الإثنين 29 ابريل 2024

«المصور» تنشر مقالا مهما كتبه المشير أحمد إسماعيل السلاح بالرجل

4-10-2017 | 16:38

بقلم: سليمان عبدالعظيم

«الرجال والمعركة» كتاب من ٣٩٢ صفحة أصدرته وزارة الحربية فى أكتوبر ١٩٧٤ بمناسبة مرور العام الأول على انتصارات حرب أكتوبر.

وهذا الكتاب نادر حيث لم تطبع منه وزارة الحربية سوى طبعة واحدة ومحدودة من ٣٠٠ نسخة فقط.

لقد أصرّ المشير أحمد إسماعيل على أن يكون عنوان الكتاب «الرجال والمعركة» كما قال لى الفريق سعد مأمون لأنه كان يؤمن بأن الرجل المقاتل هو الأساس، ولهذا جاء اختياره «السلاح بالرجل» عنواناً لهذا المقال الذى ننشره كاملاً على هذه الصفحات.. وإلى نص المقال.…

كان هذا النهار أحد الأيام المهمة والحاسمة فى تاريخ حياتى كلها.. بل لعله أهمها على الإطلاق..

وبرغم مضى أكثر من عامين.. إلا أننى أتذكر ملامحه تفصيلا..

• التاريخ ٢٦أكتوبر ١٩٧٢- ١٩ رمضان ١٣٩٢.. حوالى الثالثة بعد الظهر..

المكان: منزل الرئيس محمد أنور السادات بالجيزة.

• وكنا -سيادته وأنا- نسير فى حديقة المنزل.. لم أكن أدرى سبب استدعائى.. ولكنى توقعت أن يكون لأمر مهم وخطير، إذ من عادة السيد الرئيس -فى شهر رمضان- ألا يقابل مسئولا إلا بعد الإفطار.

وبعد حوار قصير عن الموقف، حدث ما توقعته.. حيث أبلغنى سيادته بقرار تعيينى وزيرا للحربية اعتبارا من ذلك اليوم..

وفى نفس الوقت كلفنى بإعداد القوات المسلحة للقتال بخطة مصرية خالصة، تنفذها القوات المسلحة المصرية، لتخلص بها الوطن من الاحتلال الصهيونى..

كان لقاؤه لى ودودا إلى أقصى حد..

،كان حديثه معى صريحا إلى كل حد..

وعندما انتهى اللقاء، وركبت السيارة لتنطلق بى عبر شوارع القاهرة، بدأ شريط طويل من الذكريات والأحداث والظروف يمر فى ذهنى وأمام عينى:

ها أنا ذا أعود مرة أخرى لأرتدى الملابس العسكرية!!

كانت آخر مرة خلعتها فيها يوم ١٢/٩/٦٩، عندما استدعانى وزير الحربية الفريق أول محمد فوزى وأبلغنى بقرار إعفائى من منصبى كرئيس للأركان.. وبرغم مضى أكثر من خمس سنوات إلا أننى ما أزال أذكر أننى قلت لوزير الحربية لحظتها:

“كل ما أرجوه أن أتمكن من الاشتراك فى القتال عندما يتقرر قيام القوات المسلحة بحرب شاملة ضد إسرائيل.. وفى هذه الحالة أرجو أن أعود إلى الخدمة ولو كقائد فصيلة أو جندى”.

وانصرفت إلى منزلى.. وكان ظنى أنه لن تتاح لى فرصة العودة إلى صفوف القوات المسلحة مرة أخرى..

وبت شهورا طويلة أمارس حياتى “لواء” متقاعدا أتقاضى معاش الرتبة.. ثم، وفى سنة ١٩٧٠، رفع الرئيس جمال عبدالناصر معاشى إلى معاش وزير.. وان كان ذلك يعنى رد اعتبار لى، إلا أنه لم تكن به إشارة إلى احتمال عودتى للعمل الرسمى..

ومرت أشهر عديدة.. وظروف مختلفة.. ولم ينقطع تفكيرى خلالها عن القوات المسلحة.. لدرجة أننى تخيلت نفسى وكأنى لا أزال فى الخدمة.. وتصورت ما كنت سأفعله حينذاك.. وكتبت تقريرا عما يمكن أن تقوم به القوات المسلحة فى أية عمليات مقبلة لاقتحام قناة السويس والانطلاق لتحرير الأرض.. وفكرت فى أن أطلب مقابلة الرئيس جمال عبدالناصر لتسليمه هذا التقرير وفى اللحظة الأخيرة ترددت.. ثم رفضت الفكرة نهائياً منعا من تأويلها إلى أبعد من حقيقة هدفى المجرد..

وفى فجر ١٤/٥/١٩٧١ أصدر الرئيس السادات قرارا بتعيينى رئيسا للمخابرات العامة.. والحق -أعترف- أنى سعدت بهذا القرار.. فقد كان تقديرا لى كجندى وهب حياته لمصر.. وفرصة لى للمساهمة بشكل ما فى خدمة بلدى، فى معركتها المقدسة..

وبدأت أمارس مهمتى الجديدة.. والواقع أن تلك المسئولية جعلتنى غير بعيد بل ربما قريب جدا من القوات المسلحة ورفاق السلاح والعمر.. لكنى -برغم تلك المشاركة والاقتراب المباشر من القوات المسلحة-لم أتوقع- كما ذكرت- يوما يجيء أعود فيه للخدمة فى صفوفها مرة أخرى!!

لكن.. ها هو اليوم قد جاء عندما كلفنى القائد الأعلى بالمهمة.. ومع ضخامة المسئولية، وخطورة حجمها، الا أننى كنت على قدر كبير من التفاؤل والثقة بالنفس..

وبشكل مبدئى، أجريت- بناء على ما لدى من معلومات- تقديرا شاملا للموقف..

وليس سرا أن القوات المسلحة المصرية كانت تعانى من مشاكل عديدة، تطلبت منى أن أضع أولويات لها ولحلولها وفق خطة سليمة وبدقة..

من هذه المشاكل على سبيل المثال:

١- أنه قد مضت خمس سنوات، والقوات رابضة فى خنادقها على جبهة القناة.. وبهذا أصبح الأفراد مهددين بما نطلق عليه عسكريا “مرض الخنادق” من طول المدة.. وذلك أمر خطير يؤثر على الروح المعنوية وكفاءة القتال.

٢- أن السياسة دخلت إلى القوات المسلحة من باب خلفى.. ولكثرة الأحاديث السياسية من غير المختصين، فإن الثقة قد اهتزت وتخلخلت فى نفوس بعض القادة وبين صفوف القوات المسلحة.. بحيث لاح “مرض التراخى” شبحا يوسوس بعدم المقدرة على أى عمل قتالى.

٣- أنه - ونتيجة لما سبق، وهو فى نفس الوقت بالغ الأهمية- أصبحت كفاءة الخطة الدفاعية عن الدولة موضع شك.. وساءت التجهيزات الهندسية، وأهمل العمل تماما فى تحسين أوضاع القوات.. بحيث صار الحال فى مواقع الجبهة- بغير تجاوز- دون المستوى المطلوب..

• وترتيبا على ما وجدت من مشاكل، وبخطة مدروسة ذات أهداف محددة واضحة كنت أتحدث إلى القادة والضباط والجنود بإصرار أن القضية لن تحل إلا بالحرب.. لكن البعض كان يبتسم- كأننى أتحدث عن خيال- لأنهم كانوا قد وصلوا إلى درجة اقتنعوا معها بأنه لا قدرة لهم على ذلك الحل!!

وعندما كان يقال إن مصر وسوريا ستتحدان فى عمل مشترك ضد العدو، كان البعض يعتبر أن هذا تحليق فى متاهات غير واقعية.. وأنه أبدا لن يصل إلى حيز التنفيذ!!

لكننى، إيمانا بالله وبالقائد الأعلى وبالرجال، كنت متأكدا بيقين، أن تلك الظروف- المتشككة- عارضة.. وأنها لن تفت فى عضد الرجال، ولن تؤثر فى معدن الإنسان المصرى الذى حارب وانتصر عبر العصور..

وأبادر هنا مركزا على أننى لم أغير من هؤلاء الرجال أو أبدلهم تبديلا.. أن كل ما فعلته- إذا كان لى فضل- أنى هيأت لهم المناخ الطيب والظروف الجيدة.. وهنا تأججت نفوسهم وتوهج تحت النيران جوهرهم الأصيل..

•كانت مهمتى فى سبيل ذلك، وكحلول عاجلة أن أعيد الثقة للرجال برفع روحهم المعنوية.

إنه إذا كانت الحرب امتدادا للعمل السياسى، أو هى-كما يقولون- سياسة بالنار، فليس معنى ذلك خلطا بين الاثنين.. فللسياسة رجالها، وللقتال رجاله ومن ثم فنحن عسكريون لنا واجب، وأمامنا مهمة.. ومهارتنا تتمثل فى كيف نرفع من درجة استعدادنا، وكفاءتنا القتالية، لا أن نتحدث بالسياسة.. وعبرة التاريخ أمامنا شاهد يقول إن السياسة عندما تدخل إلى الجيوش تفسدها.

هذا من حيث ما يجب أن نكون عليه..

أما ما يجب أن نفعله، فالموقف صريح بالمنطق:

• هل من الممكن أن تنسحب إسرائيل طواعية من الأراضى العربية..؟، وكم من مرة انسحب الاستعمار من أية دولة برغبته أو بغير ضغط.. ولماذا ينسحب وأصحاب الأرض منشقون على بعضهم، متهالكون فى كل شيء إلا الاستعداد؟

إن أى احتلال لا يخلى موقعه الا بالقوة العسكرية المؤكدة.. سواء مارست هذه القوة ضغطها بالقتال الدامى، أو أشعرت العدو بها فخشى من تكبيده خسائر فادحة..

إذن، كان لابد أن تكون قواتنا المسلحة قادرة.. واثقة من نفسها ومن سلاحها ومن قادتها.. بحيث تمثل درجة عالية من الكفاءة تتيح لها أفضل الأداء فى الوقت المناسب..

ولابد بالطبع أن تعتنق القوات مبدأ حتمية القتال بغير بديل.. وأن الحل السلمى ليس واردا إطلاقا.. وأن المعركة لابد أن تحدث وفى أقرب وأنسب وقت ممكن..

تلك قناعتى.. وهى مساوية لشرف بزتى العسكرية التى عدت إليها مرة أخرى!!

• لقد كنت مقتنعا طوال مدة خدمتى العسكرية أن الرجل-لا السلاح- هو الذى ينتصر.. فالنصر يتكون أولا فى قلوب الرجال، ثم يكتسبه الرجال فى ساحة القتال.

وعلى هذا، لا يمكن للمقاتل -مهما كانت رتبته أو درجته، ومهما أعطيته من سلاح- أن ينجح أو ينتصر إلا إذا وثق فى نفسه أساسا.. ووثق فى قادته وفى سلاحه وفى عدالة قضيته.. كل هذا إلى جانب إيمانه أولا وأخيرا بالله..

وعلى هذا فإن غرس الثقة فى النفس بين الجنود بعضهم بعضا، وبينهم وبين القادة وبين الجميع والسلاح.. كان من أهم الأمور التى ركزت عليها فى كلماتى منذ أول يوم مارست فيه مسئولية القيادة.

• لقد كان فى يدنا سلاح.. وسلاح جيد إلا أن المناخ العام شكك فيه كثيرا شكك فى حجمه.. وشكك فى نوعيته..

نعم، إننى اعترف بأن هناك أسلحة ومعدات أكثر تقدما لدينا فى التخصصات..

ولكن..

من قال إن السلاح الذى فى يدنا انعدمت مقدرته لانه غير كفء أو غير متطور؟

إن من يقول ذلك يستهدف به عن قصد إيجاد ذريعة لعدم القتال.. مع أنه من الممكن وبمعدات تكميلية أن نرفع من كفاءة بعض الأسلحة..وهذا ما فعلناه فعلا، اذ حصلنا على معدات تكميلية من دول مختلفة، رفعت من كفاءة تلك الأسلحة وفاعليتها، بل إن بعض تطويرات الأسلحة والمعدات تم بابتكار مصرى وبأيدٍ مصرية..

