الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

يمكننا أن نستفيد من تجربة فيتنام: كيف يحقق الإصلاح الاقتصادى العدالة الاجتماعية؟

  • 16-9-2017 | 23:30

طباعة

فى المؤتمر الصحفى الذى جمعه مع الرئيس الفيتنامى قال الرئيس السيسى إن لفيتنام تجربة خاصة مميزة فى تحقيق التنمية والنهوض الاقتصادى وفى ذات الوقت تحقيق العدالة الاجتماعية.. وهكذا وضع الرئيس السيسى يده على جوهر التجربة الاقتصادية والاجتماعية الفيتنامية.. وهى تجربة تستحق أن نستلهمها ونستفيد منها، مثلما سعينا للاستفادة من التجربة اليابانية فى التعليم، والتجربة البرازيلية فى دعم الفقراء، والتجربة الهندية التكنولوجية فى تحديد فئات وطبقات المجتمع، خاصة تلك الفئات الأولى بالرعاية، كما قال الرئيس السيسى، فقد ثبت بالتجربة أيضاً أن تحقيق معدل نمو اقتصادى مرتفع وحده لا يكفى لتحقيق العدالة الاجتماعية اعتماداً على نظرية تساقط ثمار النمو، والتى تفيد أن الطبقات العليا والأغنياء هى أول المستفيدين من معدل النمو الاقتصادى المرتفع، بينما الفئات والطبقات الاجتماعية الأفقر والتى تقع فى أسفل السلم الاجتماعى تحتاج لوقت حتى تحصل على نصيب من ثمار هذا النمو المرتفع

.. ولعلنا نتذكر كيف طال انتظار الفقراء وأصحاب الدخول المحدودة لعدة سنوات، ونحن نحقق معدل نمو اقتصادى مرتفع فى منتصف العقد الماضى، دون أن تتساقط عليهم ثمار هذا النمو الاقتصادى المرتفع الذى سجل نحو ٧ فى المائة، ودون أن يحصلوا على أى قدر من نتائج هذا النمو الاقتصادى، لا نقول نصيبهم العادل، ولذلك استمر عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر يتزايد حتى بلغ قبل عامين نحو ٢٨ فى المائة من عدد السكان، وترتفع هذه النسبة أكثر إلى قرابة النصف إذا أضفنا الذين يعيشون على هامش خط الفقر وينزل عدد منهم تحته بسبب الضغوط التضخمية، غير أن ما قاله الرئيس السيسى فى مؤتمره الصحفى مع الرئيس الفيتنامى وكرره مع رجال الأعمال الفيتناميين الذين اجتمع بهم فى هانوى يشير إلى أن العدالة الاجتماعية سوف تحتل مرتبة متقدمة فى أجندة الإدارة المصرية مستقبلاً، وخاصة فى الفترة الرئاسية الثانية للرئيس السيسى.

ولذلك سيكون مفيداً أن يهتم رجال الاقتصاد وخبراؤه بهذه القضية.. أى بكيفية تحقيق العدالة الاجتماعية فى مصر، فى ظل الاستفادة من التجربة الفيتنامية وأى تجارب أخرى.. فنحن لا نستنسخ تجارب الآخرين، ولكننا نمصرها حتى نستفيد منها.

ونحن بعد ٢٥ يناير ٢٠١١ افتقدنا العدالة الاجتماعية فى أمرين فقط.. الأول هو الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور، والأمر الثانى هو الضريبة التصاعدية، بينما تحقيق العدالة الاجتماعية، خاصة اقتصاديا يحتاج لحزمة أكبر من السياسات والقرارات والقوانين والإجراءات تتجاوز الحد الأدنى والأقصى للأجور، الذى جرى الالتفاف عليه عملياً من قبل فئات عديدة، والضريبة التصاعدية التى يرى بعض الخبراء الاقتصاديين أن تطبيقها يحتاج لوقت استقر فيه تدفق الاستثمارات الخاصة، سواء المحلية والأجنبية.. فنحن نحتاج لحظة شاملة وواسعة لتحقيق العدالة لمساندة ودعم الفقراء وتوفير الحماية للطبقة المتوسطة تشمل العديد من القرارات والإجراءات والبرامج والسياسات الاقتصادية، ومن بينها الإصلاح الضريبى، وليست الضريبة التصاعدية وحدها، ومن بينها أيضاً استمرار إصلاح منظومة الأجور فى المجتمع وليس الالتزام فقط بتطبيق الحد الأدنى والأقصى للأجور.

