الأساس التي اتخذته الفلسفات اللاحقة قبلها لها – ولا بأس هنا من أن نَذْكر ونُذَكّر قارئنا الكريم بتلك العبارات، بينت لنا المدرستان الأبيقورية والرواقية أن الإنسان لكي يصل إلى السعادة لابد له أولاً من الوصول إلى حالتين شعوريتان تمكنه من بلوغ السعادة هما الأتراكسيا ἀταραξίαAtaraxia (وهي حالة من السكينة والطمأنينة وتعنى الخلو من الهموم والمشاغل) والآباثيا ΆπάθειαApathia (أي اللامبالاة).

حيث وجدت الأبيقورية أن هناك مخاوف تمنعهم من الوصول إلى الأتراكسيا ومن ثم بلوغ السعادة. وهذا ما بينه لنا ابيقور من خلال التحرر من مجموعة من المخاوف تعترض سعادة الفرد وتعوق وصوله للأتراكسيا وهي: التحرر من الخوف من الآلهة – التحرر من الخوف من الطبيعة (أي من الظواهر الطبيعية كالبرق والرعد والصواعق والسيول والانفجار البركاني) – التحرر من الخوف من الموت.

أما الرواقية وجدت أن الانفعالات هي حجر العثرة التي تمنعها للوصول إلى الطمأنينة والسكينة، وبالتالي الخلو من الهموم والمشاغل (الاتراكسيا) ومن ثم تحقيق السعادة. لذلك لابد من التحرر من الانفعالات بواسطة اللامبالاة أي الأباثيا (أي نكون غير مباليين بالأشياء العامة).

ونلاحظ هنا أن الفلسفتان الأبيقورية والرواقية وضعت أيدهما على اهم مشكلة من مشكلات العصر آنذاك وهي كيفية الوصول إلى مرحلة الصفاء الذهني لبلوغ درجة السعادة. لذلك جعلوا غاية الفلسفة في هذا العصر وسيلة للقضاء على منغصات الحياة، من خوف وقلق وغيرها من الاضطرابات التي لاحقت الإنسان في مطلع هذا العصر، بسبب أجواء الحروب الحاصلة آنذاك، ومن ثم الوصول إلى الصفاء الذهني وبلوغ درجة السعادة المفتقدة، وذلك لكي يتمكن الإنسان من تحقيق الممارسة الفعالة للفلسفة في مناحي الحياة المختلفة.

ها نحن نوجد أمام مفارقة أو قل صعوبة وهي كيف سنتفلسف (أي ممارسة الفلسفة) إذا لم نكن أصلًا سعداء؟ لكن ما التفلسف؟ إنه التأمل وإعمال الفكر والنظر، وهذا غير ممكن إذا لم يكن ذهننا فارغًا من الهموم والإكراهات الخارجية، أو إذا كنا خائفين وقلقين، تقض مضجعنا هموم كثيرة، ففعل التفلسف نفسه يفترض السكينة، أي انعدام الاضطراب، وهنا نصل إلى مرحلة السعادة.

ومع وصولنا للسعادة نصل إلى هدف الفلسفة المنشود، وهو الفعل الحقيقي الكامن وراء فهمنا للفلسفة وهو التفلسف، وبالتالي فإن التفلسف في حد ذاته سعادة، فالسعادة في الفلسفة هي فعل غايته في ذاته πρᾶξις Praxis. كما أن السعادة بهذا المعنى ليست مرتبطة بالأخبار السارة أو السيئة، فمبدؤها يوجد في الداخل وليس في الخارج، إن مبدأها يوجد في التفكير، يقول شومفور – أديب وصحفي فرنسي –: "إن التفكير يهدئ من روعنا، يشفينا، وحتى إن هو آلمنا في بعض الأحيان، فما علينا إلا ان نطلب منه الدواء، فنجده لديه". هذا هو درس الابيقورية والرواقية، وبكلمة واحدة درس الفلسفة.

وختامًا، هل يمكننا أن نطبق الفلسفة في وقعنا ونستخدمها كأداة لتكون سببًا نجني به ثمرة الحياة الصحية العقلية؟ نعم بكل تأكيد، يمكننا أن نطبق هذه الفلسفة ونأخذ منها العبرة والدليل لحياة سليمة وصحيحة، وهو ما نصل إليه بواسطة التفكير الهادئ المستفيض، فالفلسفة هي من تضمن لك المواءمة مع الواقع، وتحديد اختياراتك، بدقة والوصول لها بسهولة. وخير مثال نختم به حديثنا.. عزيزي القارئ عقلك مثل أوتار الآلات الموسيقية، والفلسفة هي تلك السيمفونية، فأختار لأوتار عقلك فلسفة تليق به، تكن خير معين نحو تفكير هادئ، وحياة سعيدة.

Dr.Randa
Dr.Radwa