وعلى أى حال، ومهما كانت الأسباب فإنه يجب أن نراعى عند تخصيص المهام للقوات أن تتناسب وطبيعة الأسلحة والإمكانيات المتاحة لنا.. وأن نضع الخطط التى تكفل لنا أحسن أداء لأسلحتنا ومعداتنا.. وأن نبحث عن نقاط الضعف فى العدو ونستغلها.. وأن نعرف نقاط قوته ونحاول إبطالها بخطط ذكية.. وفى نفس الوقت نستفيد من نقاط وعوامل قوتنا، ونقلل بقدر المكان من نقاط ضعفنا.

أى -وباختصار شديد- يمكن أن نضع أفضل الخطط حسب الظروف والإمكانيات المتاحة لنا.. ويمكن بتلك الخطط أن نحقق مهامنا القتالية.

لذلك ركزت- فى لقاءاتى مع رجال القوات المسلحة- على وجوب الثقة فى كفاءة السلاح الذى فى أيدينا.. ولم يكن ذلك مجاملة لأحد.. فالمهم كيف نستخدمه بشكل أكثر فاعلية وتأثيرا.. ولعل نتائج حرب أكتوبر قد أكدت صدق ما كنت أقول..

وكان علينا- بالنسبة للظروف المحيطة بنا- أن نصون هذا السلاح وأن نرعاه، وأن نستخدمه أفضل استخدام.. لا تطبيقا للمبادئ العسكرية فحسب بل لأن ما كان لدينا هو الأساس ولم يكن هناك احتمال مؤكد لاستيراد المزيد!!

ولقد أدى بنا الأمر فى بعض الأحيان إلى تحقيق معادلة صعبة هى: زيادة التدريب مع الاقتصاد فى الذخيرة والاستهلاك.. وكان هذا يمثل قتالا صامتا مضنيا.. أيضا كنت اركز فى لقاءاتى المستمرة بالقادة والضباط والجنود، على أنه لا يمكن أن يتحقق ما نريده من نتائج الا بالتدريب الشاق المتواصل ليل نهار، وبحيث نركز على العمل الليلى وفى ظروف تماثل ظروف المعارك الحقيقية فالليل -إلىجانب أهميته فى العمليات- نصف اليوم.. ولا يمكن أن نتركه هدرا.. إن تركناه نحن فلن يتركه العدو..

وللحق.. لقد استجاب الرجال وتعاونوا معى بسرعة وبمنتهى الجدية، خصوصا أنه تربطنى بمعظمهم أواصر زمالة سابقة، لمسوا من خلالها مدى جديتى وعزمى على بذل كل جهودى وأقصى طاقتى للارتقاء بالكفاءة القتالية للوحدات والتشكيلات التى خدمت بها.. بالإضافة إلى جهودى عندما كنت قائدا للجبهة بعد عدوان ٦٧..

ثم وأنا رئيس للأركان.. وكان لذلك كله أكبر الفضل فى دعم الثقة المتبادلة بينهم وبينى.. فضاعفوا من جهودهم.. وكان عملهم أقرب إلى المعجزة، لاسيما وأنهم استشعروا فى كل لحظة أن أمل أمتهم ومصير وطنهم بين أيديهم.. كما أنهم استشعروا دورهم المتعاظم خصوصا بعد قرار السيد الرئيس الصادر فى ٨يوليو ١٩٧٢ بإنهاء عمل الخبراء السوفييت وكان هذا القرار يعنى أن حتمية المعركة أصبحت غير قابلة للنقاش. وأن المسئولية بأكملها أصبحت فى عنق الفكر المصرى والساعد المصرى، كما أن ذلك كان معناه أيضاً ثقة مطلقة من القائد الأعلى فى قواته المسلحة.

• كانت تلك ملامح الصورة على الجبهة المصرية..

ولكن..

