رضا البهات - كاتب مصري
اختفت من الصحف الورقية أبواب طالبى وطالبات الزواج وصفاتهم الجسدية في مجتمع لا يزال يتعثر ليبراليا، وحلت الإنترنت محل هذه الأبواب. بعدما شملت الاهتمامات العملية الشباب والفتيات. أو قل بعدما قامت عمليات التجميل وملحقاتها بالواجب في المطابقة بين الخيال العام وشكل المرأة، حتى من قبل أن تتم عولمة الجسد الإنساني. وبحيث لا تزال تتصدر السوق – سوق النساء – عبارة "بيضاء ملفوفة القوام". وهو أمر لا شأن له بالتواصل الإنساني، إنما هو النخاسة في صورة عصرية.
يمكن فهم الأمر في الغرب حيث اشتهرت ممثلة مثل "مارلين مونرو" وكذا اشتهر فيلم "البعض يفضلونها شقراء" وفي الوقت الذي حافظت فيه صاحبة أقوى وأجمل صوت نسائى – ويتني هيوستن – على لونها، كان صاحب أقوى وأجمل صوت رجالي – مايكل جاكسون – يحاول الخروج من قومه ولونه بإشراف أطباء لحقن جلده بالزئبق كشخص معاد لجنسه ولنفسه. مات الاثنان، هذه على سمرتها الداكنة وهذا على بياضه المفتعل، في أمريكا بلد المتناقضات.
ما علينا.. كم منا يعرف أن المسيح عليه السلام يجرى تصويره في الكثير من الدول الإفريقية كرجل أسود وفي بعض دول أمريكا اللاتينية كرجل أسمر، عاجي البشرة. في حين تتطابق صورته وبشرته لدينا في مصر وصورته الأوروبية كرجل أبيض أشقر.
قد تظن أنه نموذج الهانم التركية الذى خلفه فينا الاحتلال العثماني، أي البياض المربرب، غير أن الغزل بهذا النموذج ورد في أشعار أقدم من زمن الاحتلال العثماني. تلك هي صورة المرأة المشتهاة مثلما تناولتها أعمال أدبية شهيرة.. رواية "البيضاء" ليوسف إدريس، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح وكذا عند توفيق الحكيم وعبد الحكيم قاسم. وبغض النظر عن دلالة المرأة هنا بمعنى الانتماء للحضارة الأوروبية، إضافة إلى أن ذوق أجيال كثيرة تربت على النموذج الأوروبي كمعيار لجمال المرأة والرجل معا، فما النموذج المصري؟
هناك المرأة اليابانية والصينية والهندية والإفريقية واللاتينية... إلخ. بشكل عام في هذه الشعوب ملامح تمثل لها الذوق والجمال. فاللاتيني مثلا تأسره السمرة العنبرية والشعر الغزير المسترسل، وكذا عند الجنس الأصفر. ونحن الآن نتحدث عن الشكل الخالص ودعك من المحتوى الذى أساسه التواصل الإنساني. وفي كل الحالات لسنا بصدد المرأة الفرعونية التي نعرفها من الجداريات القديمة. وليست أي صورة عربية أخرى للمرأة باستثناءات طبعا.
عموما، فقد جعل "فولني" في القرن الـ18 المصريين من أصل زنجي، بينما جعلهم "فيفان دينور" من أصل قوقازى ثم جعلهم "ديسفرى وبلين لوجين" أحفادا للجنس الكلتي. ثم انتهي إرنست شانتر في القرن الـ19 إلى أن أصلهم إفريقي وإن كان ثمة اختلاط آسيوى، ورأى أن ذلك لم يغير من طبيعة الجنس المصرى.
وأفاض الأب "هنرى عيروط" في وصف فلاحى مصر وكأنهم تتمة للتماثيل والأصنام الفرعونية.. وكأن المصرى اليوم نسخة من المصري القديم. مما حدا بباحث مثل "مورجان" في دراسته للخصائص الجسدية للمصريين إلى أن الفرعونية هي أصل الجنس المصري. وهو ما أخذه عليه أحمد رشدى صالح في كتابه "فنون الأدب الشعبى" بأنه بهذا يهدر التطور في تاريخ المجتمع المصرى، غير أن الثابت هو اعتبار البياض والشقرة نموذجا لجمال المرأة في الريف أيضا. إلى حد أن هذا كان مثار تندر من رفاق الجيش علينا أبناء مدينة المنصورة.. كانوا يداعبوننا بالقول: لويس عدى عليكم أثناء الحملة الفرنسية.
وبالطبع ورث أكثر الرجال تلك الصورة للمرأة الجميلة وبالطبع أيضا ليس لأحد أن يملي صورة للجمال على أحد. فلكل شخص أو شخصة أن يسعى إلى الجمال كيفما يتخيله.
عموما لقد عاينت – وليس سمعت – سعي شباب الإخوان المسلمين أواخر التسعينيات وأيام اندلاع حرب البلقان إلى الزواج من إحدى الفتيات المجلوبات من البوسنة والهرسك وقد خلفتهن الحرب مشردات بأحد المجمعات بالمنصورة. ولم يكن الزواج من إحداهن يكلف سوى مئات الجنيهات. وكن جميعا شقراوات ملونات العيون بما يطابق خيالا تربت عليه عاطفة هؤلاء الشبان ثم يقول الواحد منهم: أسعى إلى الزواج من إحداهن نصرا للإسلام. بينما أقربهن إلى الإسلام تنطق بالكاد "لالاه إلا الله موهاماد رسولاه". حتى سرت طرفة بين أبناء المنصورة آنذاك.. لماذا لا ينصرون الإسلام في الأخوات الصوماليات أو السودانيات. وكانت الحروب على أشدها أيضا في تلك البلاد.
