الأحد 5 مايو 2024

رفاعة الطهطاوي مؤسسا لثقافتنا الحديثة


د. مصطفى رجب

مقالات11-8-2023 | 14:04

أ.د. مصطفى رجب

● أقام الطهطاوى في فرنسا خمس سنوات، تعلم فيها اللغة الفرنسية وأتقن الترجمة، ودرس وقرأ الكثير من المؤلفات الأوروبية في مختلف العلوم لمشاهير المفكرين الغربيين 
● كان لمؤلفات رفاعة أكبر الأثر في إثراء الحركة الفكرية بالموضوعات الموسوعية المتعددة في التخصصات كافة
● يتضح من مؤلفات وترجمات رفاعة أنه موسوعى الثقافة، قادر على النهوض بالحركة العلمية والفكرية والتربوية بفكره الواعى المستنير


لقد كان الطهطاوى زعيماً للنهضة الفكرية، والثقافية في مصر في القرن التاسع عشر، حيث اجتمعت له ثقافة موسوعية، جمع فيها بين الثقافة الإسلامية الأصيلة، وبين الثقافة العربية المتطلعة نحو التحديث والتقدم.

ومن خلال دراسة الطهطاوى في الأزهر، وتوليه العديد من المناصب المرتبطة بالمسائل التربوية والتثقيفية، ثم احتكاكه بنظام تربوي وتعليمي جديد في فرنسا، تعرف فيه على مناهج ونظريات جديدة في التربية استطاع الطهطاوى أن يكون صاحب فكر تربوي، وآراء تربوية بثها في كتبه: المرشد الأمين، ومناهج الألباب، وتخليص الإبريز.

نبذة عن حياة رفاعة الطهطاوى ونشأته

هو السيد/ رفاعة بك بن بدوي بن على بن محمد بن رافع، ويلحقون نسبهم بمحمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن فاطمة الزهراء ويتضح من ذلك أن رفاعة الطهطاوى ينتسب من ناحية أبيه إلى الحسين بن فاطمة الزهراء بنت الرسول (عليه الصلاة والسلام)، وترجع تسميته بالطهطاوى نسبة إلى بلدته طهطا في صعيد مصر ورفاعة ينتسب من جهة أمه إلى شيخ الإسلام الشيخ زكريا الأنصاري الذي ألف كتباً كثيرة في علوم اللغة والدين، تعد من أمهات المصادر، وأخوال رفاعة من الأنصار، الذين آووا المهاجرين من مكة إلى المدينة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويؤخذ مما كتبه الطهطاوى عن نفسه أن أجداده كانوا من ذوى اليسار، وأخنى الدهر عليهم.

ولد رفاعة الطهطاوى في طهطا بمديرية جرجا من صعيد مصر سنة (1216 هـ – 1801م)، وهى السنة التي جلت فيها الحملة الفرنسية عن مصر، وتوفى فى أواخر عهد إسماعيل، حيث عاش الفترة التي انتقلت فيها مصر من عصور الظلام إلى عصور النهضة، ومن كونها ولاية تابعة للدولة العثمانية إلى دولة مستقلة، كما شهدت السنوات الأولى من تلك الفترة فى مستهل القرن التاسع عشر الصراع بين الأتراك والمماليك والإنجليز، وصاحب هذا الصراع ظهور قوة الشعب المصري

ونشأ رفاعة الطهطاوى في مدينته طهطا في أسرة عربية الأصل لها قدر متواضع من الحياة العلمية في ذلك الوقت، وتلقى تعليمه المبكر في كتاب القرية، "حفظ القرآن الكريم، وقرأ كثيراً من المتون المتداولة على أخواله وفيهم جماعة كبيرة من العلماء الأفاضل، كالشيخ عبدالصمد الأنصاري، والشيخ أبى الحسن الأنصاري، والشيخ فراج الأنصاري وغيرهم، "وقد لقي رفاعة التشجيع لطلب العلم من والده أولاً ثم من أخواله وكانوا من علماء الأزهر فيسروا له قراءة الكتب الدينية واللغوية مما زين له أن يلتحق بالأزهر ليتم تعليمه.

 وعندما توفى والد رفاعة، وفد إلى الأزهر يطلب العلم سنة (1232هـ – 1817م)، وسنه إذ ذاك تناهز السادسة عشرة سنة، ومكث في الأزهر خمس سنوات ختم فيها دروسه وتتلمذ على عدد من شيوخه البارزين مثل "الشيخ الفضالى (المتوفى 1236)، والشيخ حسن القويسنى (المتوفى 1256)، والشيخ الدمهوجى (المتوفى 1246)، والشيخ إبراهيم البيجورى (المتوفى 1256)، والشيخ محمد حبيشى (المتوفى 1269) وكان هؤلاء هم خيرة علماء الأزهر في ذلك الوقت، وكان علمهم الذي استمده الطهطاوى عبارة عن متون وشروح لأمهات الكتب في النحو والفقه والحديث، والتفسير، كانت تتسم بالجمود والغموض وتعقد العبارة، وأبعد عن الأصالة، والتجديد في الابتكار، ومما قرأه الطهطاوى في الأزهر: جمع الجوامع في أصول الفقه، ومشارق الأنوار في الحديث، وشرح الأشمونى على ألفية بن مالك، شرح بن عقيل على ألفية بن مالك، وتفسير الجلالين للسيوطى والمحلى، وكتاب مغنى اللبيب في النحو لابن هشام.

