بقلم : د.عمرو دوارة
تنطلق اليوم فعاليات الدورة الرابعة والعشرين لمهرجان "القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي"، والذي يتضمن تقديم سبعة عروض مصرية وسبعة عروض عربية وثلاثة عشر عرضا أجنبيا، وذلك بخلاف التكريمات لبعض كبار المسرحيين وتنظيم بعض الفعاليات الثقافية. وتتضمن قائمة العروض المصرية المشاركة العروض التالية: شامان إخراج سعيد سليمان، السفير إخراج أحمد السلاموني، ونساء بلا غد إخراج نور غانم، يوم أن قتلوا الغناء إخراج تامر كرم، الجسر إخراج وليد طلعت، قواعد العشق الأربعون إخراج محمد فؤاد، التجربة إخراج أحمد عزت.
- يكرم المهرجان هذه الدورة خمسة من المسرحيين الذين أضافوا كثيرا للمسرح من خلال إبداعاتهم المسرحية، وبالتالي فقد ساهموا في إثراء الحركة المسرحية على مدار عدة سنوات، والمكرمون هم الأساتذة: الكاتب المسرحي الراحل محفوظ عبد الرحمن، الذي أثرى جميع القنوات الفنية بإبداعاته واستطاع أن يجمع بجدارة بين كل من الفلسفة والإبداع، الناقد المسرحي المغربى الدكتور حسن المنيعي، الذي أثرى المكتبة العربية بالعديد من كتاباته في المسرح والنقد الأدبي بالإضافة لإسهاماته المهمة في مجال الترجمة، أستاذ المسرح والأدب المقارن مارفن كارلسون: أستاذ دراسات الشرق الأوسط بجامعة نيويورك، وأحد أبرز أستاذة المسرح الذين استطاعوا بأفكارهم المتطورة الإضافة لفن المسرح، المخرج الصيني الشهير مينج جين خوي: الذي يعمل فى الوقت الحالي المدير الفني لمهرجان العامش بكين ومسرح خلية النحل، أستاذة الدراسات المسرحية بجامعة برلين الحرة إريكا فيشر رئيسة مركز البحوث التعاونية التابعة للجمعية الألمانية للمسرح (خلال الفترة 1991 : 1996 والفيدرالية الدولية للبحث المسرحي.
وللأسف تستمر الإشكاليات التي أثيرت العام الماضي تبحث عن إجابات، وخاصة السؤال الذي يطرح نفسه في البداية وهو: لماذا لا يعود "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي" إلى سنوات ازدهاره وتألقه ؟!، وما فائدة الحرص على إضافة صفة "المعاصر" للعنوان !! وكل عرض مسرحي جديد هو بلا شك معاصر، ولماذا تقلصت أعداد الفرق، ويكفي المقارنة مع الدورة الثانية والعشرين لنؤكد هذه الحقيقية وهي عدد الفرق المصرية التي شاركت عام 2010 كان عددها ثلاثة وعشرين، والفرق العربية إحدي وعشرين، والفرق الأجنبية اثنتين وأربعين فرقة !!
وللأسف تستمر هذه الدورة أيضا تكبدنا كمسرحيين أكبر خسارة بإلغاء أهم وأسمى وأعظم مكاسب دورات "المهرجان التجريبي" خلال الدورات السابقة (من الدورة الثانية وحتى الدورة الثانية والعشرين) وهي مجموعة الإصدارات المسرحية الحديثة التي كان المهرجان يصدرها سنويا، حيث دأبت إدارة المهرجان على إصدار عشرين كتابا مترجما - في المتوسط - تتناول مختلف الفنون المسرحية، أو تتضمن بعض النصوص المسرحية الحديثة التي تمثل مختلف الثقافات، ولكن مع عودة دورات المهرجان العام الماضي تم إلغاء هذه الإصدارات!
عاشقة المسرح
"بثينة" عاشقة المسرح الريفية البسيطة والبائعة المتجولة والتي رحلت عن عالمنا خلال الأيام الأخيرة هي نموذج حقيقي لهاوية المسرح بصدق، مثلها مثل كثير من البسطاء بالقرى والنجوع الذين جذبتهم أضواء الفن حينما كانت القوافل الثقافية تقوم بدورها المنوط بها بالتجوال بجميع الأقاليم والقرى لنشر الوعي والارتقاء بالمستوى الفكري لدى جماهير البسطاء من خلال تقديم بعض أشكال القوى الناعمة من أفلام ومسرحيات وعروض ورقصات شعبية.