أضيف.. ألا ينبغي نصرة الإسلام أيضا في مصريات تجاوزت أعمارهن 35 عاما وبحسب الإحصاء الرسمي بلغن 5،9 مليون فتاة بغير فرصة زواج؟ الغريب أن المصريات أيضا تعتنقن النموذج الرجولي المشابه في الأدب الشعبي وغير الشعبي، حتى أن صورة مهند ونور – بطلي المسلسل التركي – وجدت آنذاك على موبايلاتهن. نقول إن هذا الخيال أبعد بكثير من الاحتلال العثماني والأوروبي معا فماذا يكون؟!
كان هذا موضوعا لمناقشة قبل ربع قرن في عيادتي المجاورة للمنصورة. جمعتني بزنجية أمريكية كانت حديث العالم وقتئذٍ هي أنجيلا ديفيز ومساعدتها أستاذة الباليه ديبورا والدكاترة نوال السعداوي ومنى أبو سنة والصحافيات سنية البهات ومنى حلمي وعدد آخر من الإعلاميات.
ثم تجددت ذات المناقشة بعد ذلك على أحد مقاهى المنصورة، بيني وبين الناقد الراحل فاروق عبد القادر وفؤاد حجازي والشاعر يوسف وهيب والقاص سعد الدين حسن والاشتراكي القاص صبحي مشرقي. في المرتين قيل كلام كثير ولم يظفر أحدنا بيقين. وظل السؤال قائما: لماذا يحتل نموذج المرأة البيضاء خيال أكثر الرجال.. ويكلف الزواج من مثلها أكثر مما يكلف من غيرها! بفارق اليوم أنها صارت " بيضاء نحيفة القوام"، وليس تلك التي تزدحم بهن مثلا حفلات أم كلثوم في الستينيات مثلا! حتى إن مذيعات التليفزيون والإعلاميات يصبغن شعورهن أصفر وتتطابقن إلى الصورة السائدة ذكوريا عن المرأة الجميلة.
ويظل السؤال قائما: هل هناك نموذج مصري للجمال؟
أرجح أننا بصدد نموذج دينى ترسخ في الوجدان المصري. فثمة الحور العين مثلما وصفهن ابن عباس في كتيبه عن رحلة الإسراء والمعراج، وكأنما يصف بنات غربيات الملامح. فالحورية تكون بيضاء ولشدة بياضها ترى الماء في عنقها وهي تشرب، يعني بيضاء شفافة، عليها شفوف ملونة... إلخ. عموما ليس بينهن سمراوات أو سوداوات. خاصة أن الديانة اليهودية وصفت المرأة الجميلة أيضا بذات الأوصاف. وقد ورد في الأدبيات الدينية كثيرا تعبير "... ولو كان عبدا حبشيا" دلالة على قلة شأنه. وورد أيضا "وأهدى أمير المؤمنين جارية بيضاء" ثم إن الكثير من الأسر العريقة تحرص إلى اليوم على اقتناء سائق أسود اللون. أو خادم أو خادمة ذات بشرة سوداء والواقع والسينما مليئان بهذه النماذج.
أتراه نموذجا دينيا توارثته الديانات الثلاث السماوية؟ والمعني أننا محتلون عاطفيا بنموذج أخروي نسعى إليه في الدنيا. تربينا عليه عاطفيا حتى صار ذوقا. حتى ولو كان الواقع يلهمنا نماذج أخرى بحسب الظروف الجغرافية لكل شعب.
لو أن الحال هكذا لماذا لم يستمر توارث نموذج المرأة الفرعونية مثلما نراه على جدران المعابد إلى اليوم؟ هنا ربما ينقذنا دارسو علم الاجتماع بل حتى التاريخ مما أسميه هذا الاستلاب الذوقى والثقافى أو هذا الاحتلال العاطفى للرجل والمرأة معا.
فمنذ ما قبل عام 525 قبل الميلاد. حطت على أرض مصر واختلطت بشعبها أربعون قومية مختلفة. لم يوجدوا جغرافيا فقط، إنما اختلطوا بنا ثقافيا وجنسيا وعرقيا مما أثمر في تعدد نماذج المرأة والرجل معا. وبحيث أن ملاحظتي تلك تقتصر على الدولة الحديثة فقط والتى شهدت بقايا الذوق التركى ثم الإنجليزي والفرنسي. فلم تخلص مصر مثلا إلى سمائها الموروثة ولا ذوقها السابق!
باختصار.. هذا الاستلاب العاطفي هو الصورة الدينية للمرأة كما ورد في النصوص التي تصف الحور العين في الآخرة.
الحقيقة أن كل الأشياء تتداخل بحيث لا يتغير الذوق والعاطفة بالكلام وحده. إنما بتحقيق الاستقلال الاقتصادى والسياسي مما يساعدنا على تبلور الذوق كأمة لها ملامح غير عبودية حتى ولو تعددت أصولها. على الأقل حتى نكون قادرين على أن نحب أنفسنا وليس نماذج لسنا منها وليست منا، صنعت فينا ذوقا وميلا لسنا منه وليس منا. أكثر من هذا فإن التعددية في قضايا الفكر والطبائع – نضيف بالمرة والأذواق – هي الأصل في التكوين المصري. وانظر إلى نماذج الرجال والنساء.. البحاروة مثلا غيرهم في الدلتا، غيرهم في بدو سيناء وفي الواحات ومطروح غيرهم في الصعيد غيرهم في أقصى الصعيد. وهو شيء غير التبعية لنموذج دينى أخروى أو عثماني أو احتلالي.. هكذا نحن بصدد تبعية تعمل عميقا وتورث ذوقا وعاطفة.
أترانا محتلين عاطفيا إلى اليوم؟!