قدم لنا الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إمام – رحمة الله عليه – مُؤَلَّفًا حاول فيه رصد ثلاث مفاهيم تتردد على مسامعنا وهي: السلطة، والحاكم، والقانون. وذلك من خلال أربعة أبواب، وهم على النحو التالي، الباب الأول، وعنوانه: في فلسفة السلطة، ويضم، في ضرورة السلطة، تأليه الحاكم في الشرق، عائلة الطغيان. أما الباب الثاني، وعنوانه: صورتان للطاغية في الفلسفة اليونانية، ويضم، الطاغية في صورة الذئب (نظرية أفلاطون)، الطاغية في صورة السيد (أرسطو). والباب الثالث، عنوانه: الطاغية يرتدي عباءة الدين، ويضم، في العالم المسيحي (من بداية المسيحية إلى الإصلاح الديني)، في العالم الإسلامي، أما الباب الرابع والأخير، وعنوانه: فرار من الطاغية، ويضم: في أوروبا الديمقراطية، الطغيان الشرقي.
إلا أن هذا العرض لم يكن يأتي بثماره والهدف المرجو منه دون عرض هذه المفاهيم الثلاثة السلطة، والحاكم، والقانون. عرضًا قائمًا على نماذج من المفكرين وامثله تاريخية؛ أي انه قام بعمل مسح تاريخي مُدقق لكي يصل بنا إلى صورة صحيحة، بل وتكاد أن تكون واقعية، هذه الواقعية التي قصدها أستاذنا لم تأت إلا من خلال سعة الأفق وحداثة المصادر المستخدمة، وهذا ما نلمسه بوضوح في ترتيب المادة المستخدمة.
والجدير بالذكر أن هذا الكتاب تم طباعته طبعات عديدة، وعلى الرغم من هذه التعددية إلا أن هذا الكتاب تم منعه في مكتبات دول عربية كثيرة، لِمَا يحمله بين طايته من نظريات علمية وفلسفية تستطيع أن تُفيق العقول الخاملة على الحكم الاستبدادي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، حتى لا يكون لديهم وبين أيديهم وثيقة قادرة على كشف الغمام عن الحقوق وتسليط الضوء على الواجبات الممكنة.
عزيزي القارئ، نظراً لأهمية هذا المؤلف آثرنا أن نُصلت الضوء على فكرة أساسية نحسب انها هي محور الكتاب، بل وبنيته الأساسية أيضًا، ولا نُجانب الصواب إذا قلنا إنها اللبِنَة الأساسية في الفكر السياسي أو بمعنى ادق في الفلسفة السياسية. وليكن سؤالنا في البداية من أين تأتي السلطة التي يسيء الطاغية استخدامها؟ بالطبع ستكون إجابتنا من» ضرورة السلطة». هنا نكون قد وضعنا أيدينا على نقطة البداية المتحكمة في الفكر السياسي العالمي، ألا وهي أهمية السلطة، ومن هم المقلدين لهذه السلطة.
فإذا صح ما قيل من أنه» لا يصلح الناس فوضى، بل لابد للجماعة من تنظيم لكي تبقى وتعمل لسد احتياجاتها، فإن التنظيم يعني أن ينقسم الناس إلى فئتين فئة حاكمة تتولى السلطة السياسية، وتصدر القرارات، وفئة أخرى محكومة لا يكون لها سوى الطاعة.
كانت فكرة أرسطو "أن الإنسان مدني بالطبع" هي السائدة في تاريخ الفكر السياسي طوال العصر القديم والوسيط وحتى عصر النهضة، ولكن جاء الفيلسوف الإنجليزي "توماس هوبز" وعارض هذا التراث الأرسطي وذهب إلى أن الإنسان لا هو حيوان سياسي بفطرته ولا هو يميل بطبعه إلى الجماعة المنظمة ومن هنا تأتي التربية، والتربية هي التي تشكل شخصيته بحيث تصبح صالحة للحياة في المجتمع السياسي.
كما جاء "توماس هوبز" وأشار إلى الحالة الطبيعية وهي حالة من الفوضى يحاول كل فرد فيها المحافظة على حياته بقواه الخاصة، فكل فرد يتربص بغيره ليفتك به قبل أن ينال الآخر منة، وبهذا يخيم القلق والخوف على هذه الحياة وهذه الحياة تكون (فقيرة، عقيمة، كريهة، قصيرة المدي، موحشة). وبالتالي لا تنتج حضارة، ولا ثقافة، ولا فنا، ولا علما، لذلك فنحن نحتاج الحياة الإنسانية، ولكي ننعم وتسود الحياة الإنسانية هذه، لا بد لها من قدر من التنظيم. وهذا التنظيم لا يقوم إلا من قانون وهذا التنظيم يحتاج إلى سلطة منظمة تخضع لها الجماعة، كما يقول الكاتب الإنجليزي: تشيسرتون: "لو أن جماعة كانت كلها قادة أبطالا مثل هانيل ونابليون، فمن الأوفق ألا يحكموا جميعا في وقت واحد". لذلك فإن النظام السياسي يفترض حتما ولابد وجود سلطة وبهذا ينشأ المجتمع السيامي عندما يحدث فيه ما يسميه فقهاء القانون بالاختلاف أو التمايز السياسي Differentiation وبالتالي ينقسم المجتمع إلى فئتين: فئة حاكمة تتولي السلطة السياسية وتصدر القرارات والأوامر، وفئة أخري محكومة لا يكون لها إلا الطاعة والتنفيذ. ولكن للسلطة السياسية في الدولة صفات ذاتية خاصة لهذا أطلق عليها الفقه الفرنسي أسم “السيادة"، و"السيادة" أي أن سلطة الدولة سلطة عليا لا يسود عليها شيء ولا تخضع لأحد، ولكن تسمو فوق الجميع وتفرض نفسها على الجميع. ثم تابع فقهاء القانون ما قاله أرسطو عن السلطة من حيث إنها أنواع، منها.. السلطة السياسية: وهي المتعلقة بشؤن الحكم.
وهنا يظهر امامنا نوع آخر من السلطة وهي السلطة الأبوية: وهي متمثلة في علاقة الأب بأبنائه، وسلطته على زوجته، وهي تعني ما يملكه الزوج علي زوجته من السلطات. وأخيرًا سلطة السيد علي عبيده .... إلخ.
وجاء "روبرت ماكيفر" ولخص هذه الأنواع في نوعين فقط هما "السلطة السياسية" و "السلطة الاجتماعية" ولقد تداعمت السلطة السياسية داخل الجماعة الإنسانية التي سميت بالدولة وبقي مبررها القديم كما هو: تحقيق الأمن والاستقرار حتى سميت هذه الدولة "بالدولة الحارسة" وهي الدولة التي تقوم أساسًا بحماية الأمن في الداخل، وصد الغارات عن الحدود في الخارج. ولهذا خرج الناس من "حالة الاضطراب والفوضى" إلى "التنظيم السياسي" والتمسك بهذا النظام الذي يضمن لهم الأمن والاستقرار ويحقق "الدولة الحارسة".
كما أن "توماس هوبز" ضرب لنا مثال لكي يؤكد على مدي أهمية تمسك الناس بالنظام إذا مروا بتجربة الفوضى. وكلما تطورت الجماعة الإنسانية تداعمت ظاهرة السلطة. وتحولت إلى قوانين منظمة للمجتمع، أي أنه عندما ظهرت الدولة أصبحت القوانين والنظم أكثر استقرارا وتعقيدا. كما أن الخلافات حول "السياسة" تدور جميعها حول فكرة السلطة. فـ "علم السياسة": هو علم السلطة أي علم دراسة السلطة عموما أيًا كانت وفي أي مجتمع.
والأشخاص القائمين بالسلطة لا أهمية لهم، فقد يكون شخص واحد، أو مجموعة أشخاص، ولكن لابد أن يكونوا قادرين على حملها. بل أنها القدرة وحدها لا تكفي.
وهنا يصرح لنا الدكتور إمام قائلاً: "إن جبروت أقسي الطغاة يصبح هو الأساس مالم يتلبس بشرعية السلطة، كما يشترط أن تقوم السلطة على رضاء المحكومين. فمن أن توجد عن طريق القوة والقهر، لذلك لابد إذآ أن يكون هناك تبرير لهذه السلطة السياسية حتى تكون شرعية بحيث يتمكن الحكام من الاستناد إلى هذه الشرعية في ممارسة السلطة، ولابد أيضا أن توضع لها حدود " فإذا كانت السلطة ضرورية لتحقيق أمن المجتمع فإنه ينبغي لها ألا تبتلع حريات الأفراد".
يري جاك ماريتان Jaques Maritain أن علينا أن نفرق بين السلطة authority، والقوةPower، فالسلطة والقوة أمران مختلفان. إن القوة: هي التي بواسطتها تستطيع أن تجبر الآخرين على طاعتك. أما السلطة: هي الحق في أن توجه الآخرين أو تأمرهم بالاستماع إليك وطاعتك، والسلطة تتطلب القوة، غير أن القوة بلا سلطة ظلم واستبداد وهكذا فإن السلطة تعني الحق.
عزيزي القارئ، لك أن تتخيل أن فقهاء القانون يذهبون إلى أن الأركان الثلاثة الأساسية في قيام الدولة هي الإقليم، والشعب، والسلطة. أي أنه عنصر السلطة يعتبر حجر الأساس بالنسبة للدولة ومع الركنين السابقين تقوم الدولة. وينتج عن ذلك وتتولد الأنظمة السياسية وهي تحليل الروابط التي تقوم بين الحكام والمحكومين من حيث طبيعة السلطة التي يتمتع بها الحاكم وأساسها ووسائل ممارستها، وأهدافها، وحدودها، ومن الفرد فيها.
ونجد ونلاحظ أن السلطة السياسية تغيرت وتبدلت من الماضي إلى وقتنا هذا، ففي الحاضر أصبحت السلطة ملكًا للدولة وليس لأشخاص الحكام وذلك أدي إلى الفصل بين السلطة السياسية والحاكم. إذاً فالسلطة ليست مجرد قهر مادي فحسب، وإنما هي تعتمد، إلى جانب ذلك، على عوامل نفسية، واقتصادية، واجتماعية، وتاريخية. وهي عندما تتحول إلى نوع من القهر المادي فقط إنما تكشف عن انحراف مرضي ولا تنبئ عن الوضع الطبيعي للأمور، ومن هنا يري الفقيه الفرنسي ديفرجيه M. Duverger" إن الدكتاتورية ليست إلا مرضا من أمراض السلطة، وليست ظاهرة طبيعية".
لذلك أوضح لنا الدكتور إمام في النهاية أن هناك نظريات كثيرة تفسر لنا نشأة السلطة السياسية منها:
(1) النظرية الثيوقراطية: وهي تبرر إطلاق يد الحكام في السلطة باسم شخصيته المقدسة.
(2) النظرية التعاقدية: هي التي قام على أساسها النظام الديمقراطي الحديث.
(3) النظرية التطورية: وتلك النظرية لقد قام أرسطو بتفسيرها لتكوين المجتمع عن طريق التطور العائلي.
وفي الختام، نرى في تقديرنا أن هذا المُؤَلَّف يُعد الأول في موضوعه حتى الآن، ولن نكون مبالغين إذا قلنا إنه لا يوجد حتى الآن في المكتبة العربية مُؤَلَّفًا، استطاع أن يرفع النقاب عن هذه المشكلات الأساسية، مثلما فعل هذا الكتاب الذي بين ايدينا. نستطيع أن نقول بصدق وبحق، قدم لنا الراحل الدكتور إمام هذا المُؤَلَّف من اجل القارئ العربي ليكون خير معين له وسط هذا التلوث الفكري، وفضًا عن المنازعات أو الاقاويل المغلوطة حول السلطة، والحاكم، والقانون.