الخميس 21 نوفمبر 2024

مقالات

إهناسيا العاصمة المغمورة.. إحدى أهم عواصم مصر فى العصور القديمة


  • 12-1-2023 | 17:28

إهناسيا

طباعة
  • د. منال إسماعيل

• كانت إهناسيا موجودة وذات أهمية منذ عصر ما قبل الأسرات فقد ورد ذكرها بالمصادر المصرية القديمة منذ بدايات التاريخ، وذُكرت على حجر بالرمو مقترنة باسم أحد ملوك الأسرة الأولى 

• أخذت إهناسيا منزلتها بين العواصم خلال العصر المتأخر بفضل وضعها الاستراتيجى على الخريطة السياسية آنذك فكانت تهيمن على المنطقة المتاخمة لأراضى كهنة آمون بمصر العليا والسفلى

• أسفر تنقيب البعثات بجبانتها بمنطقة سدمنت الجبل عن العديد من الاكتشافات الأثرية المهمة التى وزعت على العديد من المتاحف المصرية والعالمية، وقد وصفها البعض بأنها تعوم على بحر من الآثار

هى إحدى مدن محافظة بنى سويف بالجهة الغربية على بحر يوسف تقع على بعد سبعة عشر كيلو مترا بالقرب من مدخل محافظة الفيوم، كانت عاصمة للإقليم العشرين من أقاليم مصر العليا "الوجه القبلى" ثم أصبحت عاصمة  لمصر لمدة تقارب قرنين من الزمان حيث حملت لواء القيادة كعاصمة امتد نفوذها ليشمل الدلتا ومصر الوسطى فى الفترة من2452 وحتى 2242 قبل الميلاد، عُرفت فى النصوص المصرية القديمة بعدة أسماء منها نن نسوت وتعنى "الطفل الملكى" أو حت نن نسوت بمعنى "مقر الطفل الملكى"، كما عُرفت باسم إهناس أو إهنيس والتى حُرفت لتصبح إهناسيا باللغة العربية "إهناسيا المدينة" كما عُرفت أيضاً بأم الكِمان لأنها تضم العديد من الأكوام الأثرية، أما فى فترة حكم الإغريق لمصر وعلى عادة الإغريق فقد عُرفت باسم هرقليوبوليس أى مدينة الإله هرقل ذلك لأنهم اعتادوا على إيجاد روابط بين معبوداتهم والمعبودات المصرية القديمة فربطوا بين معبود إهناسيا "حر حرى شف" والذى يحمل العديد من الألقاب ومن بينها "الذى هو فوق بحيرته" وهو ما يساوى الإله هرقل، كما أن من ألقابه "ملك القطرين" و"بارئ الملكية الأول" وذلك حين يقترن بالمعبود رع حور آختى، كما تُعد مكان التسعة ملوك الذين اختارهم حر حرى شف وعينهم.

ورد ذكر إهناسيا بالمصادر المصرية القديمة منذ بدايات التاريخ فقد ذُكرت على حجر بالرمو مقترنة باسم الملك دن أحد ملوك الأسرة الأولى حيث يذكر زيارة له لموقع البحيرة المقدسة المنتسبة إلى المعبود حر حرى شف فى مدينة "نن نسوت" مما يؤكد انها كانت موجودة وذات أهمية منذ عصر ما قبل الآسرات.  

تجلى دور إهناسيا كعاصمة لمصر فى فترة الأسرتين التاسعة والعاشرة من عصر الانتقال الأول حيث امتد نفوذها على مصر الوسطى والدلتا فى عهد الملك "ختى" مؤسس الأسرة التاسعة والبيت الإهناسى وذلك خلال الصراع مع حكام طيبة من ملوك البيت الطيبى وهو ما عُرف تاريخياً باسم الصراع الطيبى الإهناسى والذى انتهى بانتصار البيت الطيبى وتأسيس الدولة الوسطى علي يد الملك "منتو حتب الثانى نب حبت رع"، وقد وردت أحداث ذلك الصراع فى السيرة الذاتية للحاكم "عنخ تفى" حاكم الإقليم الثالث من أقاليم مصر العليا وكان حاكماً على الفنتين وأدفو وأرمنت فى عصر الأسرة العاشرة وكان موالياً للبيت الإهناسى وحليفاً لهم.

