الخميس 16 مايو 2024

ساعات في ساحة الانتظار

مقالات1-6-2023 | 13:05

أطل بوجهه السقيم على من حيث لا أحتسب، جاء ليذكرني بحقيقة الحياة الغائبة عني، تركني أواجه إعصاره وأدور معه فإذا ما توقف قليلًا وجدت نفسي قد استعادت بعضًا من هدوئها وراحت تدقق في معالم الصورة الحقيقية للحياة كما هى بلا رتوش، نعم إنه المرض الذي أصابني فجأة فألقى بي على فراشه عنوة ربما رغبة منه في كبح جماحي الدائم في رحلة تحقيق أحلامي التي ملأت فضائي الرحب وحالت بيني وبينها ظروف الحياة، كادت روحي أن تصعد لبارئها في لحظة دون تنبيه أو سابق إنذار. 

لقد أصدر أوامره الصارمة بالتوقف الآن ودون جدال فالقلب الذي اعتاد التحدي وصاحب العناد كاد أن يتوقف منذ ساعات بعد استعادة حربه وصراعه الدائم من أجل الحياة، ما كان لي هاهنا اختيار فقد انحنيت طاعة لأمره واسترحت استراحة جبرية دونما مراجعة له، وكيف للمضطر أن يختار!.

المرض لا يمزح ولا يجعل مواقفنا تثبت على حال الألم والضعف يوقظان بداخلنا أعلى معدلات النضج لنرتفع معها فنبلغ ذروتها في الحال، نسكن قمتها في لحظات ما قبل الانهيار، ثم يعقب ذلك الكثير من نوبات الندم كأنها موجات بحر تتلاحق مدوية دون توقف أو انحسار ، الندم على كل لحظة ألم عشناها فأفنينا أنفسنا فيها طواعية حتى تملكنا الشعور بالذنب ليسقط علينا بثقله دون منحنا أية فرص للدفاع أو التبرير أو حتى فرصة لتقديم الاعتذار . 

أرى الحياة الآن كفقاعة هواء ضخمة أراها بحجم الكون ، فارغة تافهة ساكنة فلم تعد بعد اليوم تسير بقوة الإعصار أراها هزيلة ضعيفة عدم من عدم فهذا واقعها المختبيء من خلف الستار ، نضج العقل الآن واستوعب تفاصيل تلك الصورة الباهتة التي لا تضج بالحياة ، جمع وحداتها الدقيقة ليكمل رسالته فإذا بها لا تستحق كل هذا العناء .

يستسلم الجسد المنهك للراحة بعد أن شعر بقرب  مغادرة المكان ويظن أنها القاضية ولكنه يعود بأمر ربه من جديد ليكمل المشوار ولكن عودته لم تعد كما كانت بعد أن تلقى محاضرات تهذيب من مرضه وتحذيرات بصفعات إفاقة إن لم يمتثل لأوامره فيعود ليحتضن الوهم من جديد، المرض لا يدلل أحدًا إنه الصدق وسط كل ضجيج الكذب والفوضى التي أحاطت بنا، فانتبهوا واحذروا الطوفان.  

المرض يجيد توصيل الرسالة بأكملها، يتقن وصفها وصفًا دقيقًا ليترك على إثرها علامات وإشارات تبقى مع صاحبه لتنذره بين الحين والآخر من محاولة الاقتراب نحو منطقة التكرار، إنه يمتلك كل الحجج والبراهين التي لا يملك من يستمع إليها إلا الامتثال لها أو تحويلها إلى ساحة من نقاش وحوار. 

القلب المجهد قرر ألا يكررها واستسلم، العقل الناضج أدرك أسرارها وحقيقتها فنفذ وتعلم، تعبت أنفسنا من اتباع أوامرنا وأهوائنا فتمردت علينا، عانت كثيرًا حين اطلقنا للحرية جناحان لا يكفان عن التحليق في الأعلى وتعذبت أكثر حين نسينا أو تناسينا أن الحياة ليست إلا مقعدًا متواضعًا في ركن إحدى ساحات الانتظار.