الخميس 25 ابريل 2024

كنت في العريش

مقالات15-2-2023 | 15:06

(يوم لك ويوم عليك) سرى الخبر في جنبات مدينة العريش يفرح بتشفي وشماتة العيون وبسمة سخرية الشفاه بحكم الغم سطا بعض شبابهم ليلا على القطار القادم من اتجاه قناة السويس، مكدس بأجولة بالقطع مواد تموينية سلبها الجيش الإسرائيلي من مخازن الجيش المصري المنسحب 5 يونيو 1967 يخففون حدة أزمة الغذاء في المدينة المحتلة التي تقاوم عنت غرور انتصار جنود الاحتلال فوجئوا بعد المغامرة أنها ملطخة بدماء جثث جنودهم المقتولين في مطار المليز على غرة، وفهموا سر ظهور جنودهم منهكين فزعين حفاة بملابسهم الداخلية وبلا أسلحة، فارين من هول الطيران المصري، فاجأهم سلاحنا الجوي الذي دمروا ممرات مطاراته ومعظم طائراته، جمع قواه في 14 يوليو 67 بعد 39 يوما فقط في هجوم كاسح عليهم بشرق القناة ومطار المليز بوسط سيناء المكتظ بجنودهم الذين فرحوا بما أوتوا فأخذناهم بغتة!! (ضربة الفريق مدكور أبو العز).

 يفهم الأستاذ أحمد عيد شاهين (من قرية شفا مركز بسيون- غربية) مدرس اللغة العربية ومدير مدرسة (الرفايعة) الإعدادية للبنات بالعريش ما حدث أثناء زيارته لمدرس مصاب بمستشفى العريش العام وذعر الضابطين الإسرائيليين من بلاغ وصلهم لقد انتقم منا عبد الناصر!! يتوازن سخط الأهالي على سابق ما شاهدوه، وصول بعض أفراد القوات المسلحة بالجلباب قبيل الحرب في الثامنة و40 دقيقة صباح 5 يونيو فور وصول قطار محمل بجنود من الكويت أستقبلهم الأهالي بفرح قبل أن تنقض الطائرات الإسرائيلية عليه.

تتناثر أشلاء الشهداء ويقفز الناجون يتجمعون عند الغروب في معسكر الحرس الوطني ومنه باتجاه البحر إلى بورسعيد- مساء 9 يونيو جاء بعض جنودنا من قيظ صحراء جنوب العريش بملابسهم الداخلية في قمة الإعياء متورمي الأقدام متجمعين في المدارس يطلبون ماء وطعاما، ويوم لك ويوم عليك نعايش حياة أهلها بسيناء في الحرب، من مذكرات سجلها مدير المدرسة وجدها في درج ابنه الأكبر (ا. د أيمن أحمد عيد شاهين) ونشرها بعنوان في 5 يونيو 67 كنت في العريش (دار المعارف).

 قبل الحرب بشهر غطت اللافتات حوائط البيوت والشوارع تتوعد العدو الصهيوني وتبشر بدخولنا القدس وتل أبيب، غادر بعض الموظفين والمدرسين وأسرهم بمتعلقاتهم متجهين للقاهرة، سبقنا أبنائي الأربعة (أيمن- أسامة- أشرف) بعد امتحاناتهم إلى أهلنا ومعنا إسلام أصغرهم سن عامين (سرت إشاعة بقريتنا أن اليهود قطعوا ذراعيه وساقيه فدارت به عمتي فور عودتنا بعد 4 شهور على البيوت ليتأكدوا من سلامته.

رفضت إلحاح زوجتي للحاق بالقطار الحربي يوم السبت وأتوبيس القاهرة صباح الإثنين حتى أنهى التزاماتي في إدارة وتصحيح الامتحانات ومشاركة فرحة النصر المرتقب، بدأت امتحانات الشهادة الإعدادية السبت 3 يونيو، التلاميذ يجيبون الأسئلة في تفاؤل شديد وبهجة الأهالي يستقبلون قطارات الجنود بترحاب وتهليل الإثنين.

اليوم الثالث للامتحانات ومع بداية عمل اللجان سمعنا أصوات انفجارات مطار العريش وطائراته الحربية في الهجوم الإسرائيلي أمرت الجنود اللذين يؤدون الامتحان خلع ملابسهم العسكرية العلوية حتى لا تظن طائرات العدو أننا معسكرات جيش- قائد عسكري كبير جاء 11 صباحا وأخذ ابنته من اللجنة فأثار ذعر زميلاتها، في الثالثة عصرا عرفنا أن الدبابات الإسرائيلية على مشارف المدينة من جهة البحر قصفت مكتب المحافظ المجتمع بضباط القوة الكويتية وقفز من الشباك وتخفى وسط البدو ثم وصل بورسعيد مساءً ظهرت دبابة مصرية عليها شباب يهتفون للجيش المصري، صفق لها الأهالي توقفت شمال المدينة وأطلقت قذائفها على البيوت الطينية التي تتهدم بأقل مجهود، استولى عليها العدو وخدعونا اليهود يملأ ومن وادي العريش.

 صباح الأربعاء 7 يونيو القذائف على المدينة الطائرات من الجو والمدافع من مدمرات في البحر والدبابات تعربد في الشوارع والطلقات ملأت بيتنا وحول أنبوبة ال بوتاجاز لو انفجرت لأحرقتنا وبيوت جيراننا، لجأ جنودنا للأهالي فأعطوهم جلالي حتى لا يقعوا في الأسر، نموت في اللحظة ألف مرة، صغرت الدنيا ولم تعد تساوي جناح بعوضة هربنا إلى الصحراء بمساعدة اثنين من قصاصي الأثر بسلاح الحدود من أبناء العريش، الإسرائيلون سيقتحمون البيوت بحثا عن العسكريين والسلاح وقد لا يضرون النساء والأطفال، 4 ساعات على الأقدام لنجد أنفسنا عدنا من حيث بدأنا قرب مطار العريش، تجمعنا تحت شجرة تستطلعنا هليوكوبتر إسرائيلية، معنا بعض جنودنا أعطوا ما معهم من بسكويت للأطفا المذياع ما يزال يبشر بالنصر  فوجئنا بعربات العدو تسير في الرمال وفوق الكثبان تحركنا إلى منطقة بئر (المسمى) الجنود بالجلاليب والضباط بلا رتب جمعنا الحطب وسوت البدويات خبزا وزعوه علينا أخذ البعض طريقه إلى قناة السويس على الأقدام.

 ليل الجمعة 9 يونيو فاجأنا المذياع الصغير بتنحي الرئيس جمال عبد الناصر واختلفت الآراء كيف يهرب من المسؤولية؟! ومن غيره يجهز لتحرير الأرض؟! فرض حظر التجول كل من يظهر في الشارع يضرب بالنار  سمحوا 4 ساعات لشراء المستلزمات (10 صباحا - 2 ظهر) ابن أحد زملائنا وقف بالبلكونة في الحظر أطلقوا عليه النار والده في القاهرة، هرعت به أمه متحدية، أسعفوه بمستشفى العريش ثم بهليوكبتر لمستشفى بئر سبع ويعالج في القاهرة عن طريق الصليب الأحمر.

 تأخرت يوما أطمئن على أحد الزملاء فبقيت للصباح سلمت زوجتي بأني قتيل ملقى في الشارع طوال الليل، أعلن العدو إذا لم يعد الفارون سنذهب لهم ونقتلهم وفي العودة أطلقوا علينا النار حتى رفع أحدنا شاله الأبيض بالاستسلام أخرجوا كل رجل من 15-65 سنة إلى وادي العريش لتفتيش البيوت ومن يتخلف يقتل جمعونا فى معسكر بأسلاك شائكة حتى الثانية ظهرا يطلقون النار فوق رؤوس الجالسين ويتفرسون الوجوه ويأخذون البعض رتبونا 3 أقسام نصيبي بعد حرب نفسية منهكة العودة للبيت (يرفع الضابط البوق بمصيرنا يقول الناس الموجودون هنا!! ويتركنا لهزار مع زملائه ويكرر المشهد عدة مرات لساعات ثم يقول يعودون لبيوتهم اقتادوا البعض للسجن والآخر للقتل وإذا تأخر فرد في المشي أو سقط يضربونه ضربا مبرحا نداء من العدو (كل جندي وضابط يسلم نفسه سنعيده فورًا لأهله وأولاده وجمال عبد الناصر)، فتشوا البيوت بمعاونة جنود حرس حدود مصريين ليطمئنوا الأهالي يبحثون عن طيارين مصريين هبطوا بعد إصابة طائرتيهم فوق العريش وتخفوا بين الأهالي، سأل جندي التفتيش الإسرائيلي زوجتي_ما هذا؟! ولما قالوا مصحفا وضعه على المكتب باحترام حرص أحد المشايخ على توفير سجائر لي يوميا ليخفف عني سوق سوداء للمواد التموينية والكيروسين (للإضاءة والطهي) ماكينة النور قصفت وتعطلت نلتقي على مقهى (بحري) وسط الحربش نطمئن على بعضنا البعض جالسنا جنديا إسرائيليا.

قال مولود في حي الظاهر بالقاهرة يحن لطفولته أستأذن في تكرار حضوره جاءنا صحفيين يتحدثون العامية المصرية ويعرفون تفاصيل أحياء القاهرة والإسكندرية سألوا عما ينقصنا طلبت إغلاق جهاز التسجيل وقلت كل شيء، ضابط بمكتب الحاكم العسكري تلطف معي عندما عرف أني خريج دار العلوم (كانت شرق شارع القصر العيني) قال أتعرف كلية طب القصر العيني؟ أنا أحدٍ خريجيها وعندما رفضت التعاون معهم عاملني بغلظة، شاب بلجيكي جاء مع السياحة إلى القدس والضفة وغزة والعريش وسيناء عبر إسرائيل تصادق مع شباب من العريش أكرموا ضيافته ومعايشتهم، اكتشفوا أنه مخابرات فقتلوه وجن جنودهم، دمروا المساكن واعتقلوا الكثير، الأيام بطيئة ثقيلة كأنها دهرا، عرض الأطباء والأهالي نقودا علينا حتى تحل مشاكل مرتباتنا، جمعوا مدرسي قطاع غزة المصريين وأعادوهم لمصر عن طريق الصليب الأحمر.

أرسلنا معهم بعض ملابسنا ليتأكد أهلنا أننا أحياء حاول أحد (صولات) حرس الحدود المجبر على التعاون مع العدو مساعدتي للسفر وأسرتي في أتوبيس الصليب الأحمر وفشل طلب الحاكم العسكري الإسرائيلي الاستعداد للعام الدراسي الجديد اعتذرت رغم التهديد قال: هل نتركهم بلا تعليم أنهم مسؤوليتكم!! زوجتي تلعن العريش واليوم الذي اضطرها لمجيئها ونحن ضيوف أزمة عند جيراننا العرايشية وكانوا مقدرين ويتقبلون الأمر بضحكات، لا ننسى فضل أهالي العريش ولا أياديهم البيضاء علينا، زارنا موظف من قطاع غزة كان يعمل في مكتب الحاكم العسكري المصري للقطاع ساعدني في استخراج بطاقة رسمية فلسطيني من عرب 48 المسموح لهم بالتنقل في غزة والقدس والضفة الغربية والأردن لنرجع مصر، في طريقنا شاهدنا محاصيل زراعية بالميكنة والري بالرش وطرق ممهدة معبدة عبرنا نقاط تفتيش دققوا في أوراقنا حاول بعضهم ابتزازنا بالاستيلاء على نظارتي الشمسية ( للبيرسول) ورفضت أو أخذ أي نقود معنا، فقلت لقد سلب جنودكم نقودنا والبعض عاملنا بلطف خاصة آخرهم عند جسر الملك حسين نعبر نهر الأردن إلى عمان بالطائرة إلى القاهرة (24 سبتمبر) بمعاونة سفارتنا هناك سألني: أحقا أنت فلسطيني؟! أجبته: نعم إلى أين أنت ذاهب؟!- الأردن - يعنى ستغادر فلسطين نهائيا!! نعم قال: أنت لست فلسطينيا! لكن اذهب أنت مصري مائة بالمائة!!.

Dr.Randa
Dr.Radwa