ثم استعادت إهناسيا منزلتها بين العواصم خلال العصر المتأخر بفضل وضعها الاستراتيجى على الخريطة السياسية آنذك فكانت تهيمن فعلياً على المنطقة المتاخمة لأراضى كهنة آمون بمصر العليا والسفلى وحتى الحيبة ، وفى فترة حكم الليبيين بالأسرة الثانية والعشرين سيطر ملوكها على حصونها ومعاقل الدفاع فيها كما أنهم اسندوا لأبنائهم المناصب المحلية المهمة بها ومن بينها وظائف الكهنوت للمعبود الرئيسى بها حر حرى شف ، أما فى العصر الصاوى وخلال حكم الأسرة السادسة والعشرين فقد أصبحت إقطاعية خاصة لأحد القادة الأقوياء المكلفين بتحصيل الضرائب الملكية وهو " تف نخت" مما أتاح له الفرصة للاستيلاء على السلطة وتأسيس ملكه وأسرة حاكمة جديدة، ولإهناسيا مكانة دينية مهمة حيث لعبت دوراً مهماً فى أساطير الخلق ونشأة الكون لدى المصرى القديم، فقد ارتبطت بعدد من الآساطير فهى وطبقاً للآساطير المصرية القديمة هى البقعة التى ظهرت عليها الشمس لأول مرة حين خلق الإله السماء والأرض، وعلى أرضها توج الإله أوزوريس، وعلى أرضها أُعلن حورس ابنه ملكاً على البلاد، كما ذكرت إحدى الرديات البطلمية بدندرة أن إحدى المعارك الكبرى بين حورس وست وقعت على أرضها ومنها بدأت المعبودة سخمت المنتقمة بأمر من المعبود رع تأديب البشر حين سخروا من رع كما جاء بأسطورة هلاك البشرية، ورغم زوال دور إهناسيا السياسى إلا انها ظلت تحتل مكانة دينية مهمة على مر العصور وخاصة فى العصرين اليونانى و الرومانى وهو ما تؤكده الآثار التى عُثر عليها بالمنطقة، وكما أنها كانت ذات مكانة دينية وسياسية مهمة فقد احتلت مركزاً مرموقاً فى الأدب والثقافة، فقد ارتبطت بها واحدة من أهم الأعمال الأدبية فى التاريخ من أدب النصح والإرشاد وهى ما تعرف باسم "نصائح ختى لابنه مرى كا رع" وهو ختى الرابع أحد ملوك الأسرة العاشرة والتى تعد من أهم النماذج الأدبية التى وصلتنا من الأدب المصرى القديم مكتوبة على ورق البردى، والتى تعد نموذجاً لما يجب أن يتبعه الملك ليكون حاكماً صالحاً، جاءت فى شكل نصائح من الملك لابنه تحمل خلاصة تجاربه لتعينه على الحكم حين يصبح ملكاً، ومما جاء بها من وصايا  أن يكون مرناً فيتبع القسوة مرة والرحمة واللين مرة فكلاهما مطلوب فى الحاكم ، وان يتحلى بالثقافة والمهارة فى الخطابة لأن وكما جاء " حدة اللسان أقوى من حدة السيف، كما يوصيه بالناس خيراً لأن حبهم يكسب الإنسان الثقة فى النفس، كما يوصيه باتباع العدل وإنصاف المظلوم وردع الظالم ، كما يحذره من الشخص الثرثار لأنه يسبب الانقسام بين الناس، وكما نصحة بما يجب ان يكون من أمر المُلك حذره من الحساب بعد الموت لأن أعمال الإنسان هى التى تؤدى به إلى الجنة أو الجحيم ، ثم يحثه على ما يعد من أهم النصائح للحاكم فى كل عصر وكل زمان ومكان وهو الاهتمام بالشباب والعناية بهم وتقريبهم منه وإغداق الهبات عليهم ويحذره من عدم التمييز بين الثرى والفقير منهم لأن الشباب دائما أمل كل أمة وعمادها ووقودها وحملة تاريخها، وأما ختام النصيحة فكان الإيمان بالإله مذكراً إياه  بنعمه وفضله، ومن الأعمال الأدبية المهمة التى وصلتنا و تنتمى لتلك المدينة العظيمة قصة القروى الفصيح وهى من أشهر النماذج الأدبية التى أنتجها لنا المصريون القدماء والتى وصلنا منها العديد من النسخ المختلفة منها نسخة محفوظة بالمتحف البريطانى فى بردية باتلر الشهيرة مما يؤكد على أهميتها حتى لدى المصرى القديم نفسه، والتى تخلُص إلى نتيجة مهمة وهى أن الفلاح ما كان ليشكو الموظف الذى اغتصب أملاكه لولا تأكده من إنصاف الحاكم ليعبر لنا عن العدل فى تلك الفترة، كما أنها تريد أن تبرز اهتمام الحكام بالأدب وتمجيد البلاغة والفصاحة، والفلاح هو "خو ان انبو" فلاح من وادى النطرون كان متوجهاً إلى إهناسيا لشراء احتياجاته، وأما الموظف الذى اعترضه وسلبه متاعه بالقوة فهو "جحوتى نخت" فبكى الفلاح وكتب إلى صاحب الضيعة التى يعمل بها جحوتى يشكوه بصيغة بليغة نقلها صاحب الضيعة بدوره إلى الملك الذى اُعجب بفصاحة الفلاح فطلب منه عدم الرد وإمهاله حتى يخرج كل ما لديه من تعبيرات حتى بلغت الشكاوى تسعاً، تميزت بأسلوبها البليغ عندها أجابه الملك ورفع الظلم عنه ورد إليه ممتلكاته وعاقب الموظف على ما اقترف من عمل. 

 أما عن أهميتها السياحية والأثرية فعند دخولك للمدينة تجد البوابات تستقبلك بفارس يقود عربته الحربية التى يجرها جواد فى لمحة فنية تومئ إلى أهمية المدينة الأثرية ، أما عن المنطقة الأثرية بها فتبلغ حوالى 390 فداناً، وكان الأثرى السويسرى إدوارد نافيل هو أول من قام بالحفريات بها تلاه الأثرى فلندرز بترى، وقد أسفر تنقيب البعثات بجبانتها بمنطقة سدمنت الجبل والتى تعود للعصر المتأخرعن العديد من الاكتشافات الأثرية المهمة التى وزعت على العديد من المتاحف المصرية والعالمية حتى أن البعض وصفها بأنها تعوم على بحر من الآثار وهو ما أشاع فيها عمليات التنقيب غير القانونية وعرض آثارها للسلب، ومنها تمثال للملك رمسيس الثانى يضع تاج الوجه البحرى الأحمر وهو محفوظ حالياً بمتحف المتروبوليتان للفنون بنيويورك، وعدد من أوانى الأحشاء وتماثيل الأوشابتى والحلى بالإضافة إلى العديد من التماثيل المعدنية، ومن أهم معالم إهناسيا الأثرية معبد للمعبود حر حرى شف كانت نواته الأولى فى عهد ملوك الاسرة التاسعة ولكن أعاد تشيدة الملك امنمحات الأول وسنوسرت الأول من الأسرة الثانية عشرة، أقيمت به توسعات فى عهد الأسرة الثامنة عشرة ، وأعيد بناؤه فى عهد الملك رمسيس الثانى كما تم تجديده واستبدال بعض أجزائه فى الأسرة الثالثة والعشرين من العصر المتأخر، كما تم عمل ترميمات له خلال العصرين اليونانى والرومانى، ومعبد يونانى يحوى أربعة أعمدة من الجرانيت الأحمر، وأخيراً بها مخزن مهم  للآثار.

تلك هى إهناسيا القديمة الحديثة المتجددة تلك العاصمة المنسية التى آن لنا أن نكشف عنها النقاب لتنال من الشهرة ما تستحق ومن الاهتمام بها كمقصد سياحى أثرى ما يتناسب ومكانتها.         

أخبار الساعة

الاكثر قراءة