الإثنين 29 ابريل 2024

بيرم التونسى في المنفى


بيرم التونسي

مقالات10-3-2023 | 22:05

أبو الحسن الجمال

في كتابه "ذكريات باريس" وصف الدكاترة زكي مبارك أحوال بيرم التونسى في باريس بدقة متناهية أثناء مكوثه بها للحصول على دكتوراه الدولة من جامعة السربون 

عانى بيرم التونسى حياة قاسية تراوحت بين شظف العيش إلى النفي الإجبارى، فتراكمت لديه الخبرات لذا كانت التجربة لديه صادقة والصورة الشعرية فائقة الروعة

شارك بيرم بالتحرير في بعض الصحف مثل جريدة "الزمان" التي رأس تحريرها فترة من الزمان ، كما أصدر بنفسه جريدة "الشباب" وكتب أيضاً المقالات والمقامات الساخرة

نفذ بيرم التونسى إلى أعماق الشعب التونسى وتعرف على معاناته مع الاستعمار الجاثم على صدره كما هو الحال في مصر، فعمل قلمه لتشريح أحوال هذا المجتمع

 

"من رحم المعاناة يولد الأمل ومن قلب المأساة يولد الإبداع" وقد تعرض معظم الأدباء والفنانين والعلماء لظروف قاسية في بداياتهم، وكانت هذه الظروف كفيلة بأن يعيقهم عن مواصلة الحياة والاستسلام للفشل واليأس، ولكنهم صمدوا وأبحروا فى نهر الحياة دون الوقوف عند هذه العقبات وتغلبوا عليها وقهروا اليأس وانتصروا عليه وحققوا ما يشبه المعجزات والأمثلة على هذا كثيرة ..  

   ومن هؤلاء الشاعر الكبير محمود بيرم التونسي (1893-1961) نتذكره بمناسبة ذكرى مرور 130 عاماً على مولده، وبين المولد والوفاة عاش بيرم حياة حافلة وزاخرة ومتمردة، وكان وجوده شوكة في حلق الاستعمار وأعوانه.. ونقدمه قدوة ونبراسا لشبابنا في زمن ندرت فيه القدوة.. 

   عانى بيرم التونسى طوال حياته وعاش حياة قاسية من شظف العيش إلى النفي الإجباري وعمل في مهن عديدة، وقد تراكمت لديه الخبرات لذا كانت التجربة لديه صادقة والصورة الشعرية فائقة الروعة، وفي مدرسة بيرم التونسى تخرج العشرات بل المئات من الشعراء، وهو ركن ركين في مدرسة الزجل المصرى فى العصر الحديث.. وسوف نتعرض في مقالنا التالى لمرحلة مهمة في حياته هي "مرحلة النفى" إلى عدد من الدول وأهمها محطة فرنسا التى مكث فيها معظم هذه المدة ثم محطة تونس، وقد استغرقت سنوات طويلة من حياته اقتربت من 18عاماً، تعرض فيها للتشرد والجوع والعمل في العديد من الأعمال الشاقة التي استهلكت من عمره ومن صحته ومن سعادته فارتسم البؤس على وجهه، ورغم هذا فقد اكتسب خبرات وصقل تجاربه فى عالم الإبداع والكتابة الصحفية. قال عنه الأستاذ فؤاد دوارة بعد رحيله: "لن أرثيه فمثله لا يرثى، وإنما يذكر بعد مماته أكثر من ذكره في حياته.. ويجد الناس في الذكر نفعاً ومتاعاً لا يجدونهما عند كثير من الأحياء، فهو إذن حى فى مماته، بل أكثر من مئات الأدباء والفنانين الأحياء الذين لم يقدسوا الحياة مثل تقديسه لها، ولم يحبوا الناس مثل حبه لهم، ولم يكرهوا الظلم والاستغلال والابتذال مثل كراهيته لها.. ولم يتح لواحد منهم أن يحيا حياته الخصبة العريضة بين الفقراء والمنبوذين، ويعرف أدق تفاصيل المأساة الحقيقية التى يعيشونها وهم سواد الشعب وأصحاب كل الحق". (فؤاد دوارة، شعر وشعراء. ص294).   