ثم قضى رفاعة بالأزهر ثلاث سنوات أخرى، عمل فيها بالتدريس وعندما بدأ الطهطاوى عمله مدرسا بالأزهر ظل يعمل داخل الإطار التقليدى، فهو يهتم بمنظومات العلوم ويؤلفها، ويدرس الحواشي والشروح مثل باقي زملائه، وقد كان الطهطاوى منذ عهده الأول مدرسًا ممتازًا، فأقبل عليه الطلاب وأفادوا منه.

وهكذا ظل الطهطاوى مدرسا أزهريا تقليديا إلى أن عين واعظا في الجيش المصري بتزكية من الشيخ العطار، فأصبح بذلك موظفآ في جهاز الدولة في عصر محمد على وذلك عام 1824م.

عندما قرر محمد على إرسال بعثه علميه إلى فرنسا، طلب من الشيخ العطار أن يختار لها إماما وواعظا لطلاب البعثة، فرشح الشيخ العطار تلميذه رفاعة،  وسافر رفاعة الطهطاوى فى السادس من رمضان 1241هـ، الموافق 14 من أبريل 1826م إلى فرنسا، وأوصى الأستاذ تلميذه يومئذ بأن يسجل كل ما يراه في رحلته من بدايتها إلى نهايتها، ففعل التلميذ ذلك، وتألف له من ذلك كتاب مشهور هو كتاب (تخليص الإبريز في تلخيص باريز).   

وقد أقام الطهطاوى في فرنسا خمس سنوات، تعلم فيها اللغة الفرنسية وأتقن الترجمة، ودرس وقرأ الكثير من المؤلفات الأوروبية في مختلف العلوم لمشاهير المفكرين الغربيين وأصبح موسوعي الثقافة، وفى رمضان 1246هـ غادر باريس عائدا إلى مصر بعد أن اجتاز امتحان الترجمة بنجاح.

عُين رفاعة بعد عودته من فرنسا مترجما بمدرسة الطب، ثم نقل سنة 1249هـ إلى مدرسة الطوبجية في طرة لترجمة الكتب الهندسية والفنون العسكرية.

وقد عرض رفاعة الطهطاوى على محمد على أن يؤسس مدرسة ألسن سميت عند إنشائها سنة 1835م مدرسة الترجمة ثم غير اسمها فصار مدرسة الألسن، وتألف من أول دفعه فيها برياسته قلم الترجمة الذي نقل الأفكار الحرة إلى مصر، وقد اقترح رفاعة إنشاء هذه المدرسة لسد حاجة البلاد من المترجمين والموظفين، ليتم الاستغناء عن الأجانب. وتولى رفاعة نظارة مدرسة الألسن" كما كان يشرف على مراجعة وإصلاح الكتب التي يعربها تلاميذه، وكان يلقى على طلبته دروسا في الأدب والشرائع الإسلامي والغربية وكان يرأس كل عام لجنة امتحان تلاميذ مكاتب المبتديان بالأقاليم فيسافر إليها فى النيل، ويمتحن تلاميذها، ويأتي بالمتفوقين منهم إلى المدرسة التجهيزية.

 تولى رفاعة نظارة مدرسة الألسن وكانت الدراسة بها خمس سنوات، يترجم فيها الطلبة كتبا في التاريخ والأدب وتطبع الترجمات الصالحة.

في سنة 1840م عهد إلى رفاعة تنظيم الوقائع المصرية والإشراف على تحريرها، فقام بالإشراف على تبويب الصحيفة وأعمال الترجمة بها، وعنى باللغة العربية التي أصبحت تصدر الجريدة فى الناحية اليمنى فى حين كانت اللغة التركية تحتل الناحة اليسرى. 

وتوفى رفاعة الطهطاوى عام 1873م، بعد حياة حافلة بالعطاء.

مؤلفات رفاعة الطهطاوى

لقد كان لمؤلفات رفاعة دور كبير في النهضة التي شهدتها مصر في القرن التاسع عشر، كذلك كان لها أكبر الأثر في إثراء الحركة الفكرية بالموضوعات الموسوعية المتعددة في التخصصات كافة.

لم يكن منهج رفاعة في مؤلفاته.. ذلكم المنهج الحديث الذي يعنى فيه المؤلف بذكر مراجعه، فيفرد لها ثبتا في أول الكتاب بما رجع إليه في دراسته على عادة المؤلفين الذين سبقوه أو عاصروه في الشرق وفى الغرب. ومما لا شك فيه أن رفاعة كان يرجع في تأليف كتبه إلى مراجع عربية وإلى مراجع فرنسية.

