الثلاثاء 3 ديسمبر 2024

ثقافة

حاتم السروي يكتب: توماس إليوت والأرض اليباب.. ثورة الشعر الرائعة

  • 16-1-2023 | 12:59

حاتم السروي

طباعة
  • حاتم السروي

قد يسمع البعض هذا الاسم لكنهم لا يعرفون عن صاحبه الشيء الكثير.. "تي. إس. إليوت" الشاعر الأمريكي والناقد الكبير وأحد أبرز الأدباء المؤثرين في مسار الحياة الأدبية بالقرن العشرين وأيضًا الكاتب المسرحي، المولود في السادس والعشرين من سبتمبر لعام 1888 والمتوفى في الرابع من يناير لعام 1965م، وقد ذاعت شهرة قصيدته "الأرض اليباب" في الآفاق، وهي بلا شك إحدى أعظم القصائد في العصر الحديث، وقد ترجمت إلى لغات كثيرة..


وبالإضافة إلى "الأرض الخراب" كتب "توماس ستيرناس إليوت" – وهذا هو اسمه الحقيقي غير المختصر- قصائد لا تقل روعة، مثل: الرباعيات الأربع- أربعاء الرماد- أغنية حب إلى جي "وهي الأولى من بين قصائده العظيمة" على أن قصيدته "الأرض الخراب" والتي يحلو للبعض تسميتها بـ "الأرض اليباب" تفوقت في شهرتها ولا تجد دارسًا للأدب إلا وهو يعرف عنها شيئًا ما، قل هذا الشيء أو كَثُر، وقد كان لها تأثير واضح على كثير من الشعراء المحدثين في العالم، وفي المنطقة العربية أثرت هذه القصيدة على رواد الشعر المعروفين لدينا في النصف الثاني من القرن الماضي: صلاح عبد الصبور في مصر- وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي في العراق- ونزار قباني في سوريا- والفلسطيني محمود درويش.


والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا تأثر كل هؤلاء بالأرض اليباب؟ أي سحر منحته لنا هذه القصيدة وأي دهشة إبداع جعلتنا نستمتع بها ونتحد معها وجعلت شعراءنا الكبار يتأثرون بها على هذا النحو؟ لقد مثلت هذه القصيدة فتحًا في الشعر الحديث، حيث لمست بحنان قلب الأشياء لتقف مع الإنسان في آلامه وآماله بما هو إنسان، لا بما هو أمريكي أو إنجليزي، ولقد أجابت هذه القصيدة على سؤال الأدب في كل العصور: "ما الإنسان؟" ويمكن القول بارتياح أنها كانت قصيدة برئية مثل الأطفال عبقرية مثل إليوت، وإليوت كان بدوره طفلاً، ولولا ذلك لما أبدع هذه الأيقونة.


وحتى نعي أهمية هذه القصيدة في غنائها للإنسان علينا أن نعرف أنها كتبت عام 1922، أي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وجاءت لتشهد على البؤس الذي وصل إليه الإنسان المعاصر، فالتصنيع الذي سعى إليه ليعيش حياة أفضل في إطار المدنية الحديثة زاد من تلوث البيئة وحَوَّل البشر إلى آلات، والحضارة الغربية التي سعت إلى تحقيق مصالح الرجل الأبيض حملت قيمًا تعادي الإنسانية، وليس معنى هذا بالطبع أن يتخلى الإنسان عن التصنيع والآلات، أو أن يلعن الحضارة الغربية بكل منجزاتها المعرفية والتقنية، وإنما كان مغزى القصيدة هو رصد حالة التشيؤ والاغتراب وسحق الإنسان في العصر الحديث وفي القرن الذي شهد حربين عالميتين قتل فيهما الملايين وأصبحت الأرض خرابًا فجاءت قصيدة "الأرض الخراب".


وشهرة "إليوت" في الشعر لا تتفوق على شهرته ناقدًا، فكما كان عبقريًا في قصائده، كان بالمثل في تنظيره النقدي، وقد وضع مشروعًا نقديًا فاعلًا كانت ثمرته نظرية واضحة المعالم مفهومة المبادئ وقريبة إلى متناول النقاد والمبدعين على حدٍ سواء، ثم كان إضافةً إلى الشعر والنقد الأدبي كاتبًا مسرحيًا، وقد ترجمت أعماله المسرحية إلى اللغة العربية، ولعلك سمعت عن مسرحيتيه اللتين ترجمهما الراحل "صلاح عبد الصبور": "حفل الكوكتيل" و"جريمة قتل في الكاتدرائية" بل لعلك تلمح تأثر عبد الصبور بهما في مسرحيته الشهيرة "مأساة الحلاج" وفي الواقع كان صلاح عبد الصبور من عشاق إليوت، وهذا مفهوم وطبيعي نظرًا لعبقرية هذا الرجل، فهو بحق منظومة إبداعية متكاملة وشخصية آسرة بكل المقاييس.


