الأحد 28 ابريل 2024

اللهجة الحسانية محصلة انصهار ثقافي ولغوي فريد

غلاف الكتاب

ثقافة16-5-2023 | 17:05

محمد الحمامصي

اللهجة الحسانية المتداولة في الصحراء الغربية وموريتانيا ومحيطهما المجاور، تمثل حالة لغوية فريدة، لجمعها بين خصائص مشتركة بين اللهجات العربية البدوية المشرقية واللهجات الأمازيغية المغاربية التي تشاطرها جزء معتبرا من قاموسها النشط، وعلى الرغم من تنوع وثراء اللهجة الحسانية، فضلا عن الخصوصية التي تمثلها كعامل تميز فريد للمجتمع الحساني، باعتبارها وعاء ناقلا لأفكاره وآرائه وتصوراته وخصوصياته الثقافية والاجتماعية، فإنها لم تحظ بما تستحقه من عناية أبنائه واهتمامهم من حيث الدراسة والتوثيق والتحليل والمقارنة كما هو الشأن مع لهجات ولغات أخرى، على الرغم من معرفة البعض منهم بخفايا وأسرار هذه اللهجة المتميزة شكلا ومضمونًا.

 

انطلاقا من هذه الرؤية جاء هذا الكتاب للباحث د.غالي الزبير "نظرات في اللهجة الحسانية" الصادر عن دار لارماتان ـ راصد، الذي يرى أن الحسانية رغم الوحدة والتماثل الذي يميزها على اتساع مجالها الجغرافي، إلا إنها قد تختلف اختلافا طفيفا في بعض مناطق انتشارها، وهذا أمر معروف في كل اللهجات لوجود عوامل تأثير متباينة عبر الامتداد الجغرافي ولاختلاف مكونات الجوار من منطقة إلى أخرى. ومع ذلك يمكننا بكثير من التأكيد القول أن الاختلاف في الحسانية لا يمس إلا مساحة صغيرة للغاية من الخريطة اللسانية لهذه اللهجة الغنية مما يجعلها مجرد استثناءات تؤكد القاعدة، ويتمثل في اختلاف لفظ الكلمة الواحدة أو في وجود مفردات في منطقة دون أخرى، فكلمة "أمشغب" قد تلفظ "أشغاب"، وكلمة "لحزام" قد تلفظ "محزم" وقد تلفظ "الزمت" بسكون الزاي مرة وبفتحها مرة أخرى، كما قد يلفظ البعض التاء طاء كما في قولهم "الطمر" في التمر و"الطراب" في التراب، أو الشين سينا كما في قولهم "السمس" في الشمس أو الثاء زايا كما في قولهم "لحريزة".. الخ. كما هو ملاحظ في بعض المناطق الموريتانية، ينضاف إلى ذلك خاصية الأخذ من اللغات الغربية واللهجات الأخرى المجاورة، مما يجعل الحسانيين في جنوب شرق موريتانيا يستعملون مفردات تختلف عن تلك التي يستخدمها الحسانيون في واد نون أو في تيندوف، ولهذا فإن الحسانية التي هي محور هذا الكتاب هي تلك المنطوقة في الصحراء الغربية بشكل خاص.

 

ويقدم الزبير في كتابه عرضا وجيزا لتطورات دراسات الحسانية وحالة هذه الدراسات وطبيعتها، ويبين الأهمية التي تمثلها الحسانية من خلال استعراض جوانب من تراثها اللغوي والأدبي والعلمي الغني، كما يعرض لجذور الحسانية، ويمثل لكل منها، ويقدم جانبا من الخصائص النحوية للصنهاجية المستعلمة في الحسانية، ويهتم بصورة كبيرة بالكلمة الحسانية وتحولاتها محاولا تصنيفها تسهيلا لدراستها، ويقدم بالشرح عينات متنوعة من كل صنف، ويولي عناية كبيرة بالتعابير والمفردات العربية التي حافظت عليها الحسانية وأهملت في العربية المستعملة، ويعني كذلك بالصيغ النحوية والتركيبية للحسانية وخصائصها الصوتية التي تميزها، مقترحا بعض الاصطلاحات في تسمية التحولات الفونيطيقية التي تميز الحسانية بعد عرض تلك التغيرات الصوتية التي تشترك فيها مع اللهجات العربية البدوية، فضلا عن التطرق إلى خصائص التعبير الحسانية ومميزاته، ولم تفته أهمية حفظ نصوص نادرة من التراث الحساني ينشر بعض منها للمرة الأولى وقد ضمنتها متن الكتاب سعيا منه للتعريف بها والمحافظة عليها.

