السبت 23 نوفمبر 2024

مقالات

الميتافيزيقا.. والفلسفة الوضعية (1 – 2)

  • 27-12-2022 | 10:07
طباعة

الميتافيزيقا Metaphysics، أو علم ما بعد الطبيعة هو العلم الذي يتأمل الموجودات اللامحسوسة والماورائية، وهي أيضًا معرفة الأشياء في ذاتها، لا معرفة الظواهر التي تتجلّى من خلالها هذه الأشياء، وهي دراسة الأشياء من منظور الأزل، أي من حيث هي جواهر وماهيات ثابتة وأزلية، لا من منظور تاريخي وزماني. فالميتافيزيقا عمومًا هي البحث في المطلق واللامشروط، وبحث في المبادئ والعلل الأولى لجميع الأمور.

أما الفلسفة الوضعـية Positivism يطلق عليها أوجست كونت (1798 – 1857) وهو مؤسسها اسم العقيدة الوضعية، وهي مذهب يرى أن الفكر مناطه الواقع، وأنه عجز عن الكشف عن المبادئ والعلل الأولى والغايات النهائية، انصرف عن الميتافيزيقا والدين، واكتفى بالواقع بالبحث في ظواهره، ويكشف عن العلاقات بينها، ويتحرى قوانينها، وأنه لذلك قد مر بمراحل ثلاث، كان في الأولى لاهوتيًا، وفي الثانية ميتافيزيقيًا، وهو الآن في المرحلة الوضعية.

والسؤل الآن، هل هناك علاقة تربط بين "الميتافيزيقا" و"الفلسفة الوضعية"؟ إجابتنا عن هذا التساؤل ستجعلنا نقوم بعمل نقاش موسع، نوضح به الميتافيزيقا كما قدمها لنا "ديفيد هيوم"، وكيف أسس الوضعيون المنطقيون فلسفتهم عليها.

ينتمي "ديفيد هيوم" (1711 – 1776) لفلاسفة الاتجاه التجريبي، وقد سبقه من الفلاسفة التجريبين: فرانسيس بيكون، وجون لوك، وباركلي. والتجريبية موقف يخص نظرية المعرفة، يقرر أن المعرفة الجديرة بهذا الاسم، أو المعرفة الحقيقية هي التي تأتي عن طريق التجربة أو الخبرة، أي عن طريق الأدراك الحسي. وكافة الأفكار الموجودة في الذهن الإنساني نستطيع أن نجد لها أساساً في تجربتنا الواقعية، أو بتعبير آخر هي نتاج لإدراكاتنا الحسية. وعلي ذلك فالتجربة هي المصدر الأول والأساسي للمعرفة وليس العقل.

بمعني أننا نجد هيوم أعتنق الاتجاه التجريبي الذي يرد كل معارفنا إلى التجربة، مما جعله يعتقد بأنه لا يوجد معرفة يقينية، فإذا افترضنا مع هيوم بأن جميع المعارف الإنسانية تنشأ من الحواس، فإنه يتضح لنا أهمية التحليل باستخدام المنهج الشكي لمبدأ السببية Causation الذي أستخدمه هيوم.  والسؤال الآن، كيف استطاع هيوم تحليل المعرفة؟

لقد رد هيوم المعرفة الإنسانية إلى مصدرين أساسيين هما: الإحساس Sensation والأفكار.Ideas ونعني بالإحساس ما نطلق عليه الآثار الحسية للحواس أو الانطباعاتImpressions ، فالحواس تأتينا بالمادة الخام من أحاسيس تسلك إلينا هذا الطريق أو ذاك إذ تهجم الأحاسيس على العين والأذن والجلد وغيرها، فتصل إلينا خليطاً، ولو وقف الأمر عن هذا الحد لما كانت معرفة، لكن هناك وراء الحواس "العقل" لابد أن يكون قد جهز بمقولات – أو قوالب – تنصب فيها مادة الإحساسات فتكون بذلك علماً سوياً، كما تنساق حروف المطبعة فوق صفحات الكتاب على نسق معلوم، فإذا هي معان لا مجرد أحرف مفككة متناثرة  

فكل واحد سيوافق بسهولة على أن ثمة فرقاً عظيماً بين إدراكات الذهن حين نحس ألماً من حرارة زائدة أو لذة من حرارة ملطفة، وحين نستعيد فيما بعد بالذاكرة ذلك الإحساس أو حين نتوقعه بالمخيلة. بإمكان الملكتين هاتين أن تحاكيا أو تنقلا إدراكات الحواس لكن ليس بإمكانهما أن تبلغا قوة الإحساس الأصلي وحيويته.

