الخميس 2 مايو 2024

أين أحفاد رفاعة الطهطاوي؟

مقالات11-8-2023 | 10:42

 

  • كان رفاعة الطهطاوى أول مصرى يعمل فى مدرسة الطب منذ نشأتها، واستمر بها نحو عامين قدم خلالهما العديد من الرسائل الطبية كما راجع ترجمة بعض الكتب
  • كانت مدرسة الألسن محطة الاتصال الرئيسية الأولى فى تاريخ مصر الحديث بعلوم الغرب وفنونه وثقافته، وقد نجح "الطهطاوى" فى الخروج بها إلى النور و بذل فيها جهودًا كبيرة
  • كان لتحقق ثنائية الحاكم الإصلاحى والمفكر الإصلاحى، طوال أكثر من ثلاثة عقود فى شخصى (الحاكم) محمد على و(المفكر) رفاعة الطهطاوى أثر كبير فى نهضة مصر الحديثة

 

 

لا يُذْكَر اسم رفاعة الطهطاوى طوال ما يقرب من قرنٍ ونصف القرن منذ وفاته عام 1873م إلا مُرادفًا لــ"التنوير" فهو بحق رائد التنوير فى تاريخ مصر الحديث، وهو التاريخ الذى يتوافق الجميع أنه يبدأ مع دخول الحملة الفرنسية مصر عام 1798م، وإن اختلفوا على أنه تاريخ قيام الدولة المصرية الحديثة، والتى يرى البعض - وأنا منهم - أنه يرتبط على وجه الواقع والتحديد مع تولى محمد على باشا حكم مصر عام 1805م، ولعل قَدَر مصر الطيب وحظها السعيد فى ذات الوقت أن يتزامن حضور مفكر إصلاحي كــ"رفاعة الطهطاوى" مع حاكم إصلاحى كــ"محمد على" فى مشهد واحد طوال أكثر من ثلاثة عقود.

دعنى أضع أمامك أولًا بعضًا من ملامح رفاعة الطهطاوى الشخصية، حتى تتخيل له صورة ذهنية حية تساعدك على استيعاب مُنجَزه التنويرى الاستثنائى، وبخلاف صورته المرسومة التشكيلية الشهيرة المتداولة دائمًا، والتى أعظم ما فى نسختها الأصلية نظرة عينيه الدالة على رؤية مستقبلية ثاقبة لمفكر صاحب مشروع.

وُلِد رفاعة رافع بن بدوى بن على الطهطاوى عام 1801م بمدينة طهطا التابعة لمحافظة سوهاج بصعيد مصر، وقد نشأ فى أسرة شريفة حيث يمتد نسب أبيه إلى الإمام الحسين بن على بن أبى طالب، وأمه هى فاطمة بنت الشيخ أحمد الفرغلى سَليلَة قبيلة الخزرج الأنصارية، اعتنى به أبوه فى صغره رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى حتى استقر بهم المُقام في القاهرة، وكان "رفاعة" قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة فى عصره، والفضل فى هذا يعود إلى أسرة أمه الزاخرة بالشيوخ والعلماء، وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره التحق بالأزهر الشريف، وكان من حُسن حظه أن تتلمذ على يد الشيخ حسن العطار، العالِم واسع الأفق، كثير الأسفار، قارئ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك، فكان أن تخرج رفاعة الطهطاوى من الأزهر الشريف في الحادية والعشرين من عمره كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة.

ولم تكن نقطة التحول في مسار رفاعة الطهطاوي تجاه مشروعه التنويرى الرائد، إلا قرار محمد على باشا بإيفاده ضمن ثلاثة علماء من الأزهر الشريف، على رأس بعثة علمية كبيرة إلى فرنسا لدراسة العلوم الطبيعية والمعارف الإنسانية، وكان ذلك بترشيح من الشيخ حسن العطار، وتمثلت رغبة محمد على باشا من وراء ذلك فى النهوض بالتعليم فى مصر، ورأى فى صحبة علماء الأزهر الثلاثة لهذه البعثة عاملًا مساعدًا على تعايش طلابها فى المجتمع  الغربى، مع الاحتفاظ بهويتهم من خلال إمامة هؤلاء العلماء لهم فى الصلاة ومعها دروس الوعظ والإرشاد، ولأن "الطهطاوى" أصر فور وصوله فرنسا على تعلم اللغة الفرنسية وإتقانها، قررت إدارة البعثة إلحاقه بطلابها بعدما اختار التخصص فى دراسة اللغة الفرنسية.

