الخميس 25 ابريل 2024

شعوب السوشيال ميديا وصناعة الرأي العام

مقالات8-1-2023 | 19:42

منحتني خاصية تكرار السفرات ميزة الاحتكاك بحضارات وثقافات متعددة، فالتنوع في الرؤى والاختلاف في سبل المعيشة جعلني مفتوحة الأفق للجميع متمسكة الجوانب بشخصيتي ونشأتي ومعتزة بهما، أرى وأتابع وأُدرِك وأُعجَب وأَنبُذ وأَتَقَبَّل وأرفُض، وقد أصمت وقد أتحفظ، ففي النهاية أتنقل بين دولة وأخرى حاملة معي هويتي وثقافتي، لا يجبرني أحداً على اعتناق أيدوليجية أو تبني سلوك لا يتوافق مع أفكاري ونشأتي.

   فمثلاً في خلال فترة إقامتي بالاتحاد السوفييتي السابق في الثمانينات، كان كغيره من المجتمعات الشيوعية المنغلقة، لم يكن مسموحاً لأحد التواصل مع أي شخص بخلاف المواطنين الروس، وكانت حياتهم قاصرة على العمل المفرط الذي له صفة القسوة في المضمون أو ساعات العمل أو بيئة العمل ذاتها، أما خلال فترة إقامتي بدولة الإمارات خلال التسعينات فكان الأمر على النقيض، برغم أنها كانت فترة تعد نوعاً ما انتقالية ما بين الانغلاق على الثقافة العربية الخليجية التي لها صفة التحفظ، وبين الانفتاح على العوالم الأخرى متخطين بذلك كل الحواجز الثقافية وغيرها.

وشيئاً فشيئاً، نما الأمر وكبر حتى صارت دول الخليج الأسرع في نمط التحول المعيشي والثقافي وتقبل أفكار العولمة، وتبعات ثورة الاتصالات ليصبح العالم أصغر من كونه حتى قرية صغيرة، ذلك بانتشار وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة التوجه وخواص الاستخدام، فالحدث الحاصل في أقصى الغرب اللاتيني، يمكنك أن تعرف صداه في أقصى الشرق الأسيوي، والتغريدة التي توها نشرت على تويتر من قِبَل مغرد أوروبي، يمكن لمتصفح أفريقي أن يرد عليها، وهكذا.

حتى صارت الشعوب تستقي أخبارها، وأحلامها، ورموز قدوتها من على صفحات السوشيال ميديا الزائفة في معظمها، بل وإعادة نشر كل تلك التفاصيل وإبداء الرأي والتحليلات من باب مشاركتها مع الآخرين، تلك العادات التي أصبحت بمثابة الثوابت في حياتنا جميعاً، حتى باتت أحد أفراد الأسرة المقيمين معنا افتراضياً، في حين عزلتنا عن أفراد الأسرة الحقيقيين، غيّرت في مفاهيمنا وعقائدنا وأفقدتنا حواس الإدراك وإعمال العقل والتدبر، فخلقت منا رأياً عاماً هشاً رخواً لا يرقى لمستوى الحدود الدنيا من الوعي المطلوب بقدر التحديات المتغيرة يوماً تلو الآخر وساعة تلو الأخرى.

وفي خطٍ موازٍ، فإنه يمكنك بسهولة إدراك مدى الشبه بين طبيعة ثقافة كل شعب، وطبيعة ارتباطه بنمط بعينه من السوشيال ميديا، فالمصريين مرتبطين بشكل أساسي بتطبيق فيسبوك لما هو معروف عنهم بالميل لكثرة الأحاديث وتناقل الأخبار والشائعات وإبداء التحليلات والآراء الشخصية، هذا بخلاف طبيعتهم الفكاهية التي يوفرها لهم الفيسبوك بسهولة من خلال تنظيم بوستات مصورة ثابتة وفيديوهات متحركة تحمل الفكاهة بين طياتها، كما تحمل مقومات صناعة النكتة التي يشتهر بها المصريون في كافة تفاصيل حياتهم.

وأهل الخليج مثلاً، يميلون بكل طاقاتهم وإمكانياتهم إلى استخدام تطبيق سناب تشات على وجه التحديد، الذي يعتمد بشكل أساسي على خاصية نشر الصور مع إجراء تعديلات جوهرية في تقنية الصور وجودتها، الأمر الذي يعكس ميل أهل الخليج إلى الاستعراض بمقومات الثراء المعيشية والقدرة على الشراء بلا حدود ولا شروط.

أما معظم الدول الأوروبية والغربية بشكل عام، فيميلون إلى استخدام تطبيق تويتر، بالنظر لاستخدامه نطرية ما قل ودل في كتابة التغريدات، واضعين في ذلك معاييراً لاستخدام حداً أقصى من الكلمات والتعليقات، وهو ما يعكس أيضاً ميل الغرب للاختصار في الحوارات والتعبيرات اللفظية، وميلهم إلى العمل بقدر يفوق بكثير ميلهم إلى العلاقات العائلية أو الإنسانية، أو حتى التواصلات البشرية وجهاً لوجه.

الأمر الذي يؤكد في مجمله على أن صناعة السوشيال ميديا من الأساس قد أتت لتوجيه الرأي العام العالمي الشعبي لا صناعته، وفقاً لنظرية الحقنة تحت الجلد، كلٍ بحسب "علم نفس شعبه وثقافته المعيشية"، خلافاً لقوانين البيئات الصالحة التي تصنع وعياً شعبياً ثم تترك الميول والتوجهات بحسب معايير إدراك ورغبة الأمم، وصالحها الذي يتناسب معها قبل كل شيء.

معركة الوعي التي لا تنتهي هي معركتنا الحقيقة في مواجهة أي تحديات تم تصديرها لنا عن طريق كابلات الإنترنت لصناعة رأي عام موجه عن طريق ريموت كونترول صانعه، حتى وإن بدت تلك التحديات هي طوق النجاة أو حقنة التخدير التي تمنحنا السعادة المزيفة أو التغييب الطوعي.

Dr.Randa
Dr.Radwa