وفي الوقت الذي كان "عزرا باوند" يشرف على مجلة "الشعر" نشر "إليوت" أولى قصائده المهمة، أعني قصيدة "أغنية حب إلى جي.ألفريد بروفروك" و"جي" هو اختصار لاسم المحبوبة التي يتغنى لها في القصيدة، تمامًا مثل "تي" وتعني "توماس" وهو اسم العبقري الذي نتحدث عنه الآن، وقد تحدث عنه "عزرا باوند" قبلنا وأعجبته قصيدته في "جي" ودعمه أدبيًا منذ تلك اللحظة التي نشر فيها القصيدة على صفحات مجلة "الشعر" وقد تناول إليوت بالنقد أعمال صديقه "باوند" الذي ساعده في تنقيح النسخة النهائية من قصيدته الأكثر شهرة على الإطلاق "الأرض الخراب" فلذلك رد "إليوت" الجميل لصاحبه وكتب عنه " عزرا باوند.. شعره وموسيقاه".


وفي مسرح "إليوت" والذي آثر أن يكتبه شعرًا لا نثرًا نرى تمرده على "الواقعية" ومع أن التيار الواقعي كان في وقته مالئ الدنيا وشاغل الناس، وكان الشائع أن يقال: "المسرح مرآة الحياة" كشف "إليوت" عن أوجه اعتراضه، فالمسرح ليس محاكاة للواقع كما هو، والحياة مليئة بالعشوائية والفوضى، في حين أن المسرح نظام وتحديد وعمل مُرَتَّب، وهو ليس قطعة من الحياة؛ وإنما هو في الحقيقة "قطعة مُكَثَّفة من الحياة" وبذلك أعاد "إليوت" الشعر إلى المسرح، وسار على منواله في ذلك وفي المنحى الإنساني اللافت الراحل "صلاح عبد الصبور" واتخذ "إليوت" وجهة سلفية إن جاز التعبير بأن أعاد المسرح إلى ما كان عليه في زمن "يوربيدس" و"سفوكليس" و"إسخيلوس" مع أن الغالب على كتاب المسرح في عهد إليوت هو كتابة أعمالهم نثرًا، وقد ولد "بيرنارد شو" المسرحي الإنجليزي العظيم قبل إليوت بإثنين وثلاثين عامًا، ولم يكن يكتب المسرح نظمًا، وقد اتهم البعض "إليوت" بالرجعية! مع أننا حين نقرأ أعماله لا نجد هذه الرجعية ولا أي شيء منها، والأبطال في مسرحياته شخوص بشرية من لحم ودم وليسوا ملوكًا ولا آلهة ولا أنصاف آلهة، ولا يبدو أي تأثر لإليوت بالتراجيديات الإغريقية القديمة في هذا المنحى، وإنما عاد إليوت بالمسرح إلى الشعر لاعتراضه على المحاكاة المطلقة للواقع ولرغبته في السمو بالفن المسرحي، ولا شك أن في الشعر ارتقاء لأن الشعر لغة الإحساس والرقي والنبل الإنساني.


وكان "إليوت" في شعره الرقيق يكتب بكل الألفاظ المتاحة له، ويعتقد أن كل الكلمات صالحة للكتابة الشعرية، وستجد في قصائده عبارات يستخدمها الإنسان الغربي في حياته اليومية، ويرى بعض النقاد في هذا الأمر نوعًا من الجسارة الأدبية، ونظرًا لتأثر صلاح عبد الصبور بإليوت فقد استخدم هذه "الجسارة" وأوغل فيها حتى أنه قال في إحدى قصائده: "فشربت شايًا في الطريق، ورتقت نعلي..إلخ"! ونرى ملامح هذه الجسارة أيضًا في أشعر نزار قباني ودرويش. ألم أخبركم أن هذا الشاعر كان ساحرًا قوي التأثير في شعرائنا المعاصرين؟!


ولا تخلو شخصية "إليوت" الإبداعية من بعض المكر الفني؛ حيث ابتكر "القناع" الذي يلبسه المبدع حتى لا يصطدم مع المجتمع وأعرافه، أو مع الحكام في عصره، هذا القناع يسميه "إليوت" بـ "المعادل الموضوعي" وهو الشيء الذي لا يجعل من الكاتب رجلاً صداميًا، وإنما يتكلم من خلال هذا القناع وليس مباشرةً من خلال مشاعره الخاصة ومواقفه الشخصية من الحياة، ويكون هذا المعادل من خلال شخصية فنية أو تاريخية كما نجد عند "صلاح عبد الصبور" في "مأساة الحلاج" وله أيضًا " قصيدة الخروج" وفيها يبدو هذا القناع الإليوتي، كما يبدو في قصائد هذا الجيل عمومًا تأثرهم بفكرة "السيناريو والحوار" التي ميزت شعر "إليوت" هذا الشاعر العظيم.

 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة