الأربعاء 15 مايو 2024

مواويل بيرم التونسى.. من السياق الشعبى إلى المفارقات الجمالية

مسعود شومان

الهلال لايت 9-3-2023 | 15:21

مسعود شومان

• من خلال معرفة بيرم بالقوالب الشعبية، وإدراكه لأسرارها، ينوع فى أبنية أزجاله، ويفارق بنصوصه الأبنية الشعبية فى معظم الأحايين
• مع الاعتراف بأن نصوص بيرم الشعرية والنثرية تحقق جدلا واسعا مع مصادر عدة، فهى تركن إلى عناصر راسخة فى تراثنا العربى والشعبى
• التنوع الذى تتجلى ممن خلاله أزجال بيرم تضيق هذه الصفحات عن استيعابه، خاصة مع كثرة دواوينه وتنوعها ، فضلا عن استخدامه لبحر "البسيط" فى عدد كبير من أزجاله
• نحاول أن نتعرف على بعض الأشكال الشعبية التى تجادل معها نص بيرم وزنا وتركيبا، وإن كانت هذه القراءة ليست بقادرة وحدها أن تتتبع كل العناصر الفولكلورية الخبيئة داخل أزجاله ونثرياته.

 جرى العرف النقدى - من باب التقدير - على إطلاق لقب "شاعر الشعب" على بيرم التونسى، وقد منح هذا الإطلاق للبعض مسوغا فى عدِّه شاعرا شعبيا، ومثلما أصبح اسم بيرم ملتصقا بالشاعر الشعبى، فإن الشعر الشعبـى قد أصبح فى عـرف بعض الدارسيـن والنقاد مـرادفا لشعر العامية وللزجل كذلك، في هذا السياق فإن الاصطلاحات الثلاثة بينها اختلافات / خلافات، أعتقد أنه أصبح ضروريا الوقوف على كل واحد منها، وتعريفه تعريفا إجرائيا، كما أن ذلك المسلك يعد أمرا ضروريا للدخول لعالم بيرم التونسى لكشف بعض محـاور جدل إبداعه مع الثقافة الشعبيـة، ولعل من المغالطات أن نطلق على أزجال بيرم نصوصا شعبية، إذ أن النص الشعبى ينتمي إلى إبداع الجماعة الشعبية التى تنتخب من بينها شاعرا تدرك بوعيها مصداقيته وقدرته على تشكيل ما يتراكم فى وجدانها، وهو يتبنى منظومة قيمها وعاداتها وتصوراتها عن الحياة فى تشكيل (رمزى ـ مباشر) يتخذ من اللغة والحركة والموسيقى أساسا له.

ومع الاعتراف بأن نصوص بيرم الشعرية والنثرية تحقق جدلا واسعا مع مصادر عدة (تراثية ـ مأثورية ـ آنية )، بل توقع قارئها فى غواية العودة للمصادر، فهى تركن إلى عناصر راسخة فى تراثنا العربى والشعبى، ونحن إذ نبحث ـ تدفعنا غواية العودة للمنابع ـ فى مصادر نصوصه لا نهدف إلى إشباع نزعات خلق آباء لنصوصنا المعاصرة، أو التعرف على أسلافنا فحسب، وإنما محاولة اكتشاف هذا الجدل الخلاق بين نص مصدرى ونص آنى، إذ أن أى عمل أدبى يتشارك فيه مؤلفـه، متلقيه، الوسيط الذى يقدم من خلاله، وزمان ومكان أدائه ونوع الذى تقدمه رسـالته. 
  ومن خلال بعض قراءة بعض أزجال بيرم سنحاول التعرف على بعض الأشكال الشعبية الأثيرة التى تجادل معها نصه وزنا وتركيبا، بل تبنى ونفى، ونزعم أن هذه القراءة ليست بقادرة وحدها أن تتتبع كل العناصر الفولكلورية الخبيئة داخل أزجاله ونثرياته، وإنما سيكون أحد طموحاتها هو الإمساك بتناص بيرم مع بعض الأشكال الأدبية الشعبية، مثل استلهامه للأشكال الموَّالية التى تعدد توظيفها فى متن بنائه الإبداعى الشاهق .
أولا : الموال الرباعى
يا مجلس إسكندرية طال علـيك صـبرى
أكلِّمـك بالـروميـكــا ولاَّ بالعــبـرى
تاخد فلوس الناس تبعتر فيها ع الكوبرى
بدل ما تاخد فلوس الناس تعالى خد عمرى 
   إن الشكل الرباعى من الأشكال الأولية التى أبدعتها الجماعة الشعبية، ويقال إن مخترعه أهل واسط من بحر البسيط (مستفعلن ـ فاعلن ـ مستفعلن ـ فعلن)، حيث اقتطعوا منه بيتين على الأصل، وقفوا شطر كل بيت بقافية وسموا الأربعة "صوتا"، ومنهم من يسميها " اتنين اتنين"، ثم تحول الشكل السابق إلى أغصان متتالية، وقد نظم بيرم فى هذا الشكل عددا كبيرا من أزجاله منها :
زارعـين فى حارة زخـارى كل غصـن يميل
ويميـل عليـنا الوبـا يمسح قابيـل وهـابيل
سنادسى فى الليـل يلغـوَّص فى الخَبَثْ ويشيل
وفى النهـار الصعايـده داخـله بالـبرامـيل 
  ويعد هذا الشكل من أبسط أشكال النظم، حيث يقوم بناؤه على حرف روى واحد متتال، وهذا الشكل الذى يقدمه بيرم لا يتناص إلا مع الشكل المعمارى للموال الرباعى، دون أن يستخدم التجنيس الكثيف فى قوافيه، فلا يحتاج القارىء لفك شفرتها، إذ أن موضوعه الذى يطرحه لا يستدعى مثل هذه الحيل الصوتية، فرسالة نصه محددة فى إظهار المفارقة بين نموذجين/ مكانين / عالمين، لكل واحد سماته، وبالتالى موقعين حضاريين يكشفهما معا لتتضح حدة المفارقة دون تغميض للقوافى، وإن ظلت بعض المفردات تلقى بظلالها الشعبية على النص مثل (يلغوَّص  ـ الخبث ـ الوبا) وكذلك:
 ويالـلى بالعـرقسوس ماشى وبتخبط
عبط على قدرتـك والكبايـات عبط
 خايف عليك وانت ماشى فى حى متزبط
 من نقره تندب فيها وانت ماشى متربط
   
  إن بيرم ليس ابنا وفيا على طول الخط للنص الشعبى، لكنه يتخطى أبوته ليصنع أبوة لنصه، إضافة إلى أننا لن نجد لديه صورة الجماعة الشعبية عن العالم، ولا انحيازاتها، وتخيلاتها، وميول أفرادها، فقصائده الزجلية تشكل بنية أخرى للوعى، لا تقف عند ما يطرحه النص الشعبى، لكنه يخترقه على مستويين هما: الشكل – الرؤية، وما يضمهما من مفردات تتساوق مع واقع يخص رؤيته، كما يقدم بيرم شكلا رباعيا، وهو الشكل الرباعى "الأعرج"، وهو يتناص شكليا مع شكل شعبى هو الموال الخماسى "الموال الأعرج"، ومخططه يتكون من قافيتين متحدتين، ثم الشطر الأعرج، ليختتم بترديد موسيقى للقافية الأولى، ويمثل الشطر الثالث ذروة الصعود حيث يكون بمثابة بداية قول يكمله الشطر الأخير "الرباط" / "الصيد" معلنا عن تتويج المعنى رؤيويا وموسيقيا.
 فى لورى رايح جماعه يهتفوا لفلان
 ولـورى راجع جماعه يهتفوا لعلان 
 لا مجلس الأمه سلعه تشترى بمزاد 
ولا النيابـه يا عالم كوسه وبدنجان
 ثانيا : الموال الخماسى
  استخدم بيرم نوعين ـ فى حدود ما رصدناه ـ من المواويل الخماسية :
أ – الخماسى متماثل القافية  
وهو يسير على قافية واحدة، ويكوّن كل موال خماسى وحدة واحدة داخل القصيدة، ولنتأمل هذا النموذج:
يِهون علىَّ الحديد والسجـن والسجان
و يهون علىَّ أقاسى كل ضيـم وهوان
يهـون عليكى ياعـين الكى بالنـيران
الله يهوِّن كل دا وأقول زيدونى كمـان
ما دام حبيبى اللى احبه راح يبات فرحان

  يستعير بيرم من النص الشعبى آلية التكرار فى التعبير الافتتاحى "يهون علىَّ " الذى يسهم فى التأكيد على المعنى وتصعيده، كما يتناص مع مفردات متجذرة فى أرض الجماعة الشعبية، وفى مواويلها تحديدا، وقد استدعى النص المفردات الموالية الآتية (الضيم – الهوان – الكى بالنيران)، لكنه يفارق السياق الشعبى بمفردات (الحديد – السجن - السجان)، ليحيل على قضيته الخاصة والتى تتصل بقضايا عامة ، وهى "التضحية من أجل المحبوب" .
ب – الخماسى / الأعرج 
  الموال الخماسى ـ ويسمى فى عرف مؤديه والعارفين به بالموال الأعرج ـ يتكون من خمسة أشطر، وتكون قوافيه الثلاثة الأولى من جناس واحد، والرابعة "حره / عرجاء". أما الخامسة، فإنها تعود بموسيقاها إلى الأقفال الثلاثة الأولى.
يقول الموال الشعبى :
من عشقى فى الزرع جبت عود مرير وناشيته  أ
وجـبـت لـه ميه فى كف ايدى و روِّيتـه  أ
وصـبرت علـيه حُوْل لـمَّا ان طرح جيته أ
وجيـت أدوقـه لقيتـه مـر لم ينداق ب 
تـعتـب علـيه ليه ما هو أصل المر من بيته أ
ولبيرم فى هذا الشكل :
لوكـان فى نوابنا نايب ينظـم الأوبريت 
أو حتى ينظم على تربـة أبوه كـام بيت 
أو حد كان قاله إيه روميو وإيه جولـييت 
ما كانش يصبح قانـون الفـن والتفكـير 
مدشوت لغاية ما يتفـرق ورق تـواليت 
  والملاحظ فى الموال الخماسى أن الأقفال الثلاثة الأولى (المتحدة القافية) تمثل الحركة البنائية الأولى فى الموال، وهى تمهد للصعود / التصاعد للحركة الثانية، التى تبدأ بالشطر الرابع غير المقفى، والذى يكون بمثابة بداية جملة يكملها الشطر الأخير، أى أن حركة البناء تصعد خلال الشطرين وكأنهما بيت واحد تنتهى بنهايته التجربة، ويمثل الشطر غير المقفى / الأعرج فى الموال الارتفاع الذى يعقبه الصيد؛ صيد الهدف / الحكمة / مجمل القول فى الشطر الأخير.
  إن بيرم فى هذا الموال البديع يدرك بوعى حاد طبيعة السياق الذى يبدع منه وفيه، وتتبدى فرديته / فرادته فى وجهة النظر التى تنتهى بمفارقة النهاية، وهو ينحاز لمفردات (الأوبريت – روميو – جولييت – قانون الفن – مدشوت – تواليت )، لتدخل قارئها إلى سياقه الساخر، وهو سياق نخبوى يخص فئة معينة يتجه بخطابه إليها ليعريها ويكشف زيفها، بل جهلها، لذا سنجده قد نجح فى اختياره مفردات الخطاب بمغايرتها للنص الشعبى رغم استعارة بعض آلياته الشكلية.
ثالثا : الموال السباعى / السبعاوى / النعمانى / الزهيرى 


  إن المبرر فى تخلّق هذا الشكل الفنى من أشكال الموال، هو خلق مساحة  أكثر اتساعا للقول، بحيث تكون ملعبا أكثر خصوبة للجناسات، وطرح قيم جمالية ومضمونية، إذ إن الشكلين الرباعى والخماسى قد يضيقا على أغراض الشاعر الشعبى  الميّال للإفاضة، ولأن بيرم التونسى صاحـب وعى خاص بما امتلك من ذاكرة تحتشد بمواويل رباعية وخماسية، فقد عرج على أشكال أخرى منها الشكل السباعى الذى يسمى فى عرف الجماعـة الشعبية بالنعمانى والزهيرى /"موال مزهّر" فى أماكن أخرى، وقد قدم بيرم فى هذا الشكل عددا كبيرا من أزجاله، ومخططه يتكون من ثلاث حركات بنائية هى:  الحركة الأولى (عتبة الموال) - الحركة االثانية (ردف الموال)- (رباط أو غطاء الموال) ومن هذا الشكل : 
       يا قرن يا عشرين باريتك كنت قرن الفيل
وفيـك محمد بعث بالـوحى والتنـزيل 
وفيك عمـر يرعب العالم بلا أساطيـل 
         
جيت والتقيتنا قـلاشوه بالجروف ننباع
لا المشتـرى فى التمن ماكس ولا البياع 
ومين فى سـوق الدلاله يشترى الصياع  
           
إلا لمسح الـجزم ويدحرجـوا برامـيل
ويكمل بيرم قصيدته "القرن العشرين" على هذا النسق حتى نهايتها، والموال السباعى من الأشكال الأثيرة لدى الجماعة الشعبية، ويطلق عليه بعض الشعراء الشعبيين الموال السبعاوى مستندين فى تسميته إلى عدد أغصانه "زهراته"،   وكما أبدع بيرم مواويل سباعية مختلفة الجناسات، فإنه قد كتب أيضا مواويل سباعية متماثلة القافية مفارقا الشكل الذى اعتاده المبدع الشعبى، وربما يعود حرص بيرم على عدم تغمـيض قوافيه لأنه شاعر كتابى (نسبية إلى الكتابة)، أى إن وسيلة إيصال نصه تكون عبر التدوين، كما أن قضاياه لم تكن بحاجة إلى قول مشفر، فهو ليس بالشاعر الشعبى الذى انتخبته جماعته، وتعاضدت معه، بل تماهت روحها بقوله، حتى أنها تدرك معه مفاتيح النص، وتستمتع بفك شفرة ماغمض فيه .

رابعا : الموال الثمانى
لقد تعامل بيرم مع هذا الشكل على نظامين :
• أ- الموال الثمانى الذى يتكون من حركتين جناسيتين 
   إن هذا الشكل لم نجد مثيلا له ـ فى حدود ما تم جمعه ميدانيا ـ فى الشعر الشعبى ، لكنه يقارب فى نظامه الموال السباعى، 
1) فى حـارة القِدره دَلَّاله اسمهـا أم خليـل
2) خمسين سنة عمرهـا  لكن من الشماليـل           عتبة الموال      
3) وراها قنطار شغت شايـلاه وهـم تقـيل 
4) بالاختصار لمـا تـمشى تفكـرك بالفيـل 
5) والبـرقع لى على الأنـف العريض محطوط          ردف الموال
6) بالصنعه والفن فوق كرسـى كـان ممطوط 
7) ما يظهر إلا عيـون متكحلـه وخـطـوط 
8) ويـخفى داهيـة حنك وصـدغ طويــل    رباط الموال / الغطاء
إن بيبرم فى هذا الموال قد تمثل الشكل السباعى، لكنه اضاف شطرا للحركة الأولى، فأصبح الموال ثمانيا، من هنا فقد تناص بيرم مع النظام الهندسي للموال السباعى، إضافة إلى استدعائه لبعض الموتيفات Motifs  الشعبية المستمدة من الحارة المصرية والتى منها (الدلاله –البرقع – التكحيل )، فكل مفردة تستدعى عالما يتساوق مع الأفكار  الشعبية خاصة فى إحياء المدينة الشعبية، كما ان استدعاءه للحارة يضمر خلفه مجموعـة من العادات والتقاليد، وطريقة فى الزى والتجميل، بل طريقة فى الكلام تخص بعض الحارات المصرية. ولبيرم فى الشكل الثمانى نموذج أخر يغاير به بين عدد شطرات كل من  الحركتين، فيجعل الأولى مكونة من أشطر ثلاثة، والثانية من أربعة أشطر على عكس الموال السابق، ثم يأتى بشطر ثامن يكون رباطا أو غطاء للموال.
• ب – الموال الثمانى المتبادل القافية 
وهو يتكون من حركة واحدة، يتم فيها تبادل قافيتين بشكل متوال على النحو التالى:
أـــــــ ب ـــــــ أ ـــــــ ب ـــــــ أ ـــــــ ب ـــــــ أ ـــــــ ب
الفـن فى الشـرق منه قلـبنا ممغـوص     أ
من كتر ما بيجلب الأوخـام والأوجاع     ب
صبح هلاهيـل لابسها مدعى بلبـوص    أ
على المسارح وع الشاشه وفى المذيـاع    ب
من كل تيجان ملـوك الفن فيها فصوص    أ
اللى سرقها اشتهر واللى بدعها ضـاع    ب
على المسارح تروح تسمع كلام مرصوص    أ
عن الحكم والمواعـظ سقفوا يا رعـاع    ب
  
 إن لنص بيرم حركية أوسع من القوالب الشعبية ـ هذا ليس حكما بالقيمة ـ فمن خلال معرفته بها، وإدراكه لأسرارها، ينوع فى أبنية أزجاله، ويفارق بنصوصه الأبنية الشعبية فى معظم الأحايين، وقد كتب بيرم أزجالا فى شكل مواويل من عشرة أقفال، وزاد عليها فى مواويل أخرى، فضلا عن استخدامه الكثيف للموال المردوف.
  إن التنوع الذى تتجلى ممن خلاله أزجال بيرم تضيق هذه الصفحات عن استيعابه بشكل إحصائى، خاصة مع كثرة دواوينه وتنوعها، فضلا عن استخدامه للبحر الموالى "البسيط" فى عدد كبير من أزجاله .
  وبعد،  فإن عالم بيرم التونسى، وعلاقته بالآخر الشعبى – تواصلا ونفيا، إحلالا وإزاحة، استلهاما وتوظيفا – يحتاج إلى عدد كبير من الدراسات تـكون مهمتها محاولة الكشف عن جدل علاقته بالثقافة الشعبية، وما هذه القراءة إلا بداية فى محاولة الكشف هذه.

Dr.Radwa
Egypt Air