الأحد 5 مايو 2024

العيد السعى إلى السعادة

30-8-2017 | 18:09

بقلم – د. محمد فتحى

 

ليس العيدُ إلا التقاء الكبار والصغار في معنى الفرح بالحياة الناجحة السعيدة الشادة على طريقها.. يوم استرواح من جدّ الحياة، والسعادة بثمارها ونتاجها.

من أجل ذلك فُرض العيد ميراثا دهريا في الإسلام، ليستخرج أهلُ كل زمانٍ من معاني حياتهم فيُضيفوا إلى المثال أمثلةً مما يُبدعه نشاطُهم، ويحققه خيالُهم، ليفرحوا وتزداد سعادتهم به.

وقد ظن الناس طويلا أن السعادة أمر لاينعم به سوى قلة من المحظوظين، أو مجرد حالة غامضة تنتابهم هم أنفسهم، تأتي إليهم وتذهب عنهم بطريقة عشوائية.. أي أنها شيء يعتمد على ظروف خارجة في معظمها عن إرادتهم. لكن فحوى العيد تقول غير ذلك: «إن السعادة يمكن أن تكون هدفا قابلا لأن يسعى المرء إلى تحقيقه عن قصد»، والعلم يرشدنا هذه الأيام إلى الطريق.

لقد اهتم «علم النفس» على مدار تاريخه بدراسة مواطن الخلل العاطفية والاجتماعية و... في النفس البشرية، أو بالبحث في أمراض هذه النفس إن صح التعبير. وفي مرحلة متأخرة لاحظ الدارسون أنه رغم استسلام كثير من الأشخاص بسهولة، عند معاناة مواقف صعبة، يثابر آخرون في مواجهة نفس المواقف. ووجد الباحثون أن النظرة التفاؤلية الإيجابية من أهم العوامل وراء قدرة المرء على المثابرة وتجاوز عقبات الحياة، بل وإنجاز مهام بدت صعبة أو مستحيلة. وكانت المفاجأة المذهلة أن بالمقدور أن يتعلم الناس، اعتمادا على دراسة حالات اليأس والإحباط والمرونة المكتسبة، كيف يكونون أكثر تفاؤلا وإيجابية، وبالتالي تزداد معدلات سعادتهم. وهكذا برزت قضية: كيف يمكن القيام بكل ذلك؟ فظهر علم جديد هو «علم النفس الإيجابي» يهتم بالبحث فيما يفيد الناس على هذا المستوى، وأسباب فائدته، وكيفية تحسين ورفع مستوياته، على النحو الذي يزيد من رضا الناس وسعادتهم، ومن هنا سماه البعض «علم السعادة».

وكما ذكرنا ظل الناس طويلا يظنون أن السعادة أمر لا ينعم به سوى قلة من المحظوظين، أو مجرد حالة غامضة تنتابهم هم أنفسهم فجأة، تأتي إليهم وتذهب عنهم بطريقة عشوائية. ومن هنا شعورهم بالإثارة مع سماع أن السعادة يمكن أن تكون هدفا يسعى المرء إلى تحقيقه عن قصد.

ورغم أن معظمنا يبحث عن حظ أوفر من السعادة تجد غالبيتنا لم يهتم الاهتمام الواجب بالفوائد الجمة التي يمكن أن يجنيها من هذا التوجه، رغم شغفه بمعرفة الجديد فيه، وربما كان سبب ذلك سمعة قديمة ربطت تغيير أو مواجهة شئون النفس بتمضية أوقات مديدة في زيارة المعالجين المتخصصين، وربما التعمق في الدراسات المعنية، بل وربما الاضطرار إلى تغيير المهن... . أو ربما حتى لاعتقاد الناس أن استفادتهم تتطلب فهم ديناميات السعادة من منظور عميق والمعرفة بجل الأبحاث التي أجريت في مجالها.

إن معظمنا يستخدم الحاسبات الإلكترونية ويتعامل مع محركات البحث والبريد الإلكتروني و... وهم يفعلون ذلك مع الدربة بمهارة فائقة، رغم أن من هم على دراية تفصيلية بالكيفية التي تعمل بها هذه الأدوات- ومثلها كثير- قليلون جدا. وبالمثل يمكن الالتزام بالممارسات التي تجعل الناس أكثر سعادة، دون فهم الآلية التي تعمل بها، بل وحتى دون التطرق مطلقا إلى المعارف المتعمقة.. طبعا التعمق له مزاياه فكلما ازدادت معرفتنا بموضوع ازداد انغماسنا فيه، وفرصنا للاستفادة منه، بيد أن ممارسات السعادة لا تحتاج إلى تعقيدات مبالغ فيها. فالمرء لايحتاج لرفع مستوى سعادته سوى إلى وعي بديهيات بسيطة، ووضعها فورا موضع التنفيذ، دون الحاجة إلى معالجين أو مرشدين ولا إلى تلك الآماد الزمنية التي تزاحم انشغالاته.

أول هذه البديهيات تحديد قائمة مفتوحة (يمكن الإضافة والحذف منها) بالأفعال أو النشاطات التي تبعث على شعور المعني بالسعادة.. إن السعادة تجربة ذاتية تغطي مجموعة من المشاعر الإيجابية، وتعني بالنسبة للبعض تلك «المشاعر المثيرة» المسيطرة مثل مشاعر النشوة والبهجة و...، بينما تعني لآخرين مشاعر لها نفس الأهمية وإن كانت أقل إثارة مثل الرضا والهدوء النفسي و... ، ومن هنا فإن ما يبعث على شعورك بالسعادة سوف يختلف عما يدخل السعادة إلى قلب غيرك، وأفضل الاحتمالات هي تمضية وقتك في العمل على ما يسعدك أنت بالذات.

والبديهية الثانية أن تبدأ فورا في ممارسة «المسعدات» تباعا.. وقد يعاني معظمنا وهم «أنا مشغول جدا لدرجة أنى لا أجد وقتا لجديد حتى لو كان مسعدا»، ونقول وهم لأنه ماعلى المرء إلا النظر بما يلتزمه في حياته اليومية، ليجد أن بعضه- إن لم يكن الكثير منه- انتهى تاريخ صلاحيته، ولم يعد يناسب ظروف حياته المتجددة، وما عليه إلا شطب هذه الالتزامات، ومقاومة العودة إليها كلما اعترضت طريقه، والتفكير في أخرى جديدة أكثر تناسبا مع حياته واهتماماته وصحته وعلاقاته الاجتماعية وسعادته. وقد ذكرنا ذلك لقيمته الذاتية فما يتطلبه البدء في ممارسة عادات النجاح يمكن أن يبدأ بما يستغرق خمس أو عشر دقائق (حديث حميمي مع ابنك أو مع من تحب. مكالمة تطمئن فيها على أقرباء أنت مقصر في حقهم. ممارسة بعض التمرينات الرياضية...)، وهذا الوقت تستغرقه مشاهدة الإعلانات كل نصف ساعة على شاشة التلفاز. لهذا فعلى المرء الإقدام على هذه الممارسات هنا والآن، كأن ينتزع نفسه من أمام شاشة التلفاز أو الكمبيوتر ويجلس لوقت أطول مع من يحب حول طاولة الطعام.

ويتطلب الأمر فهم الحاجة إلى قدر من النظام والمنهجية.. فاعتياد أي شيء يستغرق حوالي ثلاثة أسابيع.. إنها ببساطة الكيفية التي يعمل بها المخ.. فهو في حاجة إلى تدعيم ممرات عصبية وسلوكية جديدة لتكون السبل الجديدة التي تسلكها عادات السعادة، ولن نتمكن من جني الثمار دون أن يشق المخ هذه السبل بتكرار الممارسة.

كما يتطلب الأمر إدراك ضرورة التدرج.. فالمرء ليس بحاجة إلى تغيير حياته بأسرها خلال يوم واحد، لأن هذا غير معقول ومثبط للهمة. لكن التغييرات الإيجابية الصغيرة المنتظمة كفيلة بتحقيق الأحلام، وإن كبرت هذه الأحلام فما على المرء إلا تقسيمها إلى أجزاء صغيرة تتناسب مع ظروفه، والالتزام بالمراكمة.

ولعل من أهم عادات السعادة أن يحدد المرء بعض المنجزات غير العادية التي اجترحها في حياته، وكان يظن أنها صعبة أو مستحيلة التحقيق، ليتأملها دقائق قليلة كل يوم، فلا شك أن ذلك سيكون مدعاة لسعادته، لكن الأهم أن هذه المنجزات تشحنه بثقة وطاقات إيجابية تساعده على تجاوز العقبات، وتذكره بإمكانية اجتيازه ما يعتقد بصعوبته أو استحالته في الظروف المستجدة التي يواجهها، وتعيده إلى مواصلة السعي إلى السعادة كلما أخفق. (حاسب من الأحزان وحاسب لها/ حاسب علي رقابيك من حبلها/ راح تنتهي ولابد راح تنتهي/ مش انتهت أحزان من قبلها؟عجبي! صلاح جاهين).

وحرص المرء مع ماسبق على بضع دقائق ضمن روتين حياته اليومي يقضيها مسترخيا في مكان هادئ بعيد عن المشتتات وزحمة الأعمال، يركز فيها ويتأمل أفكاره ومشاعره، ويراجع اليوم الفائت والتفكير في فهم ومعرفة أحواله وإعداد نفسه بصورة إيجابية للآتي. وكل ذلك مدعاة للراحة والسعادة. بدلا من أن نجنح إلى انتظار مشاعر السعادة، علينا المبادرة كل يوم- كما يعلمنا العيد- بالسعي إليها، باتباع منهج فعال، والاهتمام بمعرفة ما ثبت فعاليته ونفعه، بدلا من الشكوى والحزن والاكتئاب وممارسة ما لا يؤتي نفعا.