يتساءل طه حسين فى حديث الأربعاء منْكرا ومستنكرا ومتعجبا، من رجل قضى حياته بين الإغماء والجنون، ويتمكن من هذا الشعر المتقن بسماته وجمالياته الفنيتين
القراءة اللغوية النقدية لما نسب إلى الشعراء المجانين من شعر تتجه بالنص إلى نتيجتين، إحداهما تصريح الشاعر بصفة المجنون، والثانية إحلال العقل محله الجدير به في العملية الإبداعية
نقول مجنون ليلى، ونتحدث عن الشعراء المجانين، وفي الوقت نفسه ننظر إلى الشعر، بوصفه تجربة لغوية، وثيق الصلة بالعقل، لذا ربط اللغويون بين الكلمة والكلام، أو اللفظ المفيد، أو النظْم، من ناحية، وتمام المعنى والإفادة، وتعلق الكلم بعضه ببعض، من ناحية أخرى، كما هو عند ابن هشام الأنصارى، في معني اللبيب عن كتب الأعاريب، دار الفكر ببيروت ط5 1979، ص 490، وما بعدها، وفي الإعراب عن قواعد الإعراب، تحقيق علي فودة نيل، الرياض 1981، ص 35، وجعلوا العقل نقطة الارتكاز، فقالوا: كلام الرجل وفود عقله (جمع وفـْد)، كما ورد عند أبى زيد الأنصارى فى النوادر في اللغة، تحقيق محمد عبد القادر، الشروق، القاهرة 1981، ص227، بينما أرجع عبد الله بن عباس العلْم إلى اثنين: قلب عقول ـ بفتح العين ـ ولسان سئول ـ بفتح السين ـ وهما بصيغة المبالغة، وعلى العكس أفاض الجاحظ في أحاديثه وطرائفه الناقدة عن: النّوْكى والحمقى والعيى والخطل وضرْب المثل بسحبان في البيان وباقل في العيّ، وأفاض في وصف الصفات العقلي كالأهوج وغيره، 1/ هامش 225.
لكنهم حين تحدثوا عمّنْ تقبل روايته اشترطوا "الثقات". أما الاحتجاج بالقول فراجع إلى ملكة الإبداع، لذا قبلوا اللغة من المجانين، ورووْها، فاستشهدوا بشعر قيس بن ذريح مجنون ليلى، كما ذكر السيوطي في المزهر، تحقيق البجاوى، وزميله، الحلبى، د.ت 1/137، وربطوا بين القلب والعقل، فقالوا: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعتْ فى القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تحاوز الآذان، واحتفلوا ـ بالحاء ـ بشعر المجانين، ممن لقّب بهذا اللقب، وإنْ اختلفوا ـ بالخاء ـ حول شخصياتهم وهم كثْر ـ وحول أسمائهم المستعارة، وأشعارهم بين الوضع أو الانتحال أو الإنكار، منذ قديم وحديث، بمثل ما تعددتْ الروايات عنهم، وتعدد الولع بأخبارهم، حتى نسبوا للمجنون كل مجهول من القول.
والذي يهمني هنا أن القراءة اللغوية النقدية لما نسب إلى الشعراء المجانين من شعر، على أي وجه، تتجه بالنص إلى نتيجتين:
إحداهما: تصريح الشاعر بصفة المجنون ـ وقد كانت العرب تنسب الجنون لشريرى الجن ـ كما فى ديوان مجنون ليلى، تحقيق عبد الستار فراج، مكتبة مصر، د.ت ص 74:
على أني بها المجنون حقا وقلبى فى هواها في عذاب
بل قد يؤكد اعترافه: وإنى لمجنون بليلى موكـّل.
لتمضي الاعترافات بالصفحات: 200، و208، و209، و211، و214، أو يخصص بلقب " مجنون بني عامر" بالصفحات: 295، و299، و301، وتتكرر كلمة الجنون في شعره بالصفحات: 14، و219، و266، و267، و319، و320، أو يصف حالات جنونه (ص 304)، أو يخلط في شعره بين اليقظة والنوم، ص 108، وتلك ملاحظة مهمة تشي بالمزج بين أحلام اليقظة (ص 265، 296، 299، 314، 323، )والرؤى المنامية، أو يصرح برؤية الطيف(ص 240)، أو يخر صريعا، مغشيا عليه، أو يبْهت (ص178،208،224، 245،240) وفي ذلك كله إحلال لقيمة الأحلام التي أثْريتْ في الدراسات القديمة والحديثة، كما سنتحدث بعد قليل.
النتيجة الثانية: إحلال العقل محله الجدير به في العملية الإبداعية، ففى الوقت الذي يقرّ فيه بالجنون، مثلما سبقت الإشارة، ينفي الجنون، ويقر بالوسوسة (وسْوس فلان، فهو موسوس، بكسر الواو بين السينين: أي اختلط عقله، واعترتْه الوساوس، سمّي موسوسا لتحديثه نفسه بالوسوسة، قال ابن الأعرابى: ولا يقال موسوس بالفتح، البيان والتبيين، الجاحظ تحقيق هارون، 4/ هامش 14، وص 16):
فقالوا أمجنون؟! فقلت موسوس أطوف بظهر اليد قفرا إلى قفر
وكما نفى الجنون(ص155) نفى الجنون والسحر( ص158):
يقولون مجنون يهيم بذكْرها ووالله ما بى من جنون ولا سحر
بل قد يفند ادعاءات الجنون (ص 370، و281)، والأكثر من ذلك غرابة استعماله مادة (جنّ) بمعنى بعيد كل البعد عن الجنون، دلالة على الستر والإخفاء بصيغة" أجن"، بالصفحتين: 169، و217، وذلك كله، حين يقرأ، لغويا ونقديا، يهدينا إلى دلالات جديدة تنحصر في إحلال العقل محله اللائق في العملية الإبداعية،جنبا إلى جنب مع اللاوعين، وأننا أمام شعر في غاية العقل، الأمر الذي جعل طه حسين في حديث الأربعاء 1/190، و214، يتساءل ـ بحق ـ منْكرا ومستنكرا ومتعجبا، من رجل قضى حياته بين الإغماء والجنون، ويتمكن من هذا الشعر المتقن بسماته وجمالياته الفنيتين، حتى ليشبـّه نماذج الأنثى المحبوبة، هنا، بـ" هيلانة" عند اليونان، وأرى أنه شعر في غاية العقل، المصاحب للاشعور؛ لأنه يقصد ـ عامدا ـ إلى إعلاء الغريزة Sublimation.
وفي تأمل المعجم الشعرى في ديوان شعر الرجز، وبخاصة عند رؤبة، والعجاج، سنجد مفردات جمة تدل على الجنون، منها: الخبل ـ الألس ـ الطيش ـ النحب ـ النزق ـ المسلوس ـالمسّ من االجنون وهو الألق .
وفي رحاب المجاز يرى طرفة بن العبد الحب نوعا من الجنون:
ومن الحب جنون مستعرْ
وكذلك عمر بن أبى ربيعة:
جنّ قلبى من بعد ما قد أثابا
وقوله: فاستجن الفؤاد شوقا ..
وقوله: نظرة زادت الفؤاد جنونا
وفى مضمار المجاز نلتقي بأروع ما قيل فيه رائعة ابن الرومي في وصف المغنية وحيد، نقتطف منها:
لي حيث انصرفْت منها رفيق
من هواها وحيث حلّتْ قعيد
عن يميني وعن شمالي وقدّامي وخلـــــفي فأيــن عنــــــــه أحيـــد ؟
سد شيطان حبها كل فج إن شيـــطان حبـــــها لمريـــــد
بينما نجد البحترى يعترض على المنطقية:
كلفتمونا حدود منطقكم
بينما يرى آخر مجاراة الحمقى:
تحامق مع الحمقى إذا لقيتهم ولاقهمو بالنوك فعْل أخى الجهل
وروى آخر عن نفسه قال: فحامقْـــته...
وقال آخر: وإن كنت فى الحمقى فكن أنت أحمقا
بل من الشعراء من عرف بصفات عقلية كصفة الأهوج التي أطلقت على الهيثم بن ربيع فيما يروى الجاحظ في البيان(1/هامش 225، وص229)، ومنهم: أبو يسس الحاسب الذي ذهب عقله بسبب تفكره.
وفي النهاية نتساءل أين عقل الشاعر من عاطفته، وأين عاطفة الشاعر من عقله؟.