ويتصدر هذه القرارات والإجراءات والسياسات التوسع فى دعم الفقراء وإلغاء دعم الأغنياء.. وهذا يقتضى الاحتفاظ بالدعم العينى لرغيف العيش وسلع بطاقات التموين، خاصة أنها تمثل البند الأقل بين كل بنود الدعم فى الموازنة العامة، بل والتوسع فى هذا الدعم مستقبلاً فى ظل استمرار معدل التضخم المرتفع الذى يأكل نسبة ليست قليلة من الدخول الحقيقية لفئات اجتماعية واسعة.. مع الإصرار على توجيه دعم العيش للمستهلك مباشرة وليس لأصحاب المخابز أى التمسك بتحرير سعر الدقيق للمخابز التى تنتج الرغيف المدعوم وشراء الحكومة للعيش المدعم من هذه المخابز بالسعر الحر وبيعه بالسعر المدعم للمستهلكين.. كما يجب أيضاً الاحتفاظ بدعم النقل العام )أتوبيسات ومترو وقطارات(، مع التمهل حتى يحدث انخفاض حقيقى كبير ومؤثر فى معدل التضخم فى إلغاء دعم البنزين والسولار والمازوت والبوتاجاز، مع التوسع فى خطة تخصيص دعم نقدى للأسر الفقيرة، وربط صرف هذا الدعم باستمرار أبناء وبنات هذه الأسر فى التعليم محاكاة للتجارب الناجحة فى كل من البرازيل والأرجنتين.

وفى المقابل يجب استكمال إلغاء دعم الغاز للصناعات كثيفة الطاقة ثم إلغاء دعم الغاز لعدد آخر من الصناعات مختارة تدريجياً بعد الدراسة لتجنب أية آثار وتداعيات سلبية جانبية على المستهلكين، مع وضع ضوابط على الدعم الممنوح للصادرات التى يحصل عليها رجال الأعمال المصدرون، تضع فى اعتبارها العائد الحقيقى من هذا الدعم، أى حجم الزيادة الحقيقية فى الصادرات لمن يحصلون على هذا الدعم.

ويتعين أن تتضمن قرارات وإجراءات تحقيق العدالة الاجتماعية وضع خطة للنهوض بالقرى الفقيرة.. ونحن لن نبدأ من الصفر.. لدينا حصر جاهز بنحو ألف قرية تعد هى الأكثر فقراً فى مصر.. والنسبة الغالبة منها ٩٣.٤) فى المائة ( توجد بالترتيب حسب درجة الفقر فى محافظات أسيوط والمنيا وسوهاج وقنا.. وهنا لا يكفى الاعتماد على جهود بعض الجمعيات الأهلية، وحتى لو اعتمدنا على كل الجمعيات الأهلية لدينا، لا يكفى لإصلاح أحوال أهل هذه القرى الأشد فقراً.. إنما يتعين وضع خطة حكومية واضحة بمدى زمنى محدد ولها تمويل محدد لإنقاذ هذه القرى وانتشال أهلها مما يعانونه من فقر شديد، ويكون فيها دور للمجتمع المدنى وأيضا تظهر فيها المسئولية الاجتماعية لرجال الأعمال، وتتضمن توفير الخدمات الأساسية لهذه القرى (مياه شرب، وكهرباء، وطرق، ومدارس، ومستشفيات(.. ويمكن توجيه القسط الأكبر من أموال الصناديق الخاصة فى المحليات، خاصة المحافظات التابعة لها القرى لتمويل خطة النهوض بها.. وبذلك سيكون فى مقدورنا إصلاح أوضاع هذه القرى “الألف” فى نحو خمس سنوات.. أى بمعدل ٢٠٠ قرية سنوياً.

