الإثنين 25 نوفمبر 2024

ثقافة

قراءة في ديواني «همس العيون ومن وحى اللقاء»

  • 11-1-2023 | 21:08

د. هشام محفوظ

طباعة
  • د. هشام محفوظ

ونحن في معرض قراءة ديوانَي الشاعر صلاح البيلي "همس العيون"و "من وحي اللقاء" تجلت لنا  أنفاس العشق للكلمة الشعرية   تمور بين مكنوناتها جملة من الإيحاءات المعبرة عن موقف الناص/الشاعر ..مما استدعى حضور هذه الكلمات التي تؤكد جدوى رحلتنا القرائية في أعماق الصياغة داخل هذين الديوانين.   الصياغة الشعرية لا تأتي من فراغ،فهي متجمع عام -من خلال اللغة- لكل موروث موغل في التراثية، بالواقعي والذاتي مع الحداثي ،في حضور ما يسمح بحضور المتلقي/القارئ الضمني.
ولقدٰرِِ من المُحددات اللازمة نسوق ما 
قد أورده الدكتور مصطفى ناصف في كتاب "النقد العربي نحو نظرية ثانية" إذ يقول:
"الشعر الحديث يرْعَى الشعرَ القديم ،لا ينفصل أحد الجانبين عن الآخر بحالِِ ما.
الشعرُ الحديث وجهٌ من وجوه تفسير الشعر القديم "ص٢٣٢
و كذلك يقول دكتور أحمد درويش في مقال له عن مستويات شعر الغزل عند العقاد بمجلة عالم الفكر -الكويت -المجلد ٢١-العدد٣-١٩٩٣ص١١٨:
"لا شك أن نظرية الشعر كانت من أكثر النظريات التي حظيت بجانب كبير من نشاط النقد و الإبداع معا.."
ولذلك فنحن- في ضوء هذه الرؤى لدى الناقدين الكبيرين- نضع في الحسبان ،ونحن نقرأ أي إبداع -حتى هذه اللحظة - مصطلحَ "النظم "الذي ورثناه عن عبد القاهر الجرجاني .
نعتمد في ذلك على مقولة الأستاذ الدكتور محمد عبد المطلب في كتابه "قراءات أسلوبية في الشعر الحديث" :
"إن مصطلح النظم الذي وصل به عبد القاهر الجرجاني إلى قمة النضج ،يؤدي مهمة مصطلح الشعرية على وجه أدق".
ويضيف الدكتور محمد عبد المطلب إلى ذلك فيحدد وظيفة "الشعرية" بقوله:
إنها هي التي تعمل على رصد الإجراءات التي تنظم ولادة العمل الأدبي..
وهي عملية تحركِِ واعية داخلَ الخطاب الأدبي ،تتحسس خيوطه التي تذهب طولاََ وعرضََا مكونة شبكة كاملة من العلاقات ذات فعالية متميزة ،حيث تكون اللغة هي الوسيلة والغاية معا"ص ١٣
من هنا فالديوانان يقودانِنا إلى أن نتساءل ،والتساؤل هو أحد أشكال مغزى القصيد عندالشاعر"صلاح البيلي"كيف تشكلت عناصر الإدهاش والإمتاع في هذه الصياغة الشعرية ؟افتح ما شئت أيََا من هذين الديوانين ،تجد شاعرََا لا يخاطب الفراغ ،بل يخاطب قارئا عصريا تناوشه وسائل ترفيه وتسلية ومعرفة جمة،هي من مستحدثات هذا العصر.

شاعرنا يقول في الناحيةالخلفية لغلاف ديوان" همس العيون":

