بقلم – عادل سعد
« القدس عروس عروبتكم.. فلماذا أدخلتم كل زناة الليل حجرتها؟ ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها..وسحبتم كل خناجركم ..وتنافحتم شرفا..وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرض ..فما أشرفكم .. أولاد القحبة ..هل تسكت مغتصبة ؟»
رحل عن بلادنا العربية شاعر عظيم، كانت تتحاشاه حظائر وزارات الثقافة فى كل البلدان العربية، خوفا من شاعر أهان وهن شعوبها وحكامها، ومازلت أتذكر أول مرة استمعت فيها لشعر مظفرالنواب، كان ذلك فى السبعينيات حينما ألقى تلك الكلمات المستفزة على مسرح فى سوريا ولم تستوقفنى تلك الكلمات فقط. بل حرارة أدائه للقصيدة وتفاعله معها فبعد أن سب ولعن وقف الجمهور ليصفق لتحيته فتحداهم غاضبا قائلا : « إجلسوا إجلسوا .. لا أستثنى أحدا «.
مات من كان يقول : « لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم، إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم، تتحرك دكة غسل الموتى أما أنتم لا تهتز لكم قصبة..وتعالوا نتحاكم قدام الصحراء العربية كى تحكم فينا..وياحكاما مهزومين.. ويا جمهور مهزوما.. ما أوسخنا .. ما أوسخنا.. هل وطن تحكمه الأفخاذ الملكية وطن أم مبغى؟ وماذا يُدعى استمناء الوضع العربي؟ وماذا يُدعى أن نتقنع بالدين؟ الكلبة تحرس نطفتها..والنملة تعتز بثقب الأرض ..فأى قرود أنتم؟ القدس ..ستشد ضفائرها .. وتقىء الحمل عليكم..ستقىء على عزتكم.. وعلى أصوات إذاعاتكم..ستقىء عليكم فردا فردا..وستغرز إصبعها فى أعينكم»
وكما توقعت تلقيت النبأ الحزين بلا ضجيج، مات مظفر النواب.
مات شاعر عربى عريض الشهرة عرفته عواصم الوطن العربى مشردا يشهر أصابعه بالاتهام السياسى لمراحل تاريخنا العربى الحديث وحكامه.
جاءت اتهاماته عميقة وحادة وجارحة وأحيانا بذيئة، تصدر عن رؤية تتجذر فى أعماق المعارضة السياسية العربية الموؤدة دائما.
مظفر بن عبد المجيد النواب، والنواب تسمية مهنية، وربما جاءت من النيابة أى النائب عن الحاكم، إذ كانت عائلته فى الماضى تحكم إحدى الولايات الهندية.
عائلته العريقة بالأساس من الجزيرة العربية، واستقرت فى بغداد، لأنها من سلالة الإمام الورع موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، الذى مات غيلة بالسم، فى عصر الخليفة هارون الرشيد، فهاجرت العائلة إلى كشمير ونتيجة لشرفهم وسمعتهم العلمية أصبحوا حكاما لإحدى الولايات الهندية.
وبعد استيلاء الإنجليزعلى الهند أبدت العائلة روح المقاومة والمعارضة للاحتلال فاستاء الحاكم الإنجليزى وبعد قمع الثورة الهندية الوطنية عرض الإنجليزعلى العائلة النفى السياسى أو السجن فاختاروا العراق موطنهم القديم.
راحوا لبغداد مع ثرواتهم الكبيرة من ذهب ومجوهرات، وولد مظفر النواب بجانب الكرخ فى ١٩٣٤ من أسرة ثرية تتذوق الفنون والموسيقى وتحتفى بالأدب، وفى أثناء دراسته بالصف الثالث الابتدائى اكتشف أستاذه موهبته فى نظم الشعر وسلامته العروضية.
تابع دراسته فى كلية الآداب ببغداد فى ظروف صعبة. إذ تعرض والده لهزة مالية أفقدته الثروة وسلبت قصره الأنيق.
بعد عام ١٩٥٨ أى بعد انهيار النظام الملكى فى العراق تعيّن مفتشا بوزارة التربية والتعليم, وفى عام ١٩٦٣ اضطر لمغادرة العراق بعد اشتداد التنافس الدامى بين القوميين البعثيين والشيوعيين الذين تعرضوا للملاحقة والمراقبة الشديدة من النظام الحاكم، فهرب إلى إيران عن طريق البصرة، إلا أن المخابرات الإيرانية « السافاك» ألقت القبض عليه وهو فى طريقه إلى روسيا حيث خضع للتحقيق والتعذيب الجسدى والنفسى للاعتراف بجرائم لم يرتكبها.
فى نهاية ١٩٦٣ سلمته السلطات الإيرانية للأمن السياسى العراقى فُحكم عليه بالإعدام، إلا أن المساعى الحميدة لأهله نجحت فى تخفيف الحكم للسجن المؤبد.
فى سجنه الصحراوى « نقرة السلمان» القريب من الحدود العراقية السعودية أمضى سنوات وراء القضبان ثم نقل إلى سجن « الحلة « جنوب بغداد.
من هذا السجن الموحش الرهيب قام مظفر النواب ومجموعة من السجناء السياسيين بحفر نفق من الزنزانة المظلمة يؤدى إلى خارج أسوار السجن، فأحدث هروبه مع رفاقه ضجة هائلة فى أرجاء العراق والدول العربية المجاورة.
بعد هروبه توارى عن الأنظار فى بغداد ثم توجه جنوبا وعاش بين الفلاحين والبسطاء. وفى ١٩٦٩ صدر العفو عن المعارضين فرجع لسلك التعليم مرة أخرى.
لكن أغنية الشيطان ما لبثت أن عادت مرة ثانية. وحدثت اعتقالات جديدة، فتعرض مظفر النواب للاعتقال مرة أخرى إلا أن تدخل على صالح السعدى أحد القيادات التاريخية لحزب البعث بالعراق أدى لإطلاق سراحه.
غادر بغداد إلى بيروت فى البداية ومن ثم إلى دمشق وراح يتنقل بين العواصم العربية والأوربية واستقر به المقام أخيرا فى دمشق.
كرس حياته لتجربته الشعرية وتعميقها. وعاش فقيرا. وهو أغنى من الحكام العرب بوجدانه النقى وضميره الوطنى.
وقف فى أواخر أيامه فى أبى ظبى لينعى نفسه وأيامه ووطنه قائلا : « لا خبر يجيء من العراق ..لم يبق لى من صحب قافلتى سوى ظلى وأخشى أن يفارقنى ..وإن بقىّ القليل ..أين العراق ..أبثه قبل الجميع غيابه ..ويزوّرون حضوره..؟ولهم خرائط غير ما رُسمت بقلبي» فبكى الحاضرون من شدة التأثر.
أصيب بشلل رعاش «داء باركنسون» وأيد سقوط صدام حسين وعاب الكثيرون عليه ذلك واحتفى به الطالبانى بعد أن صار رمزا بين فلاحين العراق قبل مثقفيهم.
رفض النواب المتاجرة بحياته ونضاله. ورفض تصوير حياته فى فيلم سينمائى ولم يلب رغبة الشاعر والمخرج السورى على سفر والكاتب السورى إبراهيم الحسينى لإنتاج شريط وثائقى عن تجربته كما رفض عرضا مماثلا من القناة الفرنسية الخامسة.
وقال محذرا:» سنصبح نحن يهود التاريخ..ونعوى فى الصحراء ..بلا مأوى «
وكانت آخر كلماته : « هل عرب أنتم ؟ والله أنا فى شك من بغداد إلى جدة..وأراكم تذهبون الليل على أرصفة الطرقات الموبؤة أيام الشدة ..قتلتنا الردة ..قتلنا ..أن الواحد منا يحمل فى الداخل ضده «
رحم الله مظفر النواب، ورحم كل مثقفينا الشجعان، الذين عاشوا وماتوا. خارج الحظيرة. حظيرة الوهن والاستسلام.