فإذا ما رصدنا مُنجَز رفاعة الطهطاوى عقب عودته إلى مصر عام 1831م، بعد خمس سنوات قضاها في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، نجد أن هذا المُنجَز قد تشكلت ملامحه بالفعل وهو هناك فى باريس، حيث ترجم اثنى عشر كتابًا من اللغة الفرنسية إلى العربية، كما وضع خلاصة الرحلة فى كتابه الأشهر "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" أو "الديوان النفيس بإيوان باريس" الصادر عام 1834م، والإبريز هو الذهب الخالص، والمعنى استخلاص ما يمكن وصفه بالذهب النقى فيما تتشكل منه باريس، مدينة الحرية والإخاء والمساواة، بلد العلم والفكر والثقافة، وفى مُستَهَلِه يقول رفاعة الطهطاوى:

"لما مَن الله على بطلب العلم بالجامع الأزهر والمحل الأنور، الذي هو جنة علم دانية الثمار، وروضة فهم يانعة الأزهار، وحَصلت ما يسر به علي الفتاح مما يخرج به الإنسان من الظلام، ويمتاز به عن مرتبة العوام، وكنت من معشر أشراف جارت عليهم الأيام، ومن المركوز في الأسماع في القديم والحديث، وعليه الإجماع بعد الكتاب والحديث، أن خير الأمور العلم، وأنه أهم كل مهم، وأن ثمرته في الدنيا والآخرة، صاحبَه تَعود، وأن فضله فى كل زمانٍ ومكان مشهود، سهل لى الدخول فى خدمة صاحب السعادة أولًا فى وظيفة واعظ فى العساكر الجهادية، ثم منها إلى رتبة مبعوث إلى باريس صُحبة الأفندية المبعوثين، لتعلم العلوم والفنون الموجودة بهذه المدينة البهية، فلما رُسِم اسمى في جملة المسافرين وعزمت على التوجه، أشار علي بعض الأقارب والمحبين، لا سيما شيخنا حسن العطار، أن أنبه على ما يقع فى هذه السَفرة، وعلى ما أراه وما أصادفه من الأمور الغريبة، والأشياء العجيبة، وأن أقيده ليكون نافعًا في كشف القناع عن مَحيا هذه البقاع، التى يُقال فيها إنها عرائس الأقطار، وليبقى دليلًا يهتدى به إلى السفر إليها طلاب الأسفار، خصوصًا وأنه من أول الزمن إلى الآن – على حسب ظنى - لم يظهر باللغة العربية شىء فى تاريخ مدينة باريس، كرسى مملكة الفرنسيس".

وكان رفاعة الطهطاوى قد حظى بمقابلة الوالى محمد علي في القاهرة عقب عودته من باريس، بعدما سبقته تقارير الثناء من أساتذته في البعثة، وهو ما أهله للالتحاق مُترجِمًا في مدرسة الطب، حيث كان أول مصرى يعمل فيها منذ نشأتها، واستمر بها نحو عامين قدم خلالهما العديد من الرسائل الطبية كما راجع ترجمة بعض الكتب، ثم انتقل إلى مدرسة المدفعية ليعمل مُترجِمًا للعلوم الهندسية والفنون العسكرية.

أما مُنجَز "رفاعة" الأعظم في مجال التعليم، فهو تأسيس مدرسة الألسن فى القاهرة عام 1835م وهي كلية الألسن الآن، والتىط كانت محطة الاتصال الرئيسية الأولى فى تاريخ مصر الحديث بعلوم الغرب وفنونه وثقافته، وقد نجح فى الخروج بها إلى النور بعد محاولات جاهدة لإقناع محمد على باشا، حيث بذل "الطهطاوى" فيها جهودًا كبيرة، حتى أنه كان يُدير المدرسة ويقوم بالتدريس فى بعض الأوقات، كما يُحَدِد الكتب التى يقوم الطلبة بترجمتها قبل أن يقوم بتصويب هذه الترجمات، وبعد خمسة عشر عامًا من استمرار الدراسة فى مدرسة الألسن فى عهد محمد على وولده، جاء الخديوى عباس الأول حفيد محمد على للحكم، فقام بإغلاق هذه المدرسة وأمر بنفي "الطهطاوى" إلى السودان بحجة الإشراف على إنشاء مدرسة إبتدائية هناك، كان منهج الخديوى عباس في الحكم رَجعيًا مُعاديًا للإصلاح ومُغايرًا تمامًا لعهد محمد علي باشا، ولم يعد "الطهطاوى" من منفاه إلا بعد وفاة "عباس" وتولى الخديوى سعيد باشا حكم البلاد.

وفيما بين مقدمة الطبعة الثانية من كتابه "أبناء رفاعة.. الثقافة والحرية" الصادرة عام 2009م، ومقدمة طبعته الأولى الصادرة عام 1993م، يؤكد الكاتب الكبير بهاء طاهر على عدة حقائق، أولها أن أدق وصف لكتابه هو صعود الدولة المدنية وانحسارها، حيث يعرض الجزء الأول منه بيان خُطى التقدم التدريجى لخروج مجتمعنا من ظلام العصور الوسطى إلى أنوار الحداثة والحرية، كما يعرض الجزء الثانى من الكتاب خُطى التراجع التدريجى والمنظم لمشروع النهضة ذاك، بُغية العودة من جديد إلى المنظومة الفكرية للدولة العثمانية التى يتغزل بها الآن كثيرون على غير علم، رغم أنها قد أشرفت بمصر على الهلاك كما تُبين فصول الكتاب.

