السبت 11 مايو 2024

كيف تريد وطنك أن يكون!


علاء الدين حمدى شوالى

مقالات10-7-2023 | 11:47

علاء الدين حمدى شوالى
  • نجاح الحوار يتوقف على فهم القوى المدنية للهدف منه، واستجابتها لمضمون الدعوة إليه، وانتهاز فرصتها الذهبية لتبادر بتهيئة المناخ وشحن المواطن وإغرائه على التفاعل والمشاركة بالرأى
  • الجمهورية الجديدة ثورة ترسم الإطار السياسى الأمثل لإدارة البلاد بعقد اجتماعى جديد يقوم على الثقة المتبادلة والمصداقية والتوافق الوطنى والتعاون الجمعى
  • العقد الاجتماعى المأمول ينتج عن إرادة سياسية قوية، وحوار وطنى واسع النطاق يضمن المشاركة الفاعلة لجميع أطياف المجتمع، يؤكد على مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية

 

 فى ديسمبر 2021 مع إعلان حلم "الجمهورية الجديدة"، وقبل إطلاق السيد الرئيس دعوته للحوار الوطنى فى مايو 2022، كتبت: (أن "الجمهورية الجديدة" يجب أن يسبقها حوار وطنى يصيغ عقداً اجتماعياً عصرياً جديداً يدعم الاستقرار السياسى والاجتماعى للبلاد، فيُعزِّز الشرعية السياسية للسلطة بشرعية اجتماعية يمنحها المفهوم الفلسفى لمبدأ "رضا المحكوم بقرارات الحاكم"، يشارك الشعب فى صياغته كطرف أصيل لأول مرة فى تاريخه، فيصبح شريكاً فاعلاً مسئولاً عن القرار السياسى الذى يشكل مستقبل الوطن ويصنع استراتيجياته، تأتى بنوده من محصلة تفاهمات وأفكار تتفق على قواعد الحكم وعلى النظام المجتمعى، وتضع معايير صناعة دستور جديد يحمل سمات العقد، وليس فقط صفات التوافق النخبوى على نصوص ذلك الدستور).

 

ـثم مع إطلاق السيد الرئيس مبادرته المشكورة للحوار الوطنى، هدانى منطقى إلى أنها دعوة جادة لصياغة ذلك العقد الاجتماعى المأمول الذى يتلافى أخطاء الماضى بصفحة جديدة تدعم جوهر فكرة "الجمهورية الجديدة".

وتماديت فى منطقى فرأيت أن نجاح الحوار سيتوقف على فهم القوى المدنية للهدف منه، واستجابتها لمضمون الدعوة، وانتهاز فرصتها الذهبية لتبادر بتهيئة المناخ وشحن المواطن وإغرائه على التفاعل والمشاركة بالرأى.

كذلك توقعت أن تبدأ الأحزاب فى تفعيل وظائفها المتعارف عليها فى علوم السياسة بعد طول كمون، فتقدم قادة الرأى فيها إلى صدارة المشهد الوطنى -بعيداً عن مجاملات اختيار بعض ممثليها فى جلسات الحوارـ فتتسع دوائر المناقشة المجتمعية لتُبلوِّر محصلة جيدة من نتاج التفاعل الجماهيرى، تضع الأساس لبنيان الجمهورية الجديدة وكيف نريد لها أن تكون، فتؤتى مبادرة السيد الرئيس ثمارها المرجوة.

 

فالجمهورية الجديدة هى الثورة بمعناها اللغوى في قلب الأوضاع، لكن بإيجابية منشودة فى حالتنا، ترسم الإطار السياسى الأمثل لإدارة البلاد بعقد اجتماعى جديد يضع نهاية لفكرة تقسيم المجتمع وفصله عن الحكم.

عقد يقوم على الثقة المتبادلة والمصداقية والتوافق الوطنى والتعاون الجمعى، فيصنع جبهة داخلية مترابطة يمكنها مواجهة مشاكل المجتمع السياسية والاقتصادية، ومجابهة التحديات التى تحاصر الوطن من كل حدب وصوب، بطرح حلول عملية وخطط تشاركية شاملة ومستدامة، يليه دستور جديد يصيغ تلك التفاهمات فى وثيقة قانونية تنظم العلاقة بين الحُكم والمحكوم بما يتفق مع خصوصية المجتمع المصرى، وعلى أساس وضوح الممارسة وحماية فاعلياتها العملية، وليس فقط وضوح القوانين التنظيمية او العقابية.

 

هذا العقد الاجتماعى المأمول، وقد فعلها الرئيس، ينتج عن إرادة سياسية قوية، وحوار وطنى واسع النطاق يضمن المشاركة الفاعلة لجميع أطياف المجتمع، يؤكد على مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية وحدود سلطة السلطة وحقوق المواطن وواجباته والحريات الأساسية وضمانات تنفيذها، فيحدد الأهداف ويضع خطة العمل المناسبة لتحقيقها، مع تعيين آليات مراقبة تنفيذ العقد وتقييمه دورياً بدراسة المدخلات والمخرجات والتغذية العكسية ـ"ديفيد آيستون ـ تحليل النظم" ـ حيث تعبر المدخلات عن مطالبات جماهيرية بخدمات بسيطة قد تتدرج إلى مطالبات بأداء حکومى أفضل، بينما تعبر المخرجات عن دراسة النظام مدى رشادة تلك المطالب، والموازنة بينها بقرارات مرضية تهتم بالأولويات حسب الموارد المتاحة، ثم دراسة مردود تلك القرارات لإعادة التغذية بمدخلات جديدة تقابلها مخرجات جديدة، ودورياً حسب مجريات الأحداث وتطور المطالب، فيرسى أفضل سبل إدارة الدولة ويضمن استقرارها والحفاظ على أمنها الاجتماعى.

 

فالعقد الاجتماعى منذ "ابن خلدون" ونظريته "القوة والغلبة"، إلى أطروحات "جان جاك روسو" و"إيمانويل كانط "، هو أفكار وتفاهمات نظرية قابلة للتغيير والتبديل إلى الأفضل مع، وحسب ما تفرضه مستحدثات كل عصر، يتفق عليه كل مجتمع ويضع شروطه وأيدولوجيته السياسية ومحدداته وأدوات ممارسته حسب طبيعة ذلك المجتمع وقيمه، فيضم داخله كل العناصر الجمالية لصورة الدولة وقوتها، ويُعَيَّن السبيل المثلى لإدارة مقوماتها، وفى مقدمتها كالدولة السياسى والاقتصادى، فيكتسب العقد شرعيته من قبول ووفاء أطرافه بالتزاماتهم، سلطة أو جمهور، وفى ظل قانون إدارة صارم هو الدستور.

 

هذا المفهوم، "ما تفرضه مستحدثات كل عصر"، هو ما يدعم الحاجة لعقد اجتماعى يصيغ فكرة الجمهورية الجديدة، يأتي بديلاً عن عقود إذعان سابقة فرضها طرف واحد ففقدت وصف "الإجتماعى"، قدَّمَت السلطة على الإنسان أو أخرجته من حساباتها، رغم أن الإنسان هو مانح السلطة الوطنية فى المفهوم النظرى للدولة.

وجولة سريعة فى العقود المصرية الحديثة -والتى، باستثناء عقدها الأول، فإنما أُسَمِّيها "عقوداً" من باب المجاز وليس الوصف، فجميعها كان رؤى نخبوية أو فوقية هبطت على الشعب دون دراية منه أو رأى ـ أظنها جولة ستؤكد مدى حاجتنا لدعم فكرة الجمهورية الجديدة بعقد اجتماعى حقيقى لفظاً وعملاً، يكون الهدف المُرتَجَى من جلسات الحوار الوطنى:

1ـ العقد الاجتماعى الأول 1923-1952

عقد حقيقى جاء نتاجاً لثورة 1919 وكفاحها الذى أرسى حقوق المواطنة وصنع نهضة شاملة فى كافة المجالات، لا زلنا -بعد أكثر من 100 عام- نستقى وننهل من نتاجها الفكرى وسنظل، فأفرز دستور"1923" الذى تميز بآليات تداول السلطة عبر صندوق الانتخاب، وإن لم تخل أحياناً من افتئات سلطوى أو رشى انتخابية، ربما لم تنل من فكرة العقد بشكل مؤثر، خاصة والتجربة لم يتجاوز عمرها 29 عاماً، قد لا تكفى للحكم على تجارب الشعوب وقدرتها على التسارع الذاتى.

 

2ـ العقد الثانى 1952-1970

وعن نفسى أُسَمِّيه "عقد البحث عن عقد"!، فقد أمضته السلطة تتجول بين الأيدولوجيات السياسية بحثاً عن عقد اجتماعى ينظم طموحاتها وعلاقتها مع الشعب، رغم أنها لم تختصر الجولة والجهد فتسأل الشعب مباشرة "كيف تريد أن تُحكَم؟".

التزمت السلطة فيه من فكرة العقود بعمليات التنمية، خاصة الصناعية، وتكفلت بتوفير التعليم والوظائف والرعاية الصحية والأمن الداخلى، فنجحت، نسبياً، فى تأمين شرعيتها الاجتماعية بدعمها للطبقتين الوسطى والدنيا، بينما على الجانب الآخر كانت سلبيات كثيرة تخص الحريات والحقوق السياسية، مع انعدام معلن لفكرة تداول السلطة ولو نظرياً.

 

1ـ العقد الثالث 1970- 2011

المرحلة الأولى 1970-1981

لم يختلف "العقد" الثالث فى مرحلته الأولى كثيراً عن "العقد" الثانى فى بعض جوانبه الاجتماعية المُمِيزة، بينما أفرزت سلبياته الكثير مما لمسناه على المستويين الفكرى والقيمى، عدَّدها أستاذنا الجليل "جلال أمين" فى كتابه الأشهر والأهم "ماذا حدث للمصريين".

المرحلة الثانية 1981-2011

ونستعير لها تعبير دكتور "أميرة الحداد" أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، التى وصفته بـ "العقد الاجتماعى غير الاجتماعى"، حيث تدهور أسلوب الرعاية الاجتماعية، وتبنى النظام، حسب رأيى الشخصى، التعريف الساخر للفيلسوف الفرنسي "بول فاليرى": (السياسة هى فن منع الناس عن التدخل فى شئونهم)، واكتفى فى تمثيل المواطن بنواب انتقى أغلبهم بشكل "كورالى" متناغم تحت القبة، إلا ما رحم ربى، إلى جانب حالة "الحياة الحزبية غير الحزبية"، إن جاز التعبير، مع تقسيم النخب السياسية إلى مغضوب عليهم وحرس قديم وحرس جديد، فتوغَّلَت سياسات الحزب الحاكم فى مفاصل المجتمع والدولة، وتغوَّلت فى انتخابات مجلس الشعب 2010، فاستشعر المهتمون الخطر، فكانت أحداث 25 يناير 2011، وليس مجالنا الحديث عن دوافعها ومبرراتها ونتائجها، ولا عن تقييمها حسب كتالوج الثورات.

 

أما أخطر ما أفرزته تلك المرحلة فهو ما نعيبه الآن من ظواهر سياسية أو ثقافية أو مجتمعية، وُلِد أصحابها وتلقوا تعليمهم وثقافتهم ومعارفهم خلال تلك الحقبة ونقلوها إلى من بعدهم، فالبديهى أن نهضة الشعوب لا يمكن تقييمها على مجريات لحظات آنية، كذلك لا يمكن إلقاء مسئوليتها، إيجاباً أو سلباً، على نظام قائم أبداً، وإنما هى تراكمات سياسات سابقة، شكلت سلوكيات أجيالها فنقلتها تواتراً إلى الجيل الذى تلاها، لينقلها بدوره إلى الجيل الذى يليه بعد أن يُراكِم عليها مكتسبات جيله، جيدة أو سيئة.

 

بمعنى أن نظام الحكم الحالى "2014 - 2023" غير مسئول، نسبياً، عن جهل شاب فى العشرين أو الثلاثين من عمره، لكنه سيكون المسئول الأول والوحيد، لا جدال، عن الطفل الذى وُلِد أو نشأ فى عهده وتلقى تعليمه وتثقيفه ورعايته الاجتماعية وتشكلت صورته الذهنية عن مؤسسات الدولة وتصرفاتها حسب تفاعلاته الحياتية اليومية والوجدانية خلال هذا العهد، مما سيكون له الأثر البالغ على مستقبل وقوة البلاد، حسب طبيعة ذلك الأثر.

فاليقين أن أطفال اليوم هم البذرة التى ستؤتى حصادها بعد 20 عاماً أو أقل، هم من سيتولى مهمة هذا البلد غداً.. تعليماً وتهذيباً وديناً وقضاءً وجيشاً وشرطة وديبلوماسية وإدارة واقتصاد وكل مناحى وعناصر تسيير الدولة، وهو أمر جلل، على المجتمع الاهتمام به وتداركه فوراً، دون إلقاء عبء مسئوليته على سلطة الدولة وحدها، وذلك هو أهم وأخطر أولويات عناصر العقد الاجتماعى المنشود للجمهورية الجديدة، وفرصته التى ربما إن ضاعت فلن تتكرر.

 

الشاهد، أن الحالة المصرية ما زالت تفتقد ذلك العقد الاجتماعى الملزم لأطرافه سلطة وشعبا، وهى تحتاجه اليوم لإرساء دعائم جمهورية جديدة عصرية قوية تقوم على الديمقراطية وتداول السلطة وتقاسم مسئولية إدارة الدولة وتوزيع الاستفادة السياسية، من خلال الصندوق، بين كيانات شرعية سياسية مؤهلة لذلك، مع تثمين رأى المواطن عملياً، وهو المؤتمن على انتخاب رأس الدولة، بمنحه، مثلاً، تجربة حق انتخاب إدارته المحلية، من رئيس الحى، ومن فى حكمه، إلى المحافظ، بضوابط تدعم قوة الدولة ونظام حكمها.

 

هذا الافتقاد أرى أن أحد أسبابه افتقاد المشروع الحزبى الناضج بوظائفه السياسية المرتبطة بالجمهور، وهو ما يدفعنا للسؤال عن قدرة الأحزاب المصرية فى مجملها على الاضطلاع والنهوض بمسئولية إدارة الدولة أو حتى المشاركة فيها، فقد فشل أغلبها فى تطبيق الصواب داخل هيكله الحزبى فشله فى تطبيق الخطأ نفسه!، رغم أنها، جميعاً، تذخر بكوادر عملاقة، لكنها إما مهمشة، وإما تمنعها أنفتها عن النزول إلى صراعات المناصب الحزبية.. "التطوعية"!

هذا الافتقاد جعل مشاركة الأحزاب فى رسم مصير الوطن مسألة محل نظر، إن لم تبادر بإصلاح هياكلها وخطابها السياسى ليمكنها مجاراة فكر قيادة الدولة للمستقبل، إذ لا شك أن انشغالها عن ذلك الإصلاح جعلها عبئاً على مفهوم التعددية، فأفقد النظام وجهات النظر الأخرى أو المُكَمِلة، وغيَّب عنه المعارضة البناءة التى تشير إلى المشكلة مصحوبة بالحل العلمى المدروس لقرارات الإدارة، فيدعمها أو يقترح تعديلها، فيتقبله النظام عن قناعة الشراكة في تحقيق المصلحة الوطنية -وهو ما طالبت به قيادة الدولة متمثلة فى شخص السيد الرئيس أكثر من مرة- فكانت النتيجة انفراد الإدارة بمناقشة قرارتها بنفسها، وتطبيق رؤيتها من نفسها، ليس لأنها الرؤية الأصَّح، وإنما لأنها الوحيدة الموجودة على الساحة، فأصبح الأمر وليس فى وسع الإدارة إلا السير "مضطرة" فى طريق ذات اتجاه واحد إجبارى مهدته الأحزاب والقوى المدنية بتكاسلها عن تمهيد طرق أخرى فرعية يمكنها المساهمة فى تخفيف الضغوط.

 

نهاية.. مصر المستقبل فى حاجة إلى ثورة تترجم مبادرة السيد الرئيس ترجمة عملية، ثورة تبنى المستقبل وتضع تفاهمات مشروع العقد الاجتماعى فيكون القاسم المشترك لمجموعة الأرقام الموجودة على الساحة السياسية، الفاعلة منها أو الخاملة، فيضم الأولى ويجبر الأخرى على اللحاق بالركب، إن شاءت البقاء داخل إطار التاريخ.

ثورة فجَّرَتها مبادرة السيد الرئيس.. بالفعل آمل أن يمكن للقوى السياسية استيعاب أهدافها، وأتمنى أن يقودها سيادته ويتابعها بنفسه، فيكتب التاريخ اسمه بحروف النور فى صفحة الملوك المحاربين، قائداً لمعركة من أشرَّف وأنبل معارك الوطن.. معركة "كيف تصنع دولة؟".. أو معركة "كيف تريد وطنك أن يكون؟".

ولك يا مصر السلامة، وسلاما يا بلادى.

Dr.Radwa
Egypt Air