من فوق ربوة عالية، ومن بين البنايات السكنية المتخمة المتلاصقة، تطالعك مأذنته الملوية السامقة، في رسوخ ومهابة، صامتةً ساكنة، تنظر إلى الأيام في تداولها، وإلى المارّة في غدوهم ورواحهم، وإلى الباصات العابرة، والعربات الهادرة، وتشهد على أيام ولَّت وطباع غير ما عهدت من طباع، وزمان غير ما تعرف من زمان.
يجاور سوره الغربي مسجد الأمير المملوكي صرغتمش الناصري، بينما يتربع الجامع فوق جبل "يشكر"، في اتساع ومهابة، وامتداد ورحابة، مترفعاً عن أصوات الدهماء والغوغاء، ونائياً عن ضجيج الحياة وصخبها، ومحتمياً من فضيان النيل (عندما كان)، متكئاً على تاريخ ممتد، وسنوات لا تُعد، وحافظاً عهد رجال ذهبوا بينما بقيت ذكراهم وتناقلت الأيام سيرتهم من جيل إلى جيل.
هذا المسجد الجامع هو جامع ابن طولون، أو الجامع المعّلق، أو جامع القطائع، أكبر مساجد مصر وأقدمها حتى الآن لاحتفاظه بحالته الأصلية، مقارنة بما سبقه من مسجد عمرو الذي طالته يد التغيير والتعديل والتجديد، أو مسجد مدينة العسكر التي لم يعد لها وله ذكر ولا أثر. وعرف الجامع في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي بـ «الجامع الفوقاني»، تمييزًا له عن «الجامع السفلاني» وهو جامع عمرو بن العاص في الفسطاط.
من بلاد بعيدة، أتى ابن طولون، فكان قدره في مصر وكانت مصر قدره، فبزغ نجمه وعلت مكانته. وشاءت الظروف أن يلي مصر بعد وفاة "يارجوخ" سنة 259هـ/873م، وكان أن أنابه عليها، وفي سنة 263 هـ/877م قلده المعتمد أمر خراج مصر وإمرة الثغور الشَامية، فأضحى السيد الأوحد للديار المصرية والمشرف على جميع أمورها. وهكذا تقدِّر الأقدار، ويأتي بعد الليل النهار، ولأن الطموح عند البعض يقصر دونه العمر، فبعد توطيد حكمه في مصر، استقل ابن طولون عن الخلافة العباسية، وضرب الدينار الأحمدي رمزًا لهذا الاستقلال، وامتدت حدود دولته من ليبيا إلى حدود الدولة البيزنطية في آسيا الصغرى، ومن نهر الفرات إلى شلال النيل الأول.
وكان من الطبيعي أن تضيق عليه، وعلى طموحه وحاشيته وجنده، مدينتي الفسطاط والعسكر، كما ضاق جامع العسكر بالمصلين، فأسس بن طولون مدينته القطائع سنة 256هـ/870م كي تكون مدينة خاصة به وبحاشيته وجنده، وكرمز لاستقلاله عن الدولة العباسية، وشيّد مسجده الضخم هذا بها.
وتقول لوحة التأسيس، التي عثرت عليها لجنة حفظ الآثار العربية بين الأنقاض أثناء بعض الأعمال بالجامع عام 1890م في صورة بعض قِطَع من الرخام جُمِعتْ ورُتِّبتْ فتألَّف منها لوحة تاسيس الجامع:
"أمَرَ الأمير أبو العباس أحمد بن طولون مَوْلى أَمِير المؤمنين أدامَ اللهُ له العِزَّ والكرامةَ والنعمة لتامَّة في الآخِرة والأولى ببناء هذا المسجد المبارك الميمون مِن خالِص ما أفاء الله عليه وطيَّبه لجماعة المسلمين ابتغاء رضوان الله والدار الآخِرة وإيثارًا لما فيه تَسْنِية الدِّين وأُلْفة المؤمنين ورغبة في عمارة بيت الله وأداء فرضه وتلاوة كتابه ومداومة ذكره في شهر رمضان من سنة خمس وستين ومائتين". وكان ابن طولون قد قدَّر لبناء الجامع مائة ألف دينار ولكن بلغت تكلفته عند الانتهاء منه مائة وعشرون ألف دينار، قال إنه من حُر ماله.
بُني الجامع بالطوب الأحمر على شكل مربع يتكون من صحن مربع فى الوسط، وهو فناء مكشوف مساحته حوالي 92 مترًا مربعاً كان مفروشاً بالحصباء، ويتوسط الصحن فسقية داخل بناء مربع التخطيط تعلوه قبة محمولة على صفوف من المقرنصات. وتحيط به أربعة أروقة أكبرها رواق القبلة. وبداخل الجامع يوجد ستة محاريب، المحراب الرئيسي للمسجد وهو على شكل تجويف نصف دائرى فى حائط القبلة جدرانه من الفسيفساء الرخامية يكتنفة عمودان. وعدا المحراب الكبير توجد خمسة محارب جصية أخرى مرسومة على الجدران. ويحيط بالمسجد من الخارج زيادات من ثلاث جهات عدا حائط القبلة التي كانت تلاصقها دار الإمارة التي أنشأها أحمد بن طولون. وتحتوي العقود والنوافذ المطلة على صحن الجامع على زخارف جصية هندسية ونباتية، وتقع النافورة (أو الميضأة) في منتصف صحن الجامع وتعلوها قبة مرتكزة على أعمدة رخامية.
وينسب البعض من المؤرخين تصميم هذا المسجد وبنائه إلى رجل نصراني يدعى سعيد بن كاتب الفرعاني، بينما يرجح مجموعة أخرى من المؤرخين أن المهندس عراقيًا بسبب تأثر مصمم المسجد بتصميم مسجد سامراء بالعراق، وذكروا أن اسمه أحمد بن محمد الحاسب الذي قدم من العراق لبناء مقياس النيل الجديد بالروضة.
أهم ما يميز الجامع مئذنته الفريدة ذات السلم الدائري، التي يبلغ ارتفاعها 40 متراً من سطح الأرض، والتي تُعرف بالمئذنة الملوية، أو الملتفة، وتعكس طراز مسجد العبّاس في سامراء (العراق).
بعد إنشاء الجامع أمر أحمد ابن طولون بنقل القرَّاء والفقهاء إليه، وتصدَّق بصدقات عظيمة وأطعم الفقراء والمساكين، غير أن المصلين لم يحضروا للصلاة فيه لاعتقادهم أنه بني بمال لا يعرفون أصله وكان الناس في ذلك الوقت يخافون على دينهم ويتحرون الحلال، وقال الناس فيه أقوال، فمنهم من قال: محرابه صغير، ومن قال: ما فيه عمود، ومن قال: ليست له ميضأة، فعزَّ ذلك على ابن طولون وجمعهم في يوم جمعة، وخطب فيهم، وأقسم بالله العظيم الذي لا إله إلا هو أنه ما بنى هذا الجامع «ويده تشير إليه» بشيء من ماله، وأنه بناه بكنز ظفر به في الجبل، وأكمل الخطبة، فقال: أما المحراب فأني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد خطه لي في منامي، وأصبحت فرأيت النمل قد طافت بذلك المكان الذي خطه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما العُمُد فإني بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز، وما كنت لأشوبه بغيره، وهذه العمد إما أن تكون في مسجد أو كنيسه فنزهته عنها، وأما الميضأة فإني نظرت فوجدت ما يكون بها من النجاسات فطهرته عنها، وها أنا ابنيها خلفه وأمر ببنائها. فلما سمع الناس حكاية المحراب الذي خطه النمل عظم ذلك عندهم حتى ضاق بالمصلين فقالوا لابن طولون نريد أن تزيد لنا فيه زيادة، فزاد فيه ما يعرف حالياً بالزيادات.
وينسب إلى السلطان المملوكي حسلم الدين لاجين المنصوري (توفي في يناير 1299م)، قيامه بإصلاحات عديدة في المسجد، ولذلك قصة ترويها كتب التاريخ، فيُروى أنه لما فشلت مؤامرة قتل السلطان الأشرف خليل بن قلاوون، التي شارك في تدبيرها الأمير حسام الدين لاجين، هرب لاجين ولوحق، فتخفَّى في مسجد ابن طولون، ونذر إلى الله إن نجا من هذه المحنة أن يعمِّر المسجد، فتحقق مراده وجلس على عرش مصر، فأبرَّ بنذره وأكمل إصلاح المسجد من كل وجه سنة 969هـ/ 1296م، ورتَّب فيه دروسًا للفقه على المذاهب الأربعة، ودرسًا في تفسير القرآن الكريم، ودرسًا في الحديث النبوي، ودرسًا في الطب، ورتب للمسجد خطيبًا ومؤذنين وفراشين وقرر لهم رواتب، وعمل بجواره مكتبًا لإقراء أيتام المسلمين القرآن الكريم، وأمور إدارية أخرى.
وقد مرَّ الجامع، كغيره الكثير من من آثار مصر، بفترات تاريخية لحقه فيها الإهمال، وعدم الإهتمام، ففى القرن الـ 12 هجريا تحوّل إلى مصنع لـ"الأحزمة الصوفية"، واستعمل فى منتصف القرن الثامن عشر كـ"ملجأ للعجزة" وهو الآن ضمن آثار مصر الإسلامية، التي تحظى بالرعاية والاهتمام من قبل وزارة السياحة والآثار.