• كما يحتاج تحقيق العدالة الاجتماعية مواجهة اقتصادية لذلك الاحتكار الذى تعانى منه الأسواق بشدة فى البلاد، والذى يفرض أعباء على المستهلكين الذين يشترون السلع بأسعار مغالى فيها.. حيث بلغ متوسط هامش الربح فى بلادنا أكثر من ١٠٠ فى المائة من تكلفة إنتاج أو استيراد السلعة، بينما هذا الهامش لا يتجاوز ١٢-١٠فى المائة فى أعتى الدول الرأسمالية.. ولذلك نحن نحتاج إلى تفكيك الاحتكارات القائمة والتى تسيطر على السلع الأساسية وتحديداً الغذائية (قمح - لحوم - دواجن - أسماك - خضر - فاكهة - فول.. وغيرها)، لأن ذلك يتناقض مع مقتضيات العدالة الاجتماعية فهو يمنح فئات محدودة فرصة تكوين ثروات هائلة على حساب الطبقات العريضة فى البلاد.. وهنا نحن نحتاج قانوناً جديداً لمكافحة الاحتكار يعالج ثغرات وعيوب القانون الحالى لنحقق توزيع الدخل القومى بشكل عادل

• كذلك تحتاج العدالة الاجتماعية نظاماً عادلاً لتوزيع أراضى الدولة، فضلاً عن الجهد الذى يبذل الآن لاسترداد أراضى الدولة ممن استولوا عليها بغير حق.. الأمر يحتاج إلى وضع قواعد واضحة وشفافة لتوزيع أراضى الدولة، سواء للاستثمار أو الإسكان، تكون بديلاً للأهواء والمحسوبية التى سادت عملية تخصيص وتوزيع الأراضى من قبل.

• وأيضاً العدالة الاجتماعية فى مراجعة الأسلوب الذى تمت به الخصخصة وتجنبه.. فقد تمت عملية الخصخصة من قبل بلا شفافية، مثل عملية توزيع أراضى الدولة، وكان يتم تخصيص الشركات والأصول العامة بالأراضى المقامة عليها، مما أهدر على الدولة ثروات هائلة كان يمكن توجيهها لمن يستحقون المساندة الاجتماعية.

• كما تقتضى العدالة الاجتماعية مراجعة عملية منح التراخيص الحكومية .. فهذه العملية كانت دوما أداة لتراكم ثروات هائلة وضخمة فى أيدى عدد محدود، ابتداء من تراخيص الحديد والأسمنت فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى وانتهاء بتراخيص المحمول مع بداية القرن الجديد.. والعدالة الاجتماعية تقتضى وجود قواعد شفافة خاضعة للرقابة في منح الحكومة لمثل هذه التراخيص.

ومن العدالة الاجتماعية أيضاً مراجعة وضبط أنشطة الصناديق الخاصة.. فهذه الصناديق الخاصة كانت مصدرا لحصول عدد من المحظوظين على مكافأت سخية بخلاف ما يحصلون عليه من رواتب.. ولقد سبق لوزير المالية الأسبق د. يوسف بطرس غالى أن الزم هذه الصناديق بإيداع أموالها في حساب موحد بالبنك المركزي، ولكن لم تلتزم كل هذه الصناديق، كما أن ذلك لم يترجم إلى رقابة فعالة عليها.