(محبوبتي
أنت الشفا
و الأرض يا محبوبتي
طوع الهوى
لولاك ما كانت تدور .)همس العيون ص١٧
فيكررالشاعر" محبوبتي" مرتين-مع تعمد حذف أداة النداء- موجدا ذلك النداء الاستثنائي الصاخب بالإجلال لتلك المحبوبة الشافية ذات المقدرة على أن تجعل دوران الأرض طوع هواها ومرادها ،ولمَ لا ؟فهي هامسة العينين،وفق ما ذكر الشاعر داخل النص وعلى غلاف الديوان.
التساؤل الحاضر الآن في ذهنيتنا القرائية..هل هي محبوبة شافية لأنها
"حورية ،تروي العطاش ،تروي ألف ليلة،تحكي حكايا شهرزاد.."؟
ربما.وربمالأن الكون الشعري في صياغته الفنية هو كون خاص..ف
"الطير يرقص بالصباح
والورد ينصت للنجوم "
همس العيون ١٩
الهمس إذ يخرج من السياق الصوتي إلى السياق المرئي في صيغة "همس العيون" هو ذلك التكوين اللغوي الجديد المحقق لشعرية النص 
كما يقول الشاعر في قصيدة "إني شهيد"بديوانه"من وحي اللقاء":
مر عام أو يزيد
ما زلتَ تسري في الوريد
ما زال طيفكَ يحتويني
ما زلتُ أحبو كالوليد
حاولت أنسى ،كيف أنسى
يا قبلة العشق الشهيد!
الديوان ص٥٩
نحن أمام ما يشبه التقاء روح بروح ليسود أجواء التلقي ذلك الحب الذي يخلص الذات من القلق.
"لكن قلبي مذ رآك
هيج البحر الجليد"
الديوان ص٦٠
إنه التماهي مع الطبيعة في فضاء مجازي قد حققه الشاعر عن طريق تماهي أنفاس قلبه الحارة بالبحر الجليد..ليَخرج كل من القلب والبحر عن طبيعتهما إلى طبيعة الشعر الفاعل للإدهاش.
    فالشعر الحقيقي تكوين لغوي يتسم بالخصوصيه، فالعلاقات في هذا التكوين اللغوي لا تجعل منه  شعرا إلا لكونها علاقات ذات طابع خاص.. فنجد  -أحيانا - مفردات تتجاور فيما بينها تجاورا على خط الكتابة في الديوان ،أو المدونة ،و بين تلك المفردة والأخرى قدر من التناقض..مما يصرف عن القارئ منطقية التلقي..لكنه يلتذ بالحضور الاندهاشي الذي يمثل شرطا من شروط كون ذلك التكوين أدبا قصصيا فنيا أو شعرا.. ولذلك فالتقنية الفنية في الشعر يتجاور فيها الخيالي الذي هو من نتاج إعمال ذهني أو تخيلي إلى جوار ذلك الطبيعي المستمد من الطبيعة أو من ذاكرة المبدع أو مما قد وقع تحت مؤثر كالإعجاب أو الاندهاش..
 فالشعر الحقيقي يحمل في ثناياه المعاني والدلالات الرمزية...
نقول ذلك ونحن بمعرض تناولنا لديوانين شعريين ينطويان على قدر من الشعرية..للشاعروالقاص صلاح البيلي..
الشاعر صلاح البيلي من الشعراء الذين يمتلكون دقة انتقاء الكلمة،  نتيجة تذوقه الشديد للجمال بمعناه الشامل، فلقد اهتم بفنه الشعري، وأجاد إجادة مدهشة في بناء وإعداد وتركيب عباراته وجمله،في ديوانيه "همس العيون"و "من وحي اللقاء"
وذلك الاهتمام لدى الشاعر صلاح البيلي قد استحق - منا - التأني والتروي في قراءته و دراسته بحثا عن مكامن الإبداع فيه ،وسبل إنتاج الدلالة وظلال المعاني.
في ديوان "من وحي اللقاء"وتحديدا في قصيدة "بيعة الحب "نجد فيضا شعريا أشبه بالمد الصوفي الذي يستمد قدرا من تساؤلاتهم الرمزية ومفرداتهم
قالت: أعلمك الغرام وفنه
كيما تحن إلى شراع سفينتي
هل أنت طفل في المحبة لا هيا
لا زلت تعبث عند رد تحيتي؟
ويقول:
وإذا دنوتَ لقطف زهر محبتي
فالزم تعاليمَ الغرام بجنتي
سأقص دستوري عليك لألأ
تدنو وهاديها العبير ونفحتي
في المادة الأولى عليك بداية
حفظ العهود إذا خلوت بجلوتي
من وحي اللقاء ص٧٢-٧٣
تتجلى في هذه الكلمات التجربة الصوفية وتحديداً عند قول الشاعر: "عليك بداية حفظ العهود إذا خلوت بجلوتي"
فالخلوة والجلوة من الألفاظ التي لها تجليات في التجربة الصوفية،ويكثر ورودها في معاجم الألفاظ والعبارات الصوفية.
الشاعر صلاح البيلي مولع- فيما يبدو- بالتعبير عن أعماق مكنونات الروح من خلال هذا الاستخدام الذي يؤكد تغلغل روح المحبة في هذا الوجدان الذي تمكن من الوصول إلى بيعة الحب تعبيرا عن وصول الذات/الشاعر إلى إشراقة القلب بمقاومة النفس والشيطان والماديات و الأنا الموغلة في معاداة الخير..
فللنفس تحدياتها التي قد تعوق مسار الأنوار  والأسرار، فيستثقل القلب العبور إلى مدارج المحبة.
واذا كان الجليّ في اللغة ضد الخفيٌ، فلقد جمعهما الشاعر في هذه القصيدة ليؤكد حصول تلك البيعة الواردة في العنوان، في نسق يُستجمع فيه البعيد والقريب ،والخلوة والجلوة، الخفاء والتجلي،  في نقطة واحدة هي سبيل الشاعر إلى مقاومة النفس التي تشكل عثرة من عثرات الماديات.

...............
في هذين الديوانين من وحي اللقاء وهمس العيون نجد وحدات دلاليةذات صلة بالحب والطبيعة والكون، حيث لا يقيد الشاعرَ شئ، وكأنما في قلبه الشعري قدر لا يستهان به من التشوق إلى تخطي المحدود إلى اللا محدود..
ففي ديوان "همس العيون "في قصيدة
"الذي لا يعرفه التاريخ عن قطز"
يقول الشاعر:
الخوف يسكن حجرتي 
وأنا أخاف من الدخول
إني أخاف الاقتراب 
وأخاف تحركا نحو العذاب
ووقفت نحو الباب أسأل
 ظلي المرسوم فوق عجينة الأرض الخراب:
(هل أنت ياظلي أنا 
أم أنت تشكيل الأشعة في التراب
ها أنت أطول من مسلات الفراعنة الشداد
أما أنا 
فأضيع تحت الأحذية 
هل أنت تسبقني أنا 
أم ضلت عيوني الاهتداء؟!)ص٤١-٤٢
ويقول في النص نفسه ص٤٤
"يا نفس إن حكايتي
فوق الزمان"
وقوله:
حتى لا يقتلني الخوف
فليمت الخوف على خوفي
وليمت الروم ُعلى سيفي
كفي مقبرة للتتر
لن يعبر جسدي الأقزام 
 الروم وأبناء التتر
سأصنع ما عجزت عنه
بغدادُ الملأى بالحرس
الديوان ٤٥-٤٦
نحن أمام نص يهيم بحرية التاريخ مغروسا في أرض حرية حاضر شعري لغوي تتحرك مفرداته حركة لا تخلو من امتصاص شجاعة التراث متمثلا في القائد "قطز" ..ومن ثم فإن صلاح البيلي يتماس - في الإعلان عن الشجاعة -مع شاعر العربية أبي الطيب المتنبي عند قوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم 
أما شاعرنا  البيلي فيجعل أعداءه أقزاما ،و يزيد على ذلك بمخالفة جدوده الأقدمين الذين قرنوا الكرم بالكف ،جاعلا من كفه مقبرة للأعداء للتتار..
إنه التماهي العصري الآني في قطز التاريخي ،بتحايث الواقعي بالخيالي ،بتلقائية لغوية أراد لها الشاعر أن تتحرك حرة في صياغة ذلك المعنى.
نحن بصدد خطاب لغوي شعري لافت يفيض بالغنائية والذاتية ،تكمن شعريته في دقة توظيف الدال التاريخي "قطز"لمواجهة درامية واقعنا العربي والإنساني المعاصر المترع بالتحديات. 
الشاعر لا يخاصم تراثه ولا تنقطع صلته بواقعه، فهو يجمع بين هذا وذاك، بحساسيه و بضمير لا يكف عن القلق بشأن مجافاة البعض للتراث بحجة العصرية ،فنجده يوقر الحكايات القديمة التي وردت على لسان أمه:
"قالت: لطالما غنيتُ لك 
ونسجتُ أحلاما عليك
وقطفت أزهار الربيع 
غلالة في معصميك
ورويتُ لك ..
أحلام كل السابقين
أهلي وأهلك والجدودِ الخالدين
أحلامَ ست الحسن والشاطر حسن
أحلامَ عنترة 
أحلام شيخِ بني هلال
ورويت لك..
أسفارَ كل المرسلين
موسى وعيسى والنبي
صادقِ الوعدِ الأمين"
همس العيون ص٧٥-٧٦


.....    ........
 لكل شخصية من هذه الشخصيات الواردة في تلك القصيدة"وصية أمي" إرث وفير بالحِكم والحكايات الشعبية والدينية والتارخية،فهي ذات صلة بشبكة مركبة ذات بناء دقيق إلى أقصى درجة يتأسس على عمق خيالي متماسك لدى شاعر يدرك ماذا يصنع بلغته وتاريخه ،وكيف يوجه خياله، وكيف يدير ذاته وتاريخه لصياغة معاني الحب، ومحاورة الطبيعة والتاريخ والحاضر  في خطابه الشعري الذي جمع بين رؤيتين متضادتين ،بين الصوفية والتاريخية ،والواقعية الحداثية.
الشاعر الصوفي عالمه مجرد مطلق بالفعل النوراني ،والشاعر الحديث عالمه متحول بفعل التاريخ والحراك الحضاري والمادي بالفعل الإنساني.
في قصيدة" من وحي اللقاء"يحصل على ما يريده الإنسان في هذا الكون عندما ينجح في لقاء يتسم بالحصول على اللامحدود حيث الإمداد والقوة بتحقق المصافحة فيكون البحر والساقي -معا - بمقدرة على الإبحار الآني في الماضي و الآتي..معا..وماكان ذلك اللقاء ليتحقق إلا بمنطق الشعر.
إنه لقاء الاكتمال الذي يستدعي من ذاكرتنا القرائيةلدينية ما قد جاء في تراثنا العربي بشأن كلمات ككلمات كعب بن زهير للنبي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في قصيدة "بانت سعاد" فأنشد:
 بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
إلى قوله:
والعفو عند رسول الله مأمول 
فسعد الرسول بقصيدته وخلع عليه بُردته الشريفة..
 و كذلك فيما توارثناه في الروايات الصحيحة بشأن لقاء سيدنا موسى- كليم الله - بالعبد الذي هو من عباد الله، فمنح هذا العبدُ سيدَنا موسى من كنوز أسرار الأسرار-من الخالق تبارك وتعالى إذ بيده الملك وهو على كل شيء قدير -الأمورَ الثلاثة التي وردت في سورة الكهف..
يقول الشاعر صلاح البيلي في أجواء كتلك من مجزوء بحر الوافر- فيما يشبه الوارد النوراني الشعري الذي سجله دفقة واحدة سجلها-ليلا - على حرف صحيفة مطوية وهو في المواصلات  آخر ديسمبر سنة ٢٠١٧:
أصافح كفها حذرا 
كأني صائم أفطر
فتُغرقني بجدولها
فأشرب حتما أسكر
ذكاءُ فؤادها أحيا
 عهودَ البسط مجلوة
وأسلمني لغايات
طوال الدهر مرجوة
بصرتُ بها شيخي
هي الإمداد والقوة
تكشف ما خفى مني
من الماضي من الآتي
ويتلو لسانها حالي
هي البحر.. أنا الساقي
نظرتُ الحسن أجمعه
وبُحتُ بسر عشاقي
وفيت لها بها صبا
فنت من أجلها ذاتي
محت ما كان من أمسي
فزالت كل مآساتي
وسار المشتهى فني
وصارت عطريَ الآتي
ديوان من وحي اللقاء ص٥٨
الكلمات تشي بتحقق شاعرنا في التحام جسده بنورانية المُلتقى التحاما فنيت فيه ذاتُه بوفاء تلك الذات للعهد ولأبحُر أنوار المعرفة..مثبِتا شاعرُنا أن الأمر من نور اللقاء و إليه:
"وفيت لها بها صبا"
وكانت النتيجة أن حضرة هذا اللقاء:
"محت ما كان من أمسي "أي تم محوُ كل ما قد يعوق المسار لنجاح الوصول  إلى حيث تحقـِق اللقاء..لكي يتم فيه سحق و محق ومحو أية مأساة..وهذا ما قد تحقق .
و"الفاء"في قوله:
"فزالت كل مأساتي " دليل على سرعة التحقق والسرعة في استجابة مَن مِنه الإمدادُ والقوة.
كأنما الشاعر يتشوف انبعاثا حضاريا تنهض فيه الإنسانية من غفوتها وكبوة ماديتها المنصرفة عن أنوار موجدها في الكون ..
هو يَنشد التحامَ هذا العصر وتلك الإنسانية بنورانية الحق والخير والجمال للخروج من آثار الهم التاريخي و الآني و صولا إلى الإمداد والقوة لاستقبال الآتي ب
"عهود البسط مجلوة"حيث
"غايات
طوال الدهر مرجوة"
من هنا فالديوانان يقدمان خطابا شعريا لافتا يفيض بالغنائية والذاتية بواقعية تمتص من خلال دقة انتقاء الدوال و صياغتها في بناء و إعداد وتركيب عباراته الشعرية لإنتاج الدلالة العامة لمحتوى شعري جاد يضيف إلى ذائقتنا الشعرية مرافئ جديدة للمعنى يتجلى "من وحي اللقاء" قرائيا  لمن يصغي ل"همس العيون" .

أخبار الساعة

الاكثر قراءة