انجذبت "بثينة" (أو "أم عادل" كما كانت تحب أن تنادى) كغيرها لأضواء المسرح، ولكنها لم تكتف بالإعجاب والعشق بل قررت المغامرة باقتحام هذا العالم الساحر للمسرح والمشاركة فيه، فمارست التمثيل كهاوية من خلال فرق "الثقافة الجماهيرية" التي كانت تفتح أبوابها للجميع، وكان عليها وبشكل متواز العمل في عدة مهن حرة لتستطيع مواجهة أعباء الحياة بمفردها مع ابنها (أحد أصحاب الحالات الخاصة)، فعملت كبائعة للجبن وكهربائية للسيارات وخياطة. وعندما جاءت موجة الانفتاح في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي وألقت بظلالها على الأنشطة الجادة، وتقلصت فرص الانتاج لصالح انتاج العروض السياحية بالعاصمة وبعض المصايف فقط، وتحولت "الثقافة الجماهيرية" إلى "الهيئة العامة لقصور الثقافة" لم تستسلم "بثينة" كغيرها، بل وبصورة تلقائية عفوية قامت بتأسيس فرقتها المسرحية الخاصة، لم تحتاج إلى مقر أو إلى إجراءات رسمية للإشهار فهي لا تهدف للربح، ودار العرض أو المسرح متوفر لديها وهو صالة البيت الريفي البسيط الذي تسكنه بحارة "درب الكاشف" بمدينة الفيوم، كما لا تحتاج إلى مصاريف وميزانيات للإنتاج فالديكورات بسيطة جدا وتعتمد على توظيف بعض الخامات الطبيعية كزعف النخل والجريد والبوص وبعض القطع الفخارية وغيرها من المفردات الشعبية، وجميع أفراد أسرتها هم فرقتها، وأدوار البطولة وطبقا لاختياراتها الذكية معقودة لها دائما ولابنها عادل وزوجته شادية وبعض الشباب من هواة المسرح، وعلى جهاز الكاسيت القديم يتم إذاعة بعض مقطوعات الموسيقى أو الأغاني الشعبية بالإضافة إلى مشاركة الجميع بالعزف على الدفوف، كما يتم الاستعانة أحيانا بأحد العازفين على الناي إذا استلزم الأمر. ويبقى الجمهور الضلع الثالث والمهم لاستكمال الظاهرة المسرحية ويتكون من مجموعة الجيران وأهالي المنطقة وبعض الباعة الجائلين والفلاحين بعد عودتهم من الحقول، ووسيلة الإعلان عن مواعيد العرض ومواعيده تبدأ بتعليقها ورقة كبيرة (أفيش) بأسماء الممثلين وأدوارهم على باب دارها، ثم يتكفل بها بعد ذلك مجانا مجموعة من الأطفال وبعض شباب المنطقة نظير بعض أطباق الحلوى التي تعدها لهم "بثينة".
كان لي شرف معرفتها منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي حينما كنت أقوم بجولات بجميع الأقاليم ومن بينها محافظة "الفيوم" لتأسيس "الجمعية المصرية لهواة المسرح"، وأعتز جدا بسرعة استجابتها حيث أصبحت هي وجميع أعضاء فرقتها من الأعضاء المؤسسين بالجمعية، وبالتالي فقد أتيحت لها الفرصة للمشاركة بعروضها في أكثر من مهرجان وخاصة مهرجانات "الفصل الواحد" التي نظمتها الجمعية في العقد الأخير من القرن الماضي. وبعد ذلك كان لي شرف متابعة عروضها من خلال مشاركتي بعضوية لجان "المشاهدة" أو "التحكيم" بالمهرجانات السنوية التي تقوم بتنظيمها إدارة "الجمعيات الثقافية"، ومازالت الذاكرة تحتفظ بكثير من الذكريات لرفقة الزملاء الأعزاء: عبد الرازق حسين وأحمد عبد الرازق أبو العلا ومؤمن خليفة والراحل الغالي مختار العزبي أثناء مشاركاتنا بعضوية لجنة مشاهدة واختيار العروض (وبمصاحبة أحد مسئولي الإدارة العامة للجمعيات الثقافية: عبد الهادي السعيد، سعاد عبد العزيز، ممدوح أبو يوسف)، وكالعادة كان كل عضو ينضم حديثا للجنة يرفض في البداية الانتقال إلى بيتها لمشاهدة البروفة النهائية، ولكن مع محاولات اقناعه ومعرفته بحرصها على تقديم العرض أيضا بمنزلها ورفضها لتقديمه بمسرح قصر الثقافة يوافق على مضض، ولكن سرعان ما يتفق معنا في التقييم على ضرورة مشاركته بالمهرجان، وذلك نظرا لتميزه بتلك التلقائية المحببة والطبيعية الصادقة، وبالتالي يوافقنا الرأي على الفور في السنوات التالية على مشاهدة عروضها بمنزلها، ومشاركتنا أيضا في قراءة بعض آيات من القرآن الكريم والشهادتين ونحن نصعد السلم الضيق - الذي ليس له سور - في هذا البيت الريفي الذي يتكون من طابق واحد ويشعرك بأنه آيل للسقوط!!
قد يندهش البعض من مستوى ثقافة "بثينة" برغم تلقائيتها وبساطتها وعدم حصولها على أي شهادات، خاصة حينما يعلمون أنها تعلمت القراءة والكتابة بالجهود الذاتية بفصول محو الأمية، ولكن من يقترب منها يعلم أنها قد استفادت كثيرا من مشاركتها ببعض عروض الفرق المسرحية بالثقافة المسرحية، وأيضا من رعاية الفنان الأكاديمي يسري ناصر (خريج قسم التمثيل والإخراج بالمعهد العالي للفنون المسرحية عام 1964) الذي شغل منصب مدير مديرية الثقافة بالفيوم لسنوات طويلة، والذي حرص على تشجيعها والاختفاء وراء الكواليس بالرغم من متابعته لعدد كبير من عروضها وأيضا توجيهها لكيفية اختيار النصوص المناسبة، ومساهمته بإعداد بعض النصوص العالمية التي تتناسب معها ومع طبيعة فرقتها بشكل مبسط جدا ومن بينها بعض مؤلفات الكاتب الأسباني العالمي جارثيا لوركا.
جدير بالذكر أن الفنانة عاشقة المسرح بثينة قد استفادت كثيرا أيضا من الفنانة القديرة فاطمة رشدي في سنوات عمرها الأخيرة، والتي كانت تقوم أحيانا عند زيارتها للفيوم بقضاء عدة أيام للاستجمام بمنزل بثينة، فتروي لها كثيراً من الذكريات وتكشف لها بعض خلاصة تجاربها المسرحية. رحم الله كل منهما وغفر لهما جزاء ما أخلصتا في عملهما بكل الصدق والتفاني.