ماذا كانت عليه الصورة فى الجبهة السورية.. وماذا كانت ظلالها تخفى؟

لقد هالنى ما قيل عن عدم إمكانية تحقيق أى تعاون أو تنسيق بين سوريا ومصر..

كنت أسائل نفسى وأقول لزملائى: لماذا هذا الكلام؟ إن مصر وسوريا منذ عصور التاريخ الغابرة لهما دورهما الخالد فى الدفاع عن المنطقة.. هكذا قال التاريخ عندما تحدث عن حرب المغول.. وهكذا أكد فى استعراضه لحرب الصليبيين المريرة..

وهكذا تقول لنا كل شواهد التاريخ المعاصر.. كما يقوله المنطق والحساب العسكرى.

إن البلدين يشكلان فكى كماشة تطبق على العدو كالبندقة، ويستطيعان تحطيم ضلوعه وشل حركته..

وهما دولتان عربيتان بينهما تاريخ بعيد مشترك وتاريخ قريب ممتد.. وتربطهما اليوم مصالح واحدة.. ويجمعهما معا هدف واحد.

ومن ناحية، فإن الإنسان العربى فى سوريا مثله مثل الإنسان العربى فى مصر:

كفء.. وقادر على البذل والعطاء.. فلماذا -إذن- تلك الهواجس والشكوك؟

وكان منطقيا أن أزور سوريا الشقيقة.. وهناك التقيت برفاق السلاح.. وناقشنا الموقف كله بصراحة.. وبدأنا على الفور نجهز ونرتب لعمل مشترك مرتقب وحتمى..

•• وعندما كنت أنظر إلى ملامح الصورة على الجانب الآخر، كنت أتوقف عند عناصر القوة لدى العدو.

فهذه هى قناة السويس كمانع مائى فريد فى طوله وعرضه وعمقه..

وتلك هى تحصينات خط بارليف الممتدة بطول القناة، وبما تحويه من نقط مدعمة بالأسلحة والمعدات المتطورة، وتحيط بها كل ما تفتق عنه الفكر البشرى من الموانع..

ومن وراء ذلك كله خطوطه الدفاعية الأخرى وتجمعات مدرعاته القوية وطيرانه من فوق.

وعلى ضوء تلك الحقائق أخذنا نفكر.. القادة كل فى اختصاصه.. وأنا.. - أن طرحنا نهائيا فكرة تأجيل الحرب إلى حين الحصول على سلاح مماثل.

• وفى إطار ثقتنا جميعا فى أن السلاح بالرجل، انتهينا إلى وضع خطة شاملة حل جميع المشاكل والعقبات العسكرية، وتؤدى فى نفس الوقت إلى تحقيق الآتى:

أولا: مفاجأة العدو

واستلزم تحقيق هذا الهدف وضع خطة خداع استراتيجى وتعبوى وتكتيكى، اشترك فى تنفيذها - مع وزارة الحربية - الأجهزة المعنية فى الدولة.

ثانيا: اقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف

ومثلما تطلب اقتحام القناة دراسات عديدة ودقيقة لتحديد أنسب الوسائل وأنسب الأوقات التى تضمن نجاح تحقيق هذه المهمة فى أقصر وقت وبأقل خسائر ممكنة.. فقد تطلب تدمير خط بارليف واقتحامه دراسات مكثفة أخرى، وتدريبات واقعية عنيفة استخدمت فيها المعدات التى ابتكرها فكر المقاتل المصرى، وكانت - إلى جانب إصراره - سببا فى سقوط هذا الخط فى زمن آثار دهشة العدو وإعجاب رجال الفكر العسكرى فى أنحاء العالم.. سيما أن الاقتحام تم بالمواجهة..

ثالثا: تقليل أثر تفوق العدو فى المدرعات والطيران

بالنسبة للمدرعات.. قررنا أن نمكن الجندى من مواجهة الدبابة والتغلب عليها بشتى الوسائل، خصوصا فى الساعات السابقة على الانتهاء من إقامة المعابر التى تعبر عليها مدرعاتنا وأسلحتنا الثقيلة. ولقد نجح جنودنا فى تحقيق تلك المهمة.. وأصبح أمر صمود الدبابات فى المعارك موضع تساؤل ودراسات على ضوء ما حدث أثناء معارك أكتوبر.

وللتغلب على تفوق العدو فى الطيران، كان سبيلنا إليه تحقيق أمرين:

١- أن يكون هجومنا على طول المواجهة، مما يرغم العدو على توزيع ضرباته الجوية المضادة.

٢- تعاون كامل ودقيق بين قوات الدفاع الجوى بشبكة صواريخه، وقواتنا الجوية بطائراتها بحيث يتمكن الاثنان معا - وبتنسيق بينهما - من مواجهة طائرات العدو.

ولقد نجح هذا الأسلوب إلى أقصى حد.. وفقد العدو - منذ الساعات الأولى للحرب ميزة تفوقه الجوى..

ولم تكن تلك هى كل المشاكل التى واجهتنا ونجحنا فى التغلب عليها.. إذ كانت هناك مشاكل أخرى كثيرة.. ولكن، لم يحِن الوقت للكشف عنها أو للحديث عن أسلوبنا فى التغلب عليها.

هكذا كان الموقف مصريا وسوريا.. وفى جبهة العدو.

على أن هناك ساحة أخرى هامة لتحركاتنا، وأعنى بها الدول العربية..

أنها بغير جدال أمة واحدة، لها تاريخها المشترك، وثقافتها الواحدة، ومصيرها الواحد أيضا.. وهى قوة لها ثقلها فى المحيط العالمى.. فهل يمكن أن ندخل الحرب ونحن بعيدون عنها.. أو هى فى معزل عنا؟؟

بديهيا لا يمكن ذلك.. وهذا هو ما دفع الرئيس السادات إلى تنقية الجو العربى وإزالة ما علق به من شوائب تعمل - مع استمرار وجودها - على إيجاد الخلافات والتناقضات بين أبناء الأسرة الواحدة.

وهذا أيضا كان راسخا فى يقينى واعتقادى..

وعلى ضوئه بدأت جولاتى فى الدول العربية.. وكان حديثى مع القادة العرب يدور حول تأكيد حتمية المعركة، وحتمية النصر فيها بأى ثمن..

لم نكن نطلب من أحد أن يحارب معركتنا بدلا منا. ولم نكرِه أحدا على المساهمة بجهد محدد، بل كان الهدف إيجاد مناخ صالح للمعركة، وحشد الإمكانيات المتاحة والممكنة، سواءً كانت بشرا أو سلاحا أو مالا.. أو حتى تأييدا سياسيا ومعنويا..

وكانت جولتى مجرد خطوة على طريق التمهيد السياسى والجهود المكثفة التى بذلها القائد الأعلى الرئيس محمد أنور السادات أثناء لقاءاته بالرؤساء العرب.. ومن خلال زياراته لأكثر من دولة عربية خصوصا فى الأسابيع السابقة على الحرب مباشرة..

وبهذه التحركات، أصبح مسرح العمليات جاهزا للحرب.. وصارت القوات المسلحة المصرية والسورية فى وضع الاستعداد النهائى.

• وخلال تلك الفترة - بطبيعة الحال - لم تنقطع الاجتماعات على كافة المستويات وأهمها اجتماعات المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى مصر.. وعقد عدد منها برئاسة الرئيس السادات.. وكان بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة يركز على ثلاثة عناصر:

١- ثقته المطلقة فى القوات المسلحة فكرا وقيادة وأداء.

٢- مسئوليته التاريخية لمعركة التحرير والمصير.

٣-تحذيره من اتباع “النمطية” فى التخطيط والتنفيذ.

• لقد كانت “النمطية” هى ما أكرهه كرها شديدا.. فهى أسلوب كلاسيكى يضع قيدا على الحركة، ولا يترك مجالا للابتكار والإبداع، سواء فى التخطيط أو فى التطبيق التكتيكى والنواحى الفنية خلال التنفيذ.