* وفى ذات الوقت دعم وتفعيل جمعيات حماية المستهلك سيكون إحدى الأدوات والوسائل الاقتصادية لتحقيق العدالة الاجتماعية، لأن تفعيل حماية المستهلك يساهم فى تحقيق العدالة الاجتماعية.. فهو يصون حقوق المستهلكين الفقراء وأصحاب الدخول المحدودة.. ولذلك لابد من مراجعة القانون الذى ينظم نشاط وعمل سواء جمعيات حماية المستهلك أو الجهاز الخاص بذلك.. فيجب منح هذه الجمعيات وهذا الجهاز صلاحيات قانونية تحول حماية المستهلك إلى حقيقة واقعة.. فمن الظلم ترك المستهلك الفقير ومحدودى الدخل بلا حماية في مواجهة أسواق لاتسيطر عليها الاحتكارات فقط وإنما يسودها الغش أيضاً.. بل إن أبسط حقوق المستهلك المعمول بها في النظم الرأسمالية وهو إعادة السلعة المشتراة ليست متوفرة للمستهلك المصرى، ناهيك عن خدمات ما بعد البيع.

أما بالنسبة لإصلاح منظومة الأجور. فإننا بدأناها مؤخراً بقانون الخدمة المدنية.. غير أن هذا القانون لم يعالج كل الخلل الموجود فى هذه المنظومة نظرا لأنه لا ينطبق على كل العاملين فى الدولة، ونظراً لأن هناك استثناءات عديدة تتوالى بخصوص تطبيق الحد الأقصى للأجور فى قطاعات شتي وشركات وهيئات مختلفة، ونظراً لوجود كوادر خاصة في عدد من المصالح الحكومية، وهى تمنح موظفيها أجوراً عالية تفوق بكثير أجور ومرتبات الموظفين الذين لا يحظون بكادر خاص.. أما رواتب العاملين فى القطاع الخاص فليس صحيحا ما يشاع أنها كلها تفوق رواتب العاملين فى الهيئات الحكومية.. لذلك الأجور في القطاع الخاص تمثل نسبة أقل من نسبة الأجور في الحكومة، رغم أن مساهمة القطاع الخاص فى الناتج القومى أكبر من الحكومة.. بل إن هناك عاملين في القطاع الخاص لا يتقاضون رواتب ويكتفون بالحصول على البقشيش مثل العاملين فى محطات الوقود والكازينوهات والمقاهى الكبيرة.. لذلك يتعين إصلاح يشمل كل أوجه الخلل فى منظومة الأجور فى مصر لتصبح عادلة حتى نرفع الظلم عن عدد لا يستهان به من العاملين، إذا كنا نريد بالفعل تحفيز العاملين على العمل الجاد والفعال.

بقى أيضاً في إطار الإجراءات والسياسات الاقتصادية التى تستهدف تحقيق العدالة الاجتماعية إصلاح هيكلى للضرائب لا يقتصر فقط على الأخذ بالضريبة التصاعدية.. ويبدأ هذا الإصلاح بزيادة حد الإعفاء من ضريبة الدخل وينتهى بالوصول إلى تسويات عملية للمتأخرات الضريبية من خلال مصالحات تبرمها وزارة المالية مع الممولين الذين عليهم متأخرات ضريبية وتحديد فترة زمنية لاتزيد على العام لتحقيق هذه التسويات التى ستزيد بالقطع الحصيلة الضريبية مما يساعد في تخفيض عجز الموازنة وبالتالى يسهم فى خفض التضخم.. وما بين هذين الإجراءين، يجب أن يكون ثمة حرص على تفعيل قانون الضريبة العقارية باعتبارها الضريبة الأكثر عدلا، وتقليل الاعتماد على ضريبة الاستهلاك “القيمة المضافة”، مع بحث تنفيذ فرض ضرائب على المعاملات الرأسمالية في البورصة.

وهكذا.. الإجراءات عديدة وكثيرة اقتصاديا لتحقيق العدالة الاجتماعية ويتعين تنفيذها حزمة واحدة.

 

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة