السبت 1 يونيو 2024

أهالى «الغنيمية» و«الطوبجى»: «عاوزين حق ولادنا»

19-8-2017 | 16:39

تقرير : سناء الطاهر

حتى صباح الجمعة الماضى، كانت الحياة فى شوارع قرية الغنيمية، التابعة لمجلس محلى “الرحمانية”، مركز أبو كبير، بمحافظة الشرقية، عادية، لا جديد يذكر فى القرية، إلا أنه ما إن انتصف النهار، علت همهمات بين الأهالى، تحولت بعد دقائق إلى صرخات متتالية، وخطوات متسارعة، معلنة التحرك تجاه الإسكندرية، لتبدأ رحلة البحث عن جثث ذويهم بين عشرات الجثث التى لقى أصحابها مصرعهم فى حادثة تصادم قطارين.

ساعات ثقيلة مرت على أسرة “عطية” التى لم تكن قد ودعت الحزن بعد، فقبل أيام قليلة فقدت عمها، وهو ما استدعى قدوم “منى” وأطفالها الثلاثة “لوجى وجودى وياسين” وطفلى شقيق زوجها “بسملة ودنيا”، لتقديم واجب العزاء ، على أمل البقاء فى القرية عدة أيام، على أن تعود مرة أخرى لاستكمال حياتها فى الإسكندرية فى منزلها، ومع زوجها الذى منعته ظروف عمله من القدوم إلى القرية وتقديم واجب العزاء، لكن القدر كان له رأى آخر، فـ”منى” لن تعود لمنزلها مرة أخرى، والأطفال الخمسة، لن ينعموا بـ”حضن أبيهم” بعد الآن، بعدما ضمتهم قائمة “المتوفين فى حادث قطار الإسكندرية”.

آلم فقد “منى” وأطفالها الثلاثة، لم يكن الوحيد الذى “وجع قلب” أهالى القرية، فظروف غياب الزوج، دفعت شقيقها “عبد الله” لتحمل مسئولية إعادتها إلى منزلها فى الإسكندرية، ليستقلوا سويا القطار رقم ٥٧٦، لتكون رحلته الأخيرة فى الدنيا، غير أن جرعة الألم لم تنته، فلا يزال “عبد الله” فى عداد المفقودين، بعدما فشلت الأسرة فى العثور على جثته بين الجثث التى تم نقلها إلى المشرحة، أو بين الأشلاء التى خلفتها الحادثة، لتعلو أصوات أثناء مراسم دفن “منى” والأطفال الخمسة “جثة عبد الله فين؟!”.

اليوم.. فى شوارع “الغنيمية” .. أصوات تلاوة الذكر الحكيم، تخرج من غالبية بيوت القرية، الوجوه التى تقابلك فى الشارع مكتسية بملامح الحزن، لا مكان هنا إلا للألم، وداخل منزل عائلة “عبد الله” لم يختلف الأمر كثيرا، إلا الصرخات التى تشق صمت المكان، بين الحين والآخر، وصوت بكاء “أهل البيت” على من رحلوا، ومن لم يعثروا على جثته بعد.

“زينب” الشقيقة الكبرى لـ”منى” لم تستطع تحمل الأخبار المتتالية عن مصير عائلتها، تنتابها بين فترة وأخرى، حالة انهيار وبكاء هستيري، تصرخ بأعلى صوتها منتظرة رد شقيقتها الراحلة عليها، منتظرة سماع ضحكات الأطفال الصغار، الذين كانوا قبل أيام قليلة يملأون المكان ضجيجا، لكن يرتد إليها الصدى محملا بما تبقى من آهات الحزن، ولا جديد آخر يذكر.

بعد محاولات عدة لتتملك مشاعرها، صمتت”زينب” لحظات الحزن جعلتها وكأنها ساعات، أنهتها بصوت واهن متقطع: “منى” كانت متزوجة من ابن عمتها ويعمل حلوانيا فى الإسكندرية، وجاءت إلى القرية لتقديم واجب العزاء فى عمى، وقبل مغادرتها القرية، فوجئت بها تصر على زيارة كل أفراد العائلة، وأصدقائها فى القرية، ولم أكن أعرف أنها تودعنا، وتودع الدنيا بأكملها، حيث كانت ابتسامتها حاضرة، وكانت تلعب مع الأطفال، رافضة نصائح أمى التى كانت تردد على مسامعها جملة واحدة “اكبرى بقى واعقلى”، لترد عليها “ لأ.. كده أحسن”.

التقطت “زينب” أنفاسها المتعبة المتلاحقة، فى محاولة منها للسيطرة على حزنها، وأكملت: شقيقتى كانت حاصلة على شهادة من معهد فنى صحى، وعملت ممرضة ٣ سنوات، ، وكانت متسامحة وحنونة إلى أبعد مدى، إلى جانب حرصها الدائم على الاستماع للقرآن الكريم، وتزوجت ابن عمتى لتربى بناته، وتبنى معه أسرة، ولم تكن تسمح لأحد يوما ما أن يواجهها بحقيقة أنهما “مش ولادها”، وأذكر أنها خرجت من البيت فى المرة الأخيرة ممسكة ابنها بيد، وفى اليد الأخرى تعلقت أيدى البنات.

وعندما مر قطار الحديث بـ”محطة شقيقها عبد الله”، لم تتمالك “زينب” نفسها، ودخلت فى موجة بكاء وصراخ، وبعد أن هدأت، قال: “ احنا راضين بقضاء الله، لكن اخويا عبدالله فين لااحنا عارفين عايش وله ميت دورنا عليه فى كل مستشفيات البحيرة وإسكندرية ومش موجود بين المتوفين أو المصابين، وعملنا محضرا ، ومافيش خبر لحد دلوقتي، ولا فيه مسئول كلمنا أو طمنا عليه، بأشوف التليفزيون وأسمع ناس تقول الإسعاف جه بعد الحادث بعشر دقايق ده كله كذب الإسعاف مجاش إلا بعد ساعتين والأهالى هما اللى نقلوا المصابين بعربياتهم ولفوهم ببطاطين وملايات، ودلوقتى بيتكلموا عن تعويضات وهى التعويضات هترجع اللى ماتوا.. عبد الله لسه ناجح فى الثانوية”.

أحمد السيد.. ابن عمة “منى”، التقط طرف الحديث، بعدما تمكن الحزن من “زينب” ومنعها من الكلام، وقال: “عبد الله، المسئول عن أسرته منذ وفاة والده ولم يكن بعد تجاوز عامه السابع، وعمل نجار مسلح وربنا قدره وجهز أخواته البنات، وقررنا ما نعملش عزاء لحد ما نعرف مصير عبد الله”.

الحاجة سناء.. خالة “عبد الله”، بوجه تكسوه علامات الحزن الشديد، قالت: “عبد الله كان زينة الشباب، وكان بيتمنى دايما أنه يدخل الجيش علشان يموت شهيد ، وأمه لسه قاعدة فى إسكندرية ورافضة ترجع غير لما تلاقى جثة عبد الله.. إحنا بيوتنا اتخربت.. وقلوبنا اتحسرت”.

الدقائق التى تحدثت فيها بقية العائلة، تمكنت خلالها “زينب” من السيطرة على حزنها، وقالت: شقيقى أحمد بينه وبين عبد الله عام واحد فقط، وكان الاثنان أقرب إلى التوأم، و”أحمد” أصيب منذ وصول خبر عبد الله إليه بانهيار عصبى، و”بيخبط راسه فى الحيط”، وشقيقى الأصغر إبراهيم منذ وقت الحادث “لا بيتحرك ولا بيتكلم”، و أنا أناشد الرئيس عبد الفتاح السيسى، وأقول له “ياريس نريد حق ولادنا”.

كما دخلنا.. خرجنا من قرية “الغنيمية” وتلاحقنا أصوات التعازى المتبادلة بين أهالى القرية، وآيات الذكر الحكيم، لنصل بعد دقائق إلى قرية “الطوبجى” التى تبعد عن “الغنيمية” بمسافة صغيرة، وكان لها هى الأخرى نصيب من الحزن، بعدما فقدت الطفل عمر صبرى عبداللطيف شعلان، وأصيبت والدته وشقيقاته فى الحادثة ذاتها.

فى “الطوبجى” استقبلنا د. على شعلان، أستاذ التحاليل الطبية، كلية الطب، جامعة السويس، عم الطفل الراحل وقال: دفنا عمر فى العاشرة من صباح يوم السبت، ولا تزال شقيقتاه “سارة ويمنى” بمستشفى ناريمان بالإسكندرية لتلقى العلاج، قرر الأطباء بتر القدم ليمنى بنسبة ٩٠٪ ، وبعد حوار دار بيننا انتهينا إلى إجراء تثبيت خارجى لجميع الكسور الموجودة دون اللجوء إلى عملية البتر، أملا فى نقلها لمستشفى متخصص فى تلك الحالات لتفادى البتر .

والد “عمر” الذى يبدو أنه لم يتخط بعد آثار الصدمة، قال بصوت مهزوم: أسرتى غادرت القرية صباح الجمعة متجهين إلى الإسكندرية، برفقة شقيق زوجتى وأولاده، وما هى إلا ساعات قليلة وجاءنى اتصال هاتفى يخبرنى أن القطار الذى تستقله الأسرة تعرض لحادثة كبيرة، فأسرعت ومعى عدد من أقاربى إلى مكان الحادثة لنفاجأ بما حدث.

وبعد محاولات فشلت جميعها، لم يستطع الأب تمالك نفسه، لينهار، ويقول: “ابنى حبيبى وقرة عينى، كان رايح يصيف فعاد جثة هامدة وشقيقته فى حالة خطرة وباقى أشقائه مصابون.. : إهمال مسئولى السكة الحديد دمر حياتى وأسرتى” مطالبا وزير الصحة بتبنى حالة ابنته “يمنى” التى تعانى من كسور مضاعفة برجلها اليسرى ونقلها لمستشفى عين شمس التخصصى لأن حالتها تندرج تحت تخصص وزير الصحة.

أما محمود مصطفى شعلان، موجه بالتربية والتعليم، عم الطفل عمر ، فاكتفى بقوله: ما حدث يجسد ما وصل إليه المسئولون بالحكومة المصرية من إهمال فى شتى المجالات.