"إن العمل السينمائي إذا كان محكم السيناريو والإخراج، جيدًا من حيث أداء الممثلين، يكون له الفضل – دون شك- على العمل الروائي"... فيلم "قلب الليل" المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب "نجيب محفوظ" قد يكون دليلًا على ذلك، فهو العمل الذي قام ببطولته الفنان "نور الشريف" و"محسنة توفيق" و"هالة صدقي" والذي جعل من الرواية كائنًا حيًا فيه الكثير من الحركة والحيوية والروح الشاعرة والعين النفاذة إلى ما وراء السطور، يضاف إلى ذلك عنصر الديكور مع اللسمات الإخراجية والصورة السينمائية المتوائمة بوضوح مع الروح الكلاسيكية للعصر الذي تنتمي إليه أحداث الرواية، ولا شك أن للصورة خدمة جليلة قدمتها للعمل الأصلي وللمشاهد.
بطل الفيلم "نور الشريف" أو "علي الراوي" مثال حي للإنسان المغترب أبدًا، الباحث عن دورٍ ما، المغامر، المتمرد، الطيب، الطائش، المغلوب على أمره، كثير التجارب والرؤى، الباحث بشوق عن ذاته المستلبة وحريته المفقودة، الناقم على سيطرة جده، والذي لعب دوره باقتدار الفنان "فريد شوقي" حيث كان البطل يتيم الأبوين، وفي النهاية تحول إلى قاتل! ونهاية الفيلم – غير سعيدة بالمرة- إذ تأتي بعد أن فقد البطل السيطرة على عقله ليتكلم باطنه فيذكرنا بتناقضات الإنسان، بشهواته ونبله، إنه الإنسان المخلوق من الطين، لكنه أيضًا الهابط من السماء..
نور الشريف أو "علي الراوي" يتزوج من غجرية، كنوع من التمرد على البيئة المحافظة التي نشأ فيها، فجده عالم يدخله في معهد أزهري، ويشرف بنفسه على خط سيره في دراسة العلوم الدينية، ويربيه على المثل العليا، لكنه يرغب في الانطلاق، وتأتي انطلاقته من النوع الصارخ الذي يتفلت من كل القيود ولو على حساب نفسه، فيقع في حب امرأة غجرية – أو يخيل إليه أنه أحبها- ويرفض في المقابل أن يتزوج بنت مفتي الديار المصرية! ويكون رد فعل جده التلقائي أن يطرده من القصر بعد عمله في الغناء وزواجه من "خضراء الدِّمَن" ليعيش مع المرأة الغجرية في "عشش الترجمان" كل معاني الغربة، فهي لا تفهم معنى الكتب والقراءة، ولا ترى أن الرجل/ الذكر يمكن له أن يعمل مغنيًا في كُورَس وراء مطرب، إن الرجل في نظرها هو اللص/ الهجام أو البلطجي، والزوجة الغجرية إلى كل ذلك منحرفة المزاج، عصبية من إلى حدٍ بعيد، ولا تعرف معاني "الذوق" أو "الإتيكيت" فهي متمردة دائمًا وأبدًا.
ويعيش البطل في هذا العالم القاسي المليء بالمجرمين، ويرى كل مظاهر القاع، مثلًا يرى البلطجية وهم يحيلون ليلة عرس مفرحة إلى رجع نُواح، ويرى ببصيرته مصير أبناءه بعد أن أرغمه "بلطجي المنطقة" على تطليق زوجته لاستحالة العشرة، فهؤلاء الأبناء حتمًا سيصبحون لصوصًا هجامين، أو نشالين، وربما قوادين.
ثم تنتشله من القاع ومن غمرة ضياعه امرأة ارستقراطية، لعبت دورها الفنانة "محسنة توفيق" ويتحول "الراوي" من مطرب في الظل إلى "كاتب"! ويشعر بالغربة مرة أخرى؛ حيث أن رواد الصالون الثقافي لزوجته تفوق ثقافتهم بمراحل كل ما اختزنته ذاكرته من علوم اللغة والبلاغة التي تعلمها في الأزهر، ويعود البطل من جديد باحثًا عن ذاته، ويتمحور البحث عن الذات هنا حول مقعد في ديوان الفلاسفة، وطموحه الفتاك لا ينتهي بل يجعله في اشتعال مستمر وقلق لا ينتهي للبحث عن مكانة.. وفي إحدى المرات يتحول في غمضة عين عند بعض العوام والحرافيش إلى بطل وطني!!
ثم يركن "الراوي" إلى العزلة، ويختلي بنفسه، ليخرج كتابًا ضخمًا كتبه بخط اليد، ويعود ممتطيًا جواده مثل الفاتحين؛ فالكتاب الذي يطل به على رواد الصالون الثقافي الذي تعقده زوجته – ومنهم عميد الأدب العربي- طه حسين سوف يحل – من وجهة نظره- كل مشاكل البشرية! وهو كتاب مليء بالعبارات الفخمة والمصطلحات الأكاديمية، لكنه في الحقيقة لا يقول شيئًا. وهنا تتوهج المأساة، ويبدو "علي الراوي" بطلًا تراجيديًا تتجسد فيه أسطورة "سيزيف" المحكوم عليه إلى الأبد بحمل الصخرة "أو الذات الباحثة عن القمة" صخرة عَتِيَّة يتعين عليه حملها إلى قمة جبل شاهق، ثم تتدحرج الصخرة فيعود إلى حملها ثانيةً، وهكذا إلى الأبد.
وبالطبع تفشل محاولات الراوي في الانضمام إلى نادي الفلاسفة، ويتندر به صديق زوجته، ويخبره بالحقيقة العارية، إن ما يفعله ليس أكثر من "عبث" وهنا يتداعى على البطل كل ما يحمله من بغضاء لهذا الرجل ذو الصراحة اللعينة، وكل ما يحمله من غيرة رجل شرقي تجاه رجل نافسه على إعجاب زوجته؛ مع أن زوجته مخلصة وتحبه بالفعل، وقد قامت هذه الزوجة التي لعبت دورها الفنانة "محسنة توفيق" بالدور الذي تقوم به كل زوجة مثالية، لكن الغيرة والبغضاء كان لهما شأن آخر.
ويظل البطل في السجن، ثم يخرج منه بعد عشرين سنة "لحسن السير والسلوك" وقد استوى تمامًا، واستحال كتابه العبثي في أعماق ذاته إلى نوعٍ من الهوس، فهو يعتقد أنه ليس مجرد كتاب، بل هو نظرية السعادة الخالصة للنوع الإنساني المعذب، وحين تأتيه نسخة الكتاب الورقية من خلال زوجته التي كانت تزوره باستمرار في السجن وتحضر له الطعام، يشعر بنوع من السعادة، ويقول بلسان حاله "زيادة الخير خيران" فالكتاب صارت له نسختان، إحداهما على جدران الزنزانة، كتبها بالطباشير، والأخرى على الورق، وكان قد كتبها بالحبر.
ثم يهيم "الراوي" على وجهه في الطرقات بعد الإفراج عنه معلنًا نظريته، ويحاول صديقه القديم المطرب أو الفنان "محمود الجندي" الذي نجح في الطرب والغناء أن يصطحبه معه في سيارته لكنه يفضل أن يظل مشردًا بملابسه المهترئة وطربوشه البالي وعكازه القديم، ليعلن للعالم أن الخلاص سيكون على يديه.
والفيلم بالطبع مشبع بدلالات ورموز فلسفية ونفسية كثيرة، ويتجلى فيه حلم البشرية الأزلي في الوصول إلى الأمان والسعادة، وحلم كل إنسان على ظهر الأرض أن يكون نفسه، أن يكون شيئًا ما.
ويمكن القول إن السيناريو لعب دورًا بارزًا في إظهار المفارقات المدهشة في حياة البطل، وفي إظهار قلقه وأرقه وتناقضاته، وروحه المتوقدة، وبحثه المضطرب كأمواج البحر في يومٍ عاصف.
إنها تراجيديا نموذجية قد تبدو مضحكة في بعض تفاصيلها، لكنه ضحك الباكي المحكوم عليه بالحيرة والحركة والتيه في معمعان الحياة، إنه النبيل رغم خطأه، والشغيل رغم يأسه وعجزه، والمحافظ رغم تمرده.. إنه كتاب الكون.. إنه الإنسان.
بقي القول إن فيلم "قلب الليل" تم عرضه في الثاني من أكتوبر لعام 1989م، وهو من إخراج مخرج الروائع "عاطف الطيب" فيما كتب السيناريو والحوار "محسن زايد" وشارك في الفيلم بدور صغير الفنان "محمد هنيدي" وقد جاء اختيار اسم "الراوي" لبطل الرواية لأنه الكاتب "نجيب محفوظ" جعل من البطل "راويًا" لقصة حياته لتأتي الرواية بتقنية "الفلاش باك" والرواية تنضم لسلسة الروايات الأدبية ذات البعد الفلسفي للأديب نجيب محفوظ، والذي عرف عنه نزعته الوجودية وتقديمه للأسئلة ليجعل من القائ مفكرًا متسائًلا باحثًا معه عن حل أو مشاركًا بوجهة نظر، فروايات نجيب محفوظ كلها دون استثناء لا تضع إجابةً ما؛ وإنما فقط ترصد وتكشف وتحلل وتتسائل، فربما أصبح القارئ فيلسوفًا هو الآخر!