• أيضا، كانت هناك - على مستوى القيادة الاتحادية - اجتماعات للمجلس الأعلى المشترك للقوات المسلحة فى مصر وسوريا اعتبارا من يوم ٢١ أغسطس ١٩٧٣، لتنسيق الشكل النهائى للمعركة.

•• ولعلنى الآن وأنا أسترجع تلك الأيام العصيبة فى ذهنى.. أجد أن ما رسمناه من خطوط رئيسية لمرحلتنا كان واضحا تماما فى فكرى..

لم يكن هناك مجال للمصادفة..

كان كل شىء يمضى وفق أحد الأساليب علميا وعالميا..

لقد كنا نسير فى ثلاثة محاور رئيسية هامة

أولها: رفع كفاءة الخطة الدفاعية عن البلاد، وما يستلزمه ذلك من تجهيزات وإمكانيات.

ثانيها: وضع الخطط لردع العدو إذا ما حاول - بغدره المعتاد- أن يعتدى علينا.

ثالثهما: وهو الأهم - وضع الخطة الشاملة للمعركة المنتظرة.

وبرغم تعارض هذه المحاور - أحيانا - إلا أننا، وبفكر مصرى خالص، استطعنا أن ننفذها بكفاءة عالية، عبرنا بها مرحلة الاستعداد الصابرة، إلى مرحلة الاقتحام الدموى التى اقتحمت بها أمتنا العربية كلها آفاق العصر الجديدة لتحتل مكانتها اللائقة كقوة مؤثرة لها حسابها فى موازين العالم كله.

وهنا أجدنى مشدودا إلى ذكر حادثة الثغرة.. تلك العملية التى تسلل فيها العدو إلى غرب القناة - فى استعراض مسرحى - حاول بها أن يحدث ارتباكا فى تفكيرنا، وأن يستخدمها - كذلك - كورقة رابحة فى الضغط السياسى.

وحقيقة أن العدو نجح فى الوصول إلى غرب القناة، وانتهز فرصة إيقاف وقف إطلاق النار ليتوسع وينتشر، وليسهب فى الطنطنة والدعاية - التى يجيد استخدامها - بأنه اخترق القوات المصرية فى عقر دارها.

لكن قيمة العمل - أى عمل، وخصوصا على المستوى العسكرى - لا تقاس بتنفيذ الفعل، ولكن بالإجابة عن سؤال محدد: ما النتيجة النهائية لهذا الفعل؟

لو طبقنا هذا على الثغرة، لوجدنا الإجابة فى صالحنا.. إذ من الذى كان فى مأزق: قواتنا المنتصرة فى سيناء.. أم قوته المحدودة المحاصرة؟

لقد أجاب الخبراء العسكريون العالميون عن هذا السؤال.. ولم يختلفوا على أن ذلك العمل لم يكن أكثر من مسرحية تليفزيونية استعراضية..

• قلت، أجدنى مشدودا إلى ذكر هذه الحادثة، مع أنى لا أضعها فى الحساب..

ولا أقول ذلك الآن فحسب، وإنما تشهد بذلك تصريحاتى العديدة قبل أن تبدأ محاولات الفصل بين القوات.. كما تشهد إجراءاتنا المعلنة والمسجلة فى وثائق العمليات.. وكذا وثائق قوات الطوارئ الدولية أيضا.

ويكفى القول إن الخطة كانت جاهزة تنتظر إشارة البدء لتصفية هذا الجيب فى الغرب! وكان العدو فى تلك الأثناء ينزف كل يوم من دمه ما لا يتحمل أو يطيق..

إذ إن الفترة من ٣٠ أكتوبر ٧٣ - أى بعد يومين فقط من وقف إطلاق النيران- حتى ١٨ يناير ١٩٧٤، عندما وقع اتفاق الفصل بين القوات، شهدت وحدها ٤٣٩ عملية عسكرية ضد العدو.. هل كان ممكنا أن يحدث هذا لو لم نكن فى مركز قوة، وهو فى مركز ضعف؟ وهل كان يمكن أن أصدر أوامرى بحرب الاستنزاف ضده لو لم أكن متأكدا من مصيره..؟

لقد كان