ومن أهم مؤلفات رفاعة وتراجمه ما يلي:

أولا: المؤلفات:

1- تخليص الإبريز في تلخيص باريز، أو الديوان النفيس بإيوان باريس: وهو كتاب مؤلف وصف فيه رحلته لباريس منذ مغادرته مصر وحتى عودته إليها. وقد وصف فيه أحوال فرنسا وأخلاق أهلها وعاداتهم وعلومهم وفنونهم وأساليب حكمهم ومعيشتهم. 

واعترف بما للغرب من حسنات ولم يفته ان ينتقد سيئاتهم وان يسجل نقائصهم، ولقيمة هذا الكتاب فقد أوصى المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بإعادة طبعه وقامت وزارة الثقافة والإرشاد القومي بطبعه وتوزيعه وتقدم به الطهطاوى إلى لجنة الامتحان فى 19 أكتوبر 1830م. وقد نشر عام 1834م.

2- مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية: 

كتبه الطهطاوى لمعالجة التمدن، وأودع فيه فكره الاجتماعي وهو أول كتاب عربى حديث فى التثقيف السياسي والاقتصادى والاجتماعى، وبه اقتباسات كثيرة من كتب الأدب العربى إلى جانب معلومات استقاها الطهطاوى من الكتب الأوروبية.

3- المرشد الأمين للبنات والبنين: 

وهو كتاب ضمنه آراء فى التربية والتعليم: "كما كان له الفضل فى نشر العلوم والمعارف بحمل الحكومة على طبع طائفة من أمهات الكتب العربية على نفقتها مثل: تفسير الفخرى الرازى، ومعاهد التنصيص، وخزانة الأدب، ومقامات الحريرى وغير ذلك واعتمد فيه الطهطاوى على الدراسات الأوروبية فى التربية فى عصره، وضمنه اقتباسات كثيرة من المؤلفات العربية في الدين والأدب، واهتم فيه أيضا بجوانب مختلفة من التربية السياسية والتربية الدينية.

4- أنوار توفيق الجليل فى أخبار مصر وتوثيق بنى إسماعيل:

يتحدث فيه الطهطاوى عن تاريخ مصر القديمة حتى الفتح العربى، وتاريخ العرب حتى إرهاصات ظهور النبي (صلى الله عليه وسلم) والإسلام.

5- نهاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز: 

خصصه لسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومقومات البناء السياسى والإداري والقضائى للدولة الإسلامية.. ألفه رفاعة كمقدمة للجزء الثانى من كتاب تاريخ مصر الجامع ثم مات قبل ان يتم طبعه.

6- القول السديد فى الاجتهاد والتجديد:

وهو بحث في موضوع الاجتهاد فى الإسلام، والذين يأتون ليحددوا لهذه الأمة  أمر دينها.

7 - التحفه المكتبية لتقريب اللغة العربية، وهو محاوله لتبسيط قواعد العربية وتيسير تعليمها.

بالإضافة إلى ما سبق ذكره، هناك مؤلفات أخرى للطهطاوى مثل: "جمال الأجرومية"، وهى منظومة، و"تخميس قصيدة الشهاب محمود"، وهى ست وأربعون بيتا، وقصيدة "وطنية مصرية" قالها فى مدح الخديو إسماعيل، وقصيدة "وطنية مصرية" قالها فى مدح الخديو محمد سعيد، و"الكواكب النيرة فى ليالى أفراح العزيزة المقمرة"، وهى مجموعة تهانى لبعض الأمراء، و"أرجوزة فى التوحيد"، و"خاتمة لقطر الندى وبل الصدى"، و"المذاهب الأربعه"، وهو بحث فى المدارس الأربعة ألفه أثناء رئاسته لمدرسة الألسن، وشرح لأمية العرب.

ثانياً:المترجمات:

ومنها: تاريخ قدماء المصريين، تعريب قانون التجارة، تعريب القانون المدني الفرنساوى، التعريبات الشافية لمريد الجغرافية، رسالة المعادن، قلائد المفاخر فى غريب عوائد الأوائل والأواخر، كتاب قدماء الفلاسفة، مبادئ الهندسة، المناطق، مواقع الأفلاك فى أخبار تليماك، هندسة ساسير، روح الشرائح لمنتسكيو، كتاب الجغرافية العمومية وهو كتاب "ملطبرون" ترجم منه رفاعة أربع مجلدات من ثمانية، نبذة فى الميثولوجيا: يعنى جاهلية اليونان وخرافاتهم، ترجمها فى باريس، نبذة فى علم سياسات الصحة وغيرها.

ويتضح مما سبق أن مؤلفات وترجمات رفاعة تدل على أنه موسوعى الثقافة، قادر على النهوض بالحركة العلمية والفكرية والتربوية من عثرتها فى ذلك الوقت، بفكره الواعى المستنير الذى ضمنه مؤلفاته وترجماته.