في منطقة يخالط التاريخ أنفاسك فيها، ويطلُّ عليك أينما يممت وجهك وحيثما ألقيت بصرك، يقف جامع المحمودية منفردًا وحيدًا، يبدو على البعد بمئذنته الأنيقة الرشيقة كأنه معلق على ربوة، يصله الداخل عن طريق الصعود على درج، ورغم صغر حجمه مقارنة بما يجاوره من مساجد، فإنه يشكِّل مع ما حوله من مساجد متحفًا مفتوحًا لجواهر العمارة الإسلامية وخاصة المساجد الممثلة لفترات تاريخية مختلفة، فعلى بعد أمتر منه يرتفعا هرما العمارة الإسلامية جامع السلطان حسن وجامع الرفاعي، وبالقرب منه يطل مشرقًا جامع قاني باي الرماح، ويرنو أنيقًا جامع جوهراللالا، بينما تطل عليهم من علٍ قلعة صلاح الدين الشاهقة وجامع محمد علي ذي المآذن المدببة السامقة.
يقع المسجد شرق مسجد السلطان حسن ومسجد الرفاعي، وبالتحديد أمام "باب العزب"، الذي شهد مذبحة القلعة الشهيرة فى بداية عهد محمد على باشا والتي أنهت تاريخًا عريقًا للماليك في مصر والشرق، ويشرف على حديقة الرملية، التي يسميها البعض باسم المحمودية أيضًا.
وسُمِّي الجامع، ومن ثم الحديقة التي تجاوره بالمحمودية نسبةً إلى اسم منشئ الجامع وهو محمود باشا؛ والي مصر، في عصر السلطان سليمان القانوني، والذي لم يٌعمَّر طويلاً في ولاية مصر، ولم يهنأ بها، فلم تدم ولايته أكثر من عام كانت خلال الفترة من 1566-1567م، فقد مات مقتولًا على أرضها.
تقول الروايات: إنه قدم إلي القاهرة واليًا علي مصر في أوائل شهر شوال عام 973هـ الموافق شهر أبريل عام 1566م، وعند وصوله إلى مصر خرج وجهاؤها لاستقباله يحملون الهدايا الثمينة، كطقس من طقوس تقديم فروض الولاء والطاعة التي شاعت وتشيع في كل زمان ومع كل حاكم جديد، إلَّا إنه كان ظالما جائرًا جشعًا، لم تكفه الهدايا فقد صادر كثيرًا من أموال الناس، وكان ممن ظلمهم حاكم الصعيد الأمير محمد بن عمر، ولم تشفع له الهدايا الثمينة التى قدّمها إليه، والتحف وتحفا والأموال الطائلة التي قدرت بخمسين ألف دينار قام باستلامها منه، فقد غدر به وقتله واستولى على ثروته؛ مما أثار سخط وغضب عامة الشعب تجاهه وتمنوا الخلاص منه. لم يتأخر الخلاص من محمود باشا طويلًا، ففي شهر جمادى الأولى عام 975 هـ الموافق لشهر نوفمبر عام 1567م، وأثناء خروجه من مقر الحكم بالقلعة في موكبه الضخم، وعند مروره ببركة الناصرية، أطلق عليه شخصٌ مجهول عيارًا ناريًا أصابه إصابة قاتلة لم يُجدِ معها العلاج، وتوفي ودُفن بمسجده وكان قد أتم بناء مسجده في أوائل عام 975 هـ الموافق منتصف عام 1567م، "من فيض ماله المبرور" كما تنص الكتابة إلى تزين سقف المسجد، وكان ذلك في عصر السلطان سليمان القانوني بن السلطان سليم الأول، وقد ألحق به قبة ضريحية وسبيل لسُقيا الماء. وأُشتهر محمود باشا بعد ذلك باسم "المقتول"، وكان يُطلق علي المسجد نفسه أحيانًا نفس اسم "مسجد المقتول".
ويبدو أنه كان من الشائع في ذلك الزمان أن يفعل الحاكم ما يشاء ثم يبني مسجدًا أو جامعًا لله وبهذا ينل به مغفرة الله وغفرانه على كل ما فعل، وكأنه نوع آخر من صكوك الغفران ولكن بصبغة شرقية!.
الجامع مربع الشكل يبلغ طول ضلعه ما يقرب من 20 مترًا، تتوسطه أربعة أعمدة ضخمة من الجرانيت ترتكز عليها أربعة عقود تحمل سقف الجزء الأوسط (المنور) من المسجد المرتفع عن باقى سقفه.
وجميع أسقف المسجد من الخشب المنقوش بزخارف جميلة ملونة ومذهبة، ويحيط بها شريط كتابي كتب عليه بخط جميل ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون. قال صلى الله عليه وسلم من بنى مسجدًا بنى الله له بيتا في الجنة أوسع منه، وأمر بإنشاء هذا المسجد المعمور من فيض ماله المبرور المقام العالي واسطة عقد اللآلئ أمير الأمراء الكرام كبير الكبراء الفخام فكان ابتداؤه وتاريخه بحكم منشئه الأول المبدئ 975هـ وانتهاؤه بمعاونة ... له من الرتب على أنه ليضيء برًا للرضا للقوة. والإكرام المختص... حضرة الأمير الباشا محمود راجيًا من كرم الله القبول والرضا من فضله العفو مرتضى تقبل الله".
والمرء ليتوقف أما العبارات "من فيض ماله المبرور" و"المقام العالي واسطة عقد اللآلئ أمير الأمراء الكرام كبير الكبراء الفخام" و"حضرة الأمير الباشا محمود راجيًا من كرم الله القبول والرضا من فضله العفو مرتضى تقبل الله" ليتأملها ويتعجب ولا يملك إلا أن يتعجب.
أما مئذنة المسجد فهي أسطوانية تزينها خطوط رأسية بارزة، ولها دورة واحدة مكونة من مقرنصات وتغطيها مسلة مخروطية على نمط مآذن الطراز العثماني، تقوم على قاعدة أسطوانية مثلها تقع بالناصية الشرقية الجنوبية للمسجد.
وللجامع مدخلان متقابلان أحدهما في منتصف الوجهة الشمالية، والثاني في منتصف الوجهة الجنوبية، ويتم الوصول إلى كل منهما ببضع درجات، وهو خال من جهاته الأربع وفتح بوجهاته صفّان من الشبابيك الجصية المعشقة بالزجاج الملون تعلوها مقرنصات وتتوجها شرفات مورقة.
وفي منتصف ساحة المسجد طرقة أرضيتها منخفضة قليلًا عن أرضية المسجد وتصل بين الباب الجنوبي والباب الشمالي فانقسم المسجد بذلك إلى إيوانين يتوسط الجدار الشرقي محراب من الحجر خالٍ من الزخارف يجاوره منبر من الخشب بحشوات مجمعة وإلى يساره باب يؤدى إلى مربع صغير بارز عن سمت جدار المحراب تغطيه قبة مرتفعة.
وتعرض المسجد للإهمال مع مرور الزمن، وقد أدركت لجنة حفظ الآثار العربية المسجد منذ سنة 1885م وبدأت في أعمال الإصلاح والترميم منذ 1904م حتى أقيمت به شعائر الصلاة سنة 1906. وعندما فحصت اللجنة المسجد سنة 1885م لم تجد فيه شيئا من الأبواب والشبابيك والأرضيات، كما اندثر السبيل الملحق بالمسجد والكائن بالجهة الجنوبية الغربية، ولم يتبق منه سوى جزء من السقف وجدران الصهريج. وبدأت اللجنة في ترميم المسجد وإصلاحه منذ عام 1904م، فقامت بتدعيم مباني المسجد، وأعادت بناء السلم المؤدى إلى المدخل، وقامت بتركيب أبواب جديدة وعمل شبابيك جصية، وترميم الزخارف والنقوش، حتى أقيمت به شعائر الصلاة مرة أخرى عام 1906م.
وكانت آخر عمليات الترميم التي مرَّ بها المسجد في عام 1940م، حين أمر الملك فاروق بتقوية عقوده وإصلاح سقفه.
وفي الثمانينات من القرن الماضي قامت هيئة الآثار المصرية بعمل مشروع ترميم معماري متكامل إلا أنه أُغلق من فتره لوجود تداعيات إنشائية.
واعتبارًا من 1904م تولت اللجنة تدعيم مباني المسجد وأعادت بناء السلم المؤدى إلى المدخل وقامت بتركيب أبواب جديدة وعمل شبابيك جصية وترميم الزخارف.
يخضع المسجد حاليًا لعملية ترميم كبيرة ضمن مشروع إحياء القاهرة التاريخية، الذي يعد أحد المشروعات القومية، الجاري تنفيذها، بهدف إعادة القاهرة لسابق عهدها كمدينة تاريخية أثرية، واستعادة دورها الحيوي في التعبير عن الطابعين المعماري والعمراني لها. كما يشمل مخطط مشروع تطوير القاهرة التاريخية حديقة (الرملية – المحمودية)، الواقعة أمام المسجد. وتشمل إجراءات ترميمه تطوير واجهته، مع ترميم أجزائه الداخلية وتجديدها، وطلائه، مع الحفاظ على التصميم الأصلي للمسجد.