 

 

يوضح الزبير أن اللهجة الحسانية هي اللهجة العربية المنطوقة في الصحراء الغربية في مفهومها الجغرافي والتاريخي الواسع حيث تنتشر فضلا عن "الساقية الحمراء ووادي الذهب" في موريتانيا وجنوب المغرب وجنوب غرب الجزائر وشمال مالي وبعض مناطق السنغال والنيجر. وتنسب "الحسانية" إلى قبائل بني حسان الذين مثلوا أكثر الهجرات العربية تأثيرا في المنطقة، واهبينها وجهها العربي الذي نعرفه اليوم والذين قدموا من شبه الجزيرة العربية مرورا بصعيد مصر مع حلفائهم من بني هلال وبني سليم ضمن التغريبة المشهورة في التراث العربي. وقد نتج عن امتزاج لغة العرب القادمين من الشرق مع لغة البربر من صنهاجة الملثمين، من جهة، والعناصر الإفريقية الزنجية التي تعيش في الصحراء أو على حوافها الجنوبية، من جهة أخرى، تكون لهجة جديدة هي اللهجة الحسانية التي تمثل محصلة عملية انصهار ثقافي ولغوي فريد، يحتوي على عناصر اصطلاحية وتركيبية وصوتية مستمدة من موروث كل تلك العناصر والمجموعات الإثنية، وهو ما جعلها لهجة فريدة، مختلفة عن محيطها اللساني المعروف في بلدان المغرب العربي وإن اشتركت معه في جملة من الخصائص، فهي أكثر قربا من اللهجات البدوية العربية المتداولة في المشرق العربي، وإن تميزت عنها هي الأخرى، بموروثها الصنهاجي والإفريقي.

 

ويرى أنه على الرغم من تعدد أصول اللهجة الحسانية فإنها قد اندمجت وتماهت في لهجة واحدة مشتركة، حتى ليصعب في أحيان كثيرة تتبع جذور المفردات حسب أصولها، فاستعملت كل مجموعة بشرية مفردات المجموعات الأخرى باعتبارها تراثا لغويا مشتركا دون تمييز ودون الإحساس بغرابة أو وحشة في اللفظ أو غموض في المعنى، ضمن عملية تحول لغوي فريد نتج عنه تلك اللهجة المميزة بتعابيرها اللغوية الغنية وصيغها التركيبية والنحوية الدقيقة وشمولها اللامحدود لجميع مناحي التعبير اليومي عن حياة حامليها واهتماماتهم الملموسة أو المتخلية، المادية والروحية. كما حافظت الحسانية على العديد من الصور والتعابير العربية الفصيحة التي زالت أو تكاد من اللغة العربية المعاصرة، وهي بذلك تمثل إضافة قيمة للتراث العربي لكونها خزانا ثريا للكلمات والصيغ والتعابير العربية الفصيحة التي يتهددها النسيان والتي أغفلت أمهات الكتب والمعاجم العربية الإشارة إلى البعض منها.

 

ويؤكد الزبير أن اللهجة الحسانية شكلت حافظة لتراث شفهي غني بتعدد مناحيه وصيغه وصوره اللفظية والتصويرية للتعبير عن الرؤى والأخيلة والمشاهدات والعواطف والأحاسيس وتفاعل الإنسان معها وانفعاله بها مهما دقت معانيها وتنوعت مواضيعها. واللهجة الحسانية مثلت ولازالت صورة راقية من عناصر تميز المجتمع الحساني وتفرده باعتبارها مرآة عاكسة لتطوره التاريخي الممتد عبر عشرات القرون، كما تمثل عنصر وحدة وتقارب بين المكونات البشرية التي تنتمي لهذا المجتمع الممتد على مسافات زمانية ومكانية متباعدة، فالروائع الحسانية التي قيلت قبل قرون لازالت محل إعجاب واستمتاع متذوقيها مهما بعد زمن قائليها وتنوعت مواطنهم، والمتذوق الحساني يفخر ويفاخر بروائع محمد ولد الگصري، وسدوم ولد أنجرتو، وأمحمد ولد أحمد يورة، وولد رازگـة، وعمار ولد أمريزيگـ ، والكفية ولد بوسيف، والشيخ محمد المامي، وإبراهيم ولد إبراهيم، وأوالد هدار، وولد أمبالة وغيرهم، كما أن المقطع الرائع المعبر يقال في تيرس أو واد نون أو في الحوض أو في تـگـانت وما أن تحمله الركبان حتى يصبح تراثا مشتركا يعتز به أهل أروان وتيندوف وأدرار وزمور والرقيبة وإينشيري وغيرها.

 

ويقول أن اللهجة الحسانية تتميز بغناها المثير بالأنماط التعبيرية الشفاهية المتنوعة، ففي مجتمع الصحراء الذي تقل فيه الكتابة ووسائلها تصبح التعابير الشفهية هي وسيلة التواصل الناقلة للتجارب والحافظة للذاكرة الجمعية التي تترسخ وتتجذر وتتزود من خلال جلسات السمر التي تميز ليل الصحراء الطويل، حيث لا وسائل ترفيه ولا وسائط تواصل عدا الصور اللغوية المعبرة عما يجول في ثنايا الذاكرة الشعبية التي حافظت طويلا على التراث الحساني الغني بأنماطه التعبيرية التي شملت معظم الصور الثقافية الشفاهية المعروفة. وتضم اللهجة الحسانية تراثا شعريًا غنيًا، مضبوطا ببحوره وتفعيلاته ومقاماته المتنوعة، شمل جميع مناحي التعبير الممكنة، والأغراض المختلفة من غزل وفخر ومدح وهجاء ونقائض وإخوانيات وغيرها، ضمن قواعد وصيغ وزنية دقيقة التفعيلات، واضحة التقطيع، صارمة القواعد، وإن بدت سهلة ممتنعة، يبدع فيها الأمي والمتعلم والصغير والكبير والبدوي والمدني بلا تمايز، اللهم إلا امتلاك الذائقة الشعرية والقدرة على إمتاع المستمع والإضافة إلى المشهد الشعري الحساني المترع بكل صور النظم المتنوع معنى ومبنى، بين الجزل والظرف والجد والهزل والتعقيد والبساطة.

 

ويلفت إلى أن هناك ملاحظة لابد أن يقف عليها من يطالع الشعر الحساني وهي تميزه عموما بطابع الحياء، وخلوه أو يكاد من شعر المجون، وندرة شعر المدح أو التكسب كما شاع فيه شعر الاستسقاء لتعدد مواسم الجفاف والمحل ويعتبر العلامة الشيخ محمد المامي رائد هذا الفن بلا منازع. ومن الطريف أن الحسانيين لم يكتفوا بروايتهم للشعر على ألسنة البشر، بل هناك مقطوعات شعرية رائعة وردت ـ حسب زعمهم - على ألسنة الجان، تظهر مستوى رفيعا من الأدب وقدرة كبيرة على إجادة السبك وابتكار المعاني والتمكن من الحسانية ووسائطها التعبيرية المختلفة.

 

ويضيف الزبير أن اللهجة الحسانية تضم تراثًا قصصيًا يشمل مختلف مناحي الحياة، وتخدم كل مجموعة قصصية أهدافا تربوية أو دينية أو أخلاقية محددة، وترد القصة لتعزيز وترسيخ هذه الأهداف من خلال تعزيز السلوكات المطلوبة ونبذ واستهجان السلوكات المرفوضة، وعادة ما تأتي القصة تعقيبا على سلوك أو تعميقا لفكرة سبق طرحها أو يمهد لإيصالها فتكون القصة بمقصدها ومضمونها جزء من وسائل التنشئة، خاصة عند مقارنة سلوك الطفل أو المراهق بسلوك مماثل أو مناقض لسلوك شخصيات القصة التي تصبح جزء من التراث العائلي يستعان بها عند تماهي السلوك الواقعي مع الأحداث القصصية. كما تضم اللهجة الحسانية كما كبير من الأمثال والحكم التي تتميز بارتباطها بالإنسان والأرض ونستطيع أن نتلمس أنماط العيش والرؤى من خلال انعكاس البيئة الثقافية والاجتماعية والطبيعية في ثنايا الحكم والأمثال الحسانية المعبرة عن خلاصات واستنتاجات تجارب الأجيال السالفة، وهي الخلاصات التي لازالت قادرة على صياغة أنماط تفكيرية وسلوكية تتعزز من خلال تمثل تلك الحكم والأمثال في حياة المجتمع الحساني.

 

ويرى أن الأحاجي والألغاز تحظى بحيز معتبر من الذاكرة الحسانية ومن الحضور الدائم في مجالس السمر وليالي السهر، حيث تشكل مجالا للتباري في سرعة البديهة والقدرة على استعمال الحدس واستثارة المخيلة وقوة الذاكرة وحس الفكاهة معا، فكانت هذه الأحاجي والألغاز ملح المجالس ومتعة المسامرات واختبار الذكاء ومعيار النباهة التي هي كلها من خصائص المجتمع البدوي ومن قيمه التي تحظى بالتثمين والتقدير خاصة في ظل الثراء والتنوع الذي تتصف به اللهجة الحسانية ويتميز به الأدب الشعبي المنقول عبرها.

Dr.Randa
Dr.Radwa