     وقد جلبت عليه بعض المواقف والكتابات ضد الإنجليز والقصر وبعض الذين يتعاونون مع المحتل – جلبت عليه المتاعب وخصوصاً عندما كتب قصيدة "البامية الملوكى والقرع السلطانى" ونشرها في مجلة "المسلة" التي كان يصدرها، وفى هذه القصيدة يعرّض بالسلطان فؤاد الذي تولى الحكم بعد أخيه السلطان حسين كامل عام 1917، وقد رزق بابنه فاروق في فبراير من عام 1920، وكان قد أشيع أنه ولد بعد سبعة أشهر من زفاف فؤاد على زوجته الشابة "نازلى"، وأنها كانت تحمل به قبل الزواج، والتى قال فى أولها: 

البامية في البستان تهز القرون ***وجنبها القرع الملوكي اللطيف

والديدبان داير يلم الزبون***صهين وقدم وامتثل يا خفيف

نزل يلعلط تحت برج القمر***ربك يبارك لك في عمر الغلام

يا خسارة بس الشهر كان مش تمام

    وفي نفس التوقيت كتب بيرم التونسي مقالا بعنوان "لعنة الله على المحافظ" يهاجم فيه محافظ القاهرة وهو زوج الأميرة فوقية ابنة السلطان فؤاد من زوجته الأولى، غضب عليه السلطان فؤاد فأصدر الأوامر بنفيه إلى تونس يوم 25 أغسطس 1920، وكان اليوم أول أيام عيد الأضحى، ولم يجعلوه يهنأ بالاحتفال مع عائلته الصغيرة وزوجته في شهور حملها، ولملم بيرم أغراضه ويمم شطره نحو أرض أجداده، وحاول البحث عن أسرته هناك ولكنهم لم يحسنوا استقباله طرودوه وتنصلوا من قرابته، وقامت سلطات الاحتلال الفرنسى مع الشرطة التونسية بوضعه تحت المراقبة الشديدة إلا أنه لم يأبه لذلك لطبيعته التي جبلت على التمرد ومكافحة الاستعمار في أى مكان، وضاق ذرعاً بهذه القيود فقرر السفر إلى فرنسا ونزل أول ما نزل في مدينة مرسيليا ولم يتحمل البقاء بها سوى ثلاثة أيام، ثم غادرها إلى باريس، وفشل في الحصول على عمل في باريس، فنصحه البعض بالتوجه إلى مدينة ليون، حيث استطاع العمل بأحد مصانع الحديد والصلب ولكن مشقة العمل وإصابته فيه جعله يترك العمل، ولكن تعرض لأهوال يصعب تحملها الكائن البشرى فتعرض للجوع في مدينة حرارتها تحت الصفر، ثم وجد عملاً في شركة المنتجات الكيماوية العالمية مقابل عشرين فرنكاً في اليوم، وكانت الوظيفة صعبة عليه وأثرت على صحته، ولكي يدبر حاله في الغربة وحال زوجته الشابة في مصر راسل مجلة "الشباب" في القاهرة لصاحبها علي عبد العزيز الصدر، واتفق معه على إمداد المجلة بالأزجال على أن يرسل ثمنها لزوجته التي لم تحافظ على عهده وعلى عشرته فرفعت دعوى طالبة الطلاق وحكمت لها المحكمة بحجة أنه أصبح خطراً على الأمن العام.   

   في فرنسا أضناه الشوق والشجن وتذكر الأيام الخوالى لها في ثغر الإسكندرية وشمس مصر المشرقة، وبحارها ونهرها العذب النمير، فكان ينحت من هذا الجو المشحون بالأسى الأشعار التي تقطر شجناً وتفيض حباً ووجداً نحو مصر وأهلها وما تعانيها من الاستعمار البغيض، وبعد عام ونصف العام قضاها في المنفى تسلل إليها ونزل في ميناء بورسعيد يوم 27 مارس عام 1922، ثم توجه على الفور إلى الإسكندرية مسقط رأسه ومهوى شبابه الغض، وهرع إلى زوجته التي علم أنها حصلت على الطلاق بعد أن وضعت مولودة سمتها "عايدة"، فأصيب باللوعة على فراق زوجته والفرحة وهو يستقبل بين يديه طفلته الصغيرة وكانت له سلوى عن الآلام، وظل بيرم في مخبئه بمنزل أولاد عمه بحى الأنفوشى بالإسكندرية قرابة الثلاثة أشهر، وضاق ذرعاً بمكوثه وهو الذى تعود التحليق في السماوات المفتوحة، وأخيراً غامر ونزل إلى شوارع الإسكندرية، واستمر في كتابة الأزجال ودفع بها إلى الصحف وخصوصاً مجلة "الشباب"، واشترط مع صاحبها ألا يضع اسمه على الأزجال السياسية التي تنتقد الوضع في البلاد في هذا التوقيت الهرج، وكانت هواجس القبض عليه والعودة إلى النفى تطارده في منامه وفي يقظته على السواء، واستمر على هذا الحال قرابة 14 شهرا، وتم القبض عليه وفي 25 مايو 1923 تم وضعه على أول سفينة تغادر البلاد إلى فرنسا، وعاد إلى حياة البؤس والشقاء مرة أخرى ويغيب عن البلاد ويروى بيرم قصة هذا الرحيل بقوله: "إذا كان رجال السياسة لم يشعروا بوجودى حينئذ، فقد شعر بي الزملاء من أهل الأدب، فقاموا بإبلاغ السلطات عنى وعن أمكنة وجودى وحركاتى وسكناتى، فقامت بترحيلي من جديد إلى خارج مصر"، وانفعل بهذا الحدث وكتب يقول:

 الأوله آه والثانية آه والثالثة آه

الأوله مصر قالوا تونسى ونفونى جزاة الخير وإحسانى

والثانية تونس وفيها الأهل جحدونى وحتى الغير ما صفانى

والثالثة فرنسا وفي باريس جهلوني وأنا موليير في زمانى

ويصل إلى مرسيليا ويعمل حمالاً لصناديق البيرة وحقائب المسافرين، بعدها سافر إلى باريس وعمل في مهن مختلفة أيضا تعتمد على الطاقة الجسمانية، ولم ينس الكتابة فقد كان يحرر في عديد من الصحف العربية التي تصدر في باريس وبعض هذه المقالات كان لنواة كتابه "السيد ومراته في باريس" ويحتوى على 24 مقالة وينقسم إلى قسمين الأول: السيد ومراته في باريس والثانى السيد ومراته في مصر، وتحدث فى القسم الأول عن تجربة أحد الرجال المصريين الذي حط على أرض باريس هو وزوجته، فهاله التقدم الحضارى واحترام الوقت والنظام والنظافة ودار حوار بينه وبين زوجته التي تحررت من إسار (الملاية اللف) التي كانت ترتديها فى مصر، ثم هاله نظافة الشوارع وضرب مثلاً للنظافة عندهم فى اللوكاندة الرخيصة الثمن ومع ذلك نظيفة ومناسبة للمعيشة، كما رصد بيرم من خلال هذا الحوار بين السيد ومراته عن التسامح وقبول الآخر، بينما يتناول القسم الثاني في كتاب بيرم التونسى، برصد تجربة سيد وسيدة، بعد وصولها مصر، قادمين من باريس، حيث شرع الزوجان فى خوض غمار ومتاهات رحلة نقد ومقارنات بين الحالين والمكانين، على مختلف الأصعدة. وتبرز هنا، مقالات لاذعة تسمي عيوب المجتمع وتدلل على الخلل والنواقص. 

    وقد وصف الدكاترة زكي مبارك أحوال بيرم التونسي في باريس بدقة متناهية أثناء مكوثه بها للحصول على دكتوراه الدولة من جامعة السربون، فكتب يقول في كتابه "ذكريات باريس"، وكان قد التقى بيرم في إحدى الحدائق فى 25سبتمبر ١٩٢٩.. "في يوم الثلاثاء الماضي وأنا اخترق تلك الحديقة فى الساعة الثامنة قبل الغروب لمحت طائفة من الجرائد المصرية فى يد إنسان لا أعرفه، وعلى وجهه مسحة من سماحة الشرق، وكتلة من أثرة الغرب، فقلت:

 - سلام عليكم (بخفة ونشاط)

- عليكم السلام (بتثاقل وبرودة).

- لا تُرَع أيها الرجل، فأنا أريد أن ألقي نظرة على هذه الجرائد لا أكثر ولا أقل، وأنا والله فاعل ذلك رضيت أم غضبت!

- اقرأ، ولكن أسرع فإني ذاهب إلى العشاء، فقد شغلني قبلك هذا الفتى بجانبك إذ رجاني أن أسمح له بنظرة سريعة ينظر بها أخبار مصر والشرق، كما يقول، أما أنت فبارك الله لك في هذه الجرأة، ألست تريد أن تقرأ هذه الجرائد رضيت بذلك أم غضبت؟ ولا أدرى والله ماذا أصنع إذا حاولت منعك وفيك هذه الجرأة وهذا الهجوم، وقد تكون قوى البطش، سليط اللسان!

ثم سكت، وأخذت أقرأ تارة وأدرس وجهه تارة أخرى:

هذا شاب قصير، نحيل، متضعضع، مهدود، لم تبق أيامه من جسمه باقية، وهو لذلك ضيق الصدر لم يستطع أن يتكلف البشاشة لرجل بدأه بالتحية، وإنه ليحمل رزمة من الجرائد المصرية. وهذا الحمل الثقيل يدل على أنه مغرم بتتبع الحياة في مصر بألوانها السياسية والأدبية. فيا ليت شعرى من هو؟

- أنت هنا منذ زمان أيها الأخ؟

- منذ عشر سنين!

- عشر سنين؟ وماذا تصنع؟

- عامل في أحد المصانع

- وما الذي ابتلاك بهذه الجرائد وأنت عامل؟

- هذه بلوى قديمة!

- منذ متى؟

- منذ كنت أحرر المسلة: فأنا محمود بيرم التونسي

أهلًا وسهلًا!

وحضرتك؟

أنا زكي مبارك

أنت الدكتور؟ الله يسامحك! كيف نسيت أن ترسل إليّ نسخة من كتاب الأخلاق عند الغزالى، لا بل كيف استبحت لنفسك أن تهاجم ذلك الفيلسوف … إلى آخر ما قال أيها القارئ!

  ثم يقول الدكتور زكي مبارك "أتذكر صيف سنة ١٩١٩م أن كنت لم تشهد ذلك العهد وذلك العام الميمون فاسأل من شهدوه ومن اكتووا بناره يخبرونك أن محمود بيرم التونسى كان شاغلًا لجميع الأندية المصرية بمجلته الصغيرة اللذاعة (المسلة) وهو — مع احترامي لمن يشتغلون بالرسائل الفكاهية في مصر؟ — رجل ممتاز له طابع خاص، ولقد رأيته في حالة محزنة، فقد سقط عليه في ذلك اليوم برميل بيره في المصنع الذي يعمل فيه، ولكن الله لطف فلم يُصب إلا بجرح خفيف، أتم الله شفاءه وعافاه. بعد أن تعارفنا تطلقت أسارير وجهه، وأخذ يسألني عن مصر وعن صحف مصر وعن الصحفيين الذين يطلبون منه أن يراسلهم مجانًا وهو في أشد الحاجة إلى المال، وعن الذين يستطيعون أن يسهلوا له سبيل العودة إلى مصر ولكنهم لا يفعلون!

ثم تناولنا معًا طعام العشاء. وطفنا طويلًا على شواطئ السين، وأسمعني مواويله وأزجاله القديمة التي كانت تضحك ناسًا وتبكي آخرين، في سنة ١٩١٩، وأسمعني كذلك طائفة من المقامات الهزلية التي تضحك الثكلى، خصوصًا مقامة «الفقى» الذي خرج يصطاد امرأة، والذى «شال العزال» إلى المحطة!؟

 ثم تناولا العشاء أخذ بيرم يسأل زكي مبارك عن أحوال مصر التي تركها منذ عشرة أعوام ثم جلسا في حديقة لكسمبورج، فقال مبارك: "فاضطرنا تعبه إلى أن نجلس على مقعد فيه عاشقان يتناجيان، والأدب في باريس لا يسمح بإزعاج العشاق، وظل الفتى يقبل الفتاة وهي بين يديه كأنها الغصن المطلول، وكأننا لسنا هنا وكأنهم ليسوا هناك؟

- لا تحسب يا دكتور أن هذا فسق، فقد يكون هذا العناق مقدمة زواج.

- اطمئن! فأنا أعتقد أن هذا الغزل المكشوف أسلم وأشرف من تلك السرائر المظلمة والقلوب السود التى تطوى عليها جوانح الغَدَرة الفَجَرة ممن يدّعون الفضيلة، والله بما يعملون عليم!". (زكي مبارك .ذكريات باريس ص103).

تونس مرة أخرى

عاش بيرم التونسي في فرنسا قرابة 16 عاماً ثم رحل إلى تونس في عام 1936، وطال به المقام هذه المرة لأكثر من عام، وكانت فترة زاخرة، وقد جمع الدكتور محمود صالح الجابري أعمال بيرم في الصحافة التونسية فى مجلد ضخم اقترب من الثمانمائة صفحة من القطع الكبير بعنوان "محمود بيرم التونسى فى المنفى حياته وآثاره".. 

    في هذه المرة تغلغل بيرم التونسي في أعماق المجتمع التونسى وتعرّف إلى خصائصه وخصاله كما شخّص أمراضه، وطبعاً لم ينس الكتابة والصحافة فهى الأكسجين الذى يتنفسه، وفي الكتابة سلوى له للتغلب على آلامه وهمومه وقسوة المنفى.. وقد شارك بالتحرير في بعض الصحف مثل جريدة "الزمان" التى رأس تحريرها فترة من الزمان، كما أصدر بنفسه جريدة "الشباب" وكتب أيضاً المقالات والمقامات الساخرة في العديد من الصحف الأخرى مثل "السرور"، و"السردوك"، و"القلم الحر"، ومجلة "الجامعة".. لأنها مورد رزقه الوحيد، وحينما كانت تعزف الصحف عن نشر إنتاجه كان يلجأ إلى العمل بالمهن الأخرى مثل قيامه بصناعة الحلوى والطواف بها على الباعة لاكتساب القوت، كما عكف خلال هذه الفترة القصيرة على كتابة الأغانى والأزجال والمسرحيات والسيناريوهات السينمائية وإرسالها إلى بعض الفنانين في مصر للحصول منهم على المال للتغلب على شظف العيش..

   نفذ بيرم التونسي إلى أعماق الشعب التونسي - كما ذكرنا- وتعرف على معاناته مع الاستعمار الجاثم على صدره كما هو الحال في مصر، فعمل قلمه لتشريح أحوال هذا المجتمع، وكتب المقالات الساخرة التي يشن فيها هجومه على هذا المستعمر البغيض وذيوله من أبناء تونس، كما لم يتوان فى هذه الظروف العصيبة من شد أزر الوطنيين هناك والمجاهرة بدعم أهم حزب وطنى هناك وهو "الحزب الحر الدستورى الجديد"، ومدح رجاله والتنويه بخصالهم، وحث الناس بكل الوجوه على الالتحام بصفوفه، كما كتب عن الزعماء والأبطال والفنانين والممثلين ورجال الدين وتعرض للمجتمعات والعائلات. كما قدم لنا وصفاً دقيقاً لحارات تونس وأحيائها وطرقاتها ومفازاتها وحرف الناس وخصائصهم وتجارتهم بما في ذلك مواخيرها وإشارات المرور وحراس الليل وكناس الشوارع. وقد ضاقت السلطات ذرعاً بأعمال بيرم التى تحض على الثورة ومقاومة الاحتلال ومن يتعاون معه، فضيقت عليه الخناق وتتبعت خطواته وهو الذى يكره القيود.

  وقد كانت إقامته في تونس مبعث قلق للإدارة الفرنسية في تونس، وهنا يقرر الحاكم العسكرى الفرنسى نفيه إلى السنغال، ثم يقدم التماساً فينتقل إلى سوريا، ويعيش فيها عاماً، إلى أن تطرده السلطات الفرنسية من جديد وتم وضعه في إحدى السفن لنفيه إلى إحدى دول الشمال الأفريقى، وتقف السفينة في بورسعيد وهنا تذكرها قبل أعوام تسلل منها إلى أرض الوطن، وتفاعل على الفور فكتب زجل "العودة" قال في مطلعه:

في بورسعيد السفينة *** رست تفرغ وتملا 

والبياعين حوطونا *** بكارت بوستال وعمله

   وأخيراً اكتحلت عينه برؤية مصر في 8 أبريل عام 1938 بعد فترة نفى استمرت 18 عاماً وبعد ذلك توسط له الأصدقاء عند الملك فاروق وأخيراً صدر بحقه العفو الملكى.

Dr.Randa
Dr.Radwa