 فالانطباعات والأفكار كلاهما في نظره من نوع واحد. اي أن الانطباعات أقوي في العقل أثراً وأوضح ضهوراً. أما الأفكار فهي الصور الباهتة لهذه الانطباعات. ولا يمكن أن تنشأ في العقول أفكار إلا إذا سبقتها انطباعات. إذاً فالانطباعات هي المرجع الوحيد الذي نقيس به صحة الأفكار وحقيقتها. ولكن هل معنى ذلك أن هناك أنواع مختلفة من الإدراكات؟

ميز هيوم بين نوعين من الإدراكات هما، الإدراكات البسيطة والإدراكات المركبة. فالبسيطة هي التي لا تقبل القسمة او الانفصال. أما المركبة فهي التي تنقسم إلى أجزاء. فمثلاً: أدركنا "التفاحة" يشمل مجموعة من الصفات الخاصة بلونها وملمسها ورائحتها وهذه الصفات لا تختلط ونستطيع دائماً أن نميز الواحدة من الأخرى. لذلك فكل إدراكاتنا لها وجهان: بوصفها انطباعات حسية وبوصفها أفكاراً.

 فهذا هو – في نظر هيوم – المبدأ الأول والأساسي الذ يقوم عليه الطبيعة البشرية. وهذا المبدأ ينفي ما كان يتردد بين المفكرين من وجود أفكار فطرية في العقل. ويؤكد أن كل الأفكار تأتي إلينا عن طريق الإحساس والتفكير.

 ولهذا يدور تفكير هيوم على تحليل المعرفة كما تبدو للوجدان خالصة من كل إضافة عقلية، وفقاً للمبدأ الحسي، وعلى تقدير قيمة المعرفة تبعاً لهذا التحليل ومن جهة صلاحيتها لإدراك الوجود مع العلم "بأن شيئاً لا يحضر في الذهن إلا أن يكون صورة أو إدراكاً" على ما يقضي به المبدأ التصوري، فمذهبه يرجع إلى نقطتين: حسية وتصورية، كمذهب لوك ومذهب باركلي، إلا أنه أدق تطبيقاً للمبدأين وأكثر جرأة في مواجهة نتائجهما الشكية، حتى أعلن الشك صراحة.

  ورأى بعض النقاد أن هيوم أنتهي في نظرية المعرفة إلى الشك بسبب تأملاته الفلسفية الكثيرة، وخاصة وأنه لم يستطيع تبرير وجود العالم الخارجي تبريراً منطقياً، أو وجود نفوسنا أو حتى صحة العلوم التجريبية. فلم يجد هيوم مخرجاً غير أن يلجأ إلى الغريزة والعادة والتسليم بصحة أبحاث العلوم الطبيعية وعودة الثقة إليه وإلى مناهجها الدقيقة.

وكذلك سلم بأن السلوك الإنساني يسير وفق قوانين منظمة كقوانين العلوم الطبيعية، وحاول أن يطبق قوانين العلوم الطبيعية ومناهجها علي العلوم الاجتماعية كما حاول ذلك إميل دوركايم وأوجست كونت، هذا عن نظرية هيوم في المعرفة، ماذا عن نظريته عن النفس؟

أنكر هيوم وجود الجوهر الروحي أو العقلي، كما أنكر وجود الجوهر المادي بالمعني الذ يقوله لوك، فمن ينادي بالجوهر الروحي ينادي بوجود نفس بسيطة لا تنقسم ويستمر بقاؤها في غمرة تبدد الأفكار والتصورات والرغبات وبقية الحالات النفسية والعقلية. وينكر هيوم العقل أو النفس بهذا المعني، أي بمعني الجوهر البسيط الباقي لأنه ليس لدينا انطباع حسي أو فكرة عن بساطة النفس أو خلودها أو ديمومتها، وبمعني آخر أصح وأدق يبدو أن هيوم يريد القول بأن النفس بهذا المعني أمر لا يمكننا إثباته إثباتاً برهانياً كما أنه أمر لا نعرفه بخبرة حسية.  

 وبهذا نجد هيوم يشرع تحليلاته بالكشف عن المقدمة الأولي التي بني عليها الميتافيزيقيون أوهامهم حول النفس الإنسانية، والتي تعتبر نقطة الانطلاق بالنسبة لكل براهينهم. وقد وجد في "خبرة الشعور بالذات"، فالإنسان يشعر دائماً بذاته أو نفسه شعوراً لا يشوبه أدني شك، وهذا الشعور ليس بحاجة إلي دليل أو برهان؛ لأن النفس التي يشعر بها المرء هي أساس كل إحساس، أو إدراك، أو انفعال، أو عاطفة.

 وعلى ذلك قام هيوم بنفي وجود الأنا تلك الوحدة الماهية التي اعتقدنا دوماً أنها مصدر الفكر والمعرفة ومصدر كافة أفعالي. فيقرر هيوم أن الذات أو الأنا كهوية واحدة باقية عبر الزمن لا وجود لها، ونفس الشيء بالنسبة للنفس كجوهر باق ومستقل. أي أنها محض أسماء أو تصورات أطلقها مجازاً على كيان متغير ومشتت ولا يوجد به أي وحدة أو استمرارية باقية خلال الزمن.

 هذا عن الميتافيزيقا كما بينها لنا "ديفيد هيوم"، ولكن كيف قراء الوضعيون المنطقيون الميتافيزيقا؟ وهل كانت قراءتهم هذه منصفة أم كانت هجمة عدائية بغرض رفضها وانكارها؟ سيكون هذا هو موضوع مقالنا القادم.

الاكثر قراءة