ثانى حقائق "بهاء" أن قيام الدولة المصرية الحديثة قد أنقذ هذا الوطن من الهلاك الفعلى والاندثار الذي لحق شعوبًا أخرى، ويرى أن المثقفين قد أدوا في هذا أهم الأدوار بإحداث التغيير الفكريى الذي قاد مصر خطوة خطوة رغم الهزائم والانكسارات، لتصبح فى كل مرحلة أفضل مما كانت عليه من قبل، ويؤكد ف هذا أن القول بأننا كنا نعيش عصرًا ذهبيًا قبل قيام الدولة الحديثة، ثم جاءت هذه الدولة لتُدخِلنا في ثقافة التبعية والاستعمار، فهو قول أبسط ما يُقال عنه إنه يَجهل كل الجهل ما كنا فيه وما أصبحنا عليه.

ثالث هذه الحقائق أن نهضتنا الحديثة قد بدأت باتصالنا بالغرب، ويزعم "بهاء" أن ذلك قد تم بفضل محمد علي باشا لا بسبب الحملة الفرنسية على مصر كما يَذهب البعض، مؤكدًا أن الثقافة الحديثة برغم تأثرها بالاتصال بالغرب، لم تكن اقتباسًا مباشرًا منه أو نقلًا حرفيًا عنه، بل تبلورت في معظم الأحيان من خلال الصراع مع الغرب، ومن خلال الرفض لكثير من قيمه ومنطلقاته، إذ كان ذلك الاتصال في حقيقته فرصة للمراجعة، ولمحاولة تأكيد الذات بالعودة إلى ثوابت الثقافة المصرية، وإحياء القيم النبيلة في حضارتنا الإسلامية التى طمستها عصور الظلام المملوكية العثمانية، ومن هنا كان صراع الثقافة المصرية الحديثة ضد التغريب وضد التتريك معًا، سَعيًا لتأكيد ذاتية ثقافية مستقلة.

ويَذكر بهاء طاهر باستمرار في تأكيد رؤيته بالكتاب أسماء رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين بوصفهم طلائع كوكبة التنوير في ثقافتنا الحديثة، منوهًا لأن هذه الأسماء تحديدًا تتعرض دائمًا لهجومٍ ضار من خصوم النهضة بوصف أصحابها رواد "العلمانية" فى ثقافتنا الحديثة، والمؤسف هنا أن "العلمانية" حين دخلت كمصطلح في اللغة العربية، لم تكن تعني أصلها من النسبة إلى "العالَم" كما كان الحال في الغرب، بل نُسِب المصطلح إلى "العِلم"!.. والحقيقة أن عمل هؤلاء الرواد لم يكن بذاته إلا دفاعًا بليغًا عن الدين حين حاولوا تغيير المجتمع نحو الأصلح والأقوم.

وقد أوجز المفكر الكبير د. محمد حسين هيكل تلك الرابطة العميقة بين السياسة والثقافة والدين في عبارةٍ غنية بالدلالة ضمن مذكراته، حين يقول عن الإمام محمد عبده: "كان الشيخ محمد عبده قد بلغ مركز الإفتاء، وكان رجلًا حر الرأى، كاتبًا أديبًا يتذوق جمال اللغة خير تذوق، ويدرك قواعد المنطق أحسن إدراك، فنادى بأن التقليد ليس من الدين في شىء، وذهب فى غير تردد إلى أن الجمود هو الذى قضى على الأمة الإسلامية بالتأخر، وجَعَلَها طُعمَة للاستعمار الأجنبى لأنه قيد العقل في هذه الأمم الإسلامية بقيود منعته من الانبعاث في التفكير إلى غاية ما يُستطاع بلوغه، لإدراك الحق والجمال والجلال في خلق الله جل شأنه".

أعود بكم الآن إلى ثنائية الحاكم الإصلاحى والمفكر الإصلاحى، والتى كان لتحققها طوال أكثر من ثلاثة عقود فى شخصى الحاكم محمد على والمفكر رفاعة الطهطاوى أثر كبير في نهضة مصر الحديثة، فإذا كنا فى طورٍ جديد من أطوار إعادة بناء الدولة المصرية الحديثة، فالسؤال يفرض نفسه عن غياب المفكرين الإصلاحيين أحفاد رفاعة الطهطاوى عن المشهد، خاصة وأننا في أشد الحاجة إلى إعادة صياغة العقل الجمعى المصرى بما يواكب تحديات بناء دولة مصرية حديثة، ولعل المدخل إلى صعود هؤلاء نحو صدارة المشهد هو مؤتمر وطنى تحت رعاية رئيس الدولة، مؤتمر يخاطب المجتمع المصرى بــ"التنوير" كعنوان رئيسى ورسالة مباشرة له، ولتكن سيرة رفاعة الطهطاوى وخَلَفُه من حُماة العقل المصرى مرجعية أجندة هذا المؤتمر ومحاوره.              

Dr.Randa
Dr.Radwa