الأربعاء 27 نوفمبر 2024

غائبة شمال إفريقيا

  • 23-8-2017 | 16:07

طباعة

أميرة بعتاش  - الجزائر

الوقت شمس حارة ، عصافير مزقزقة كما يزقزق الناس أقدامهم على الخواء ، أمام مقبرة في الهواء الطلق ، تنهض ديداً، تلبس ملحفة* سوداء قديمة يملؤها الغبار ، شعر أسود طويل أشعث كأنه لم يذق طعم المياه منذ ما يقارب وقت تكوين مجرة ّ،  تستفيق اللحظة في وضعية مزرية ، تقوم تتحسس أطرافها  أنقص طرف أم آخر به ضرر ،تمسح على عيونها الكحيلة من التراب كأنها رمداء وليس بها رمد ، لقد كان نومها سباتا فاق قينيس أهل الكهف ، سارت مباشرة بعدما اطمأنت على أنها لا تزال تمتلك أرجلاً سليمة ، كانت الأرض حولها خضراء وقمح يلوح في الطليعة ،أشجار أرز باسقة تنافس الوصل إلى السماء في اعتياد و ألفة هنا مكانها اللائق ..هنا لا غير ، مشت كيلومترين بالتمام ، لاحت لها  بناءات تشبه بناءات ماقبل السبات لكنها بدت لها غريبة ، غريبة جدّا ..،اختبأت وراء شجرة ،سمعت صوتا ، جمعت أطرافها وجعلت تترقب ....

آحدّة ..آآآحدّة ..جيبي تراش هذيكالبربوشة نشيحوها مدام الشمس طالعة ..'حدّة ** حدّة احضري الكسكسي نجففه في العراء مادامت الشمس موجودة "

شحب وجهها ،لم تفهم ماكان يقوله ذاك الصوت ويقصده ..فجأة ظهرت فتاة تحمل ازاراً أبيض فرشته أرضاً و قصعة وضعتها أرضاً ، وجعلت تفرش فوقه محتوى القصعة ، آآآه لقد فهمت المتخفية ما كانت تفرشه الفتاة :إنّه الكسكسي ..ياااه مازالوا يأكلونه ..لقد عرفت من هذه الوهلة في أي أرض هي ..لاحظت أنّ المنادية وحاملة الكسكسي لا يلبسان مثلها لا تتحدثان مثلها  ، فهمت للحظة أنّ الزمان تغيّر غير الذي كان يعنيها ..ثم قررت المسير مجددا ، مظهرها المتعب لم يثن عزم فضولها واستمرت ...

أصوات كثيييرة تملؤ  المكان ..تتصارع داخليا ...أتوقف لا أتوقف..ثم فضولاً توقفت ..من بعيد هي مازالت لا تجرؤ على الاقتراب أكثر..

صوت أطفال يلعبون ..تشجعت واقتربت قليلاً دون أن يلمحوها ، كان الأطفال يلعبون بتركيز كبير لا يفوقه إلاّ تركيزها هي فيهم ، كان أحدهم يمسك حجراً ويدق في قطعة حجريةكبيرة ..يلبس سروالاً من الجينز الأزرق ..كانت القطعة الحجرية بقايا أثرية ، الجهل بها جعلها تبيت في العراء ويلعب بها الأطفال ، رغبت بشدّة في تحذير الصبي من العبث بها لكنها تذكرت أنّه لن يفهم لغتها ، طريقة كلامها ، إنّ مجرد اللباس الذي يرتديه غريب كفاية لكي يجعلها تحس بالغرابة والانفصال ، لا نقطة يشتركان فيها ، تقف عليهم تتحسر بشدة (يبدو ذلك على وجهها) ثم تبقى تفكر في وضعيتهم التي جعلتهم يلهون حتى بكتب مخطوطة بلغة بدت للأطفال غريبة دون أهمية وقيمة، فيما عرفت هي عرفتها اكثر من غيرها ، لقد كانت تنفطر إلى شذرات حسّية وهي لا تزال تقف بعيدة على ساقين نحيلتين متعبتين .

فيما هي واقفة لمحها الأطفال فهربوا من مظهرها المتعب الغريب، فيما هم هاربون كانت دمعة تغادر عينها اليسرى في سرعة كأنها تسابقهم ، تقول في نفسها :كيف لم يتعرفوا عليّ ؟

تأتيها يد من بعيد تربت على كتفها ، تدير وجهها ثم يتناسق مع ذلك الكتف ، يلتقي الحضنان معا تعتصر اليد حضنها وتقول : آه يا نّانا ماتبكيش أنا راني عرفتك وجامي نسيتك ..كنت نستناك تولي برك –آه يا جدتي لا تبك أنا أعرفك وعرفتك ولم أنساك أبداً وكنت أنتظر عودتك فقط بشوق ، لقد قالوا أنّ رأسك زار دمشق ودفن هناك لكنني أعلم أحسّ وألمس روحك هنا في كل الزوايا وكنت اعلم أن سيأتي اليوم الذي تجتمعين مجدداً بكل تكاوينك وها أنت .. .

تعالي لأريكِ مافعلت في غيابك لتخليدك أبداً ..نزعت حذاءها ومشينا مشية الأجداد حفيانا لكننا مغلفون بأصول مقاومة للزوال والزلازل.

*الملحفة هي اللباس التقليدي الأمازيغي لمنطقة الشاوية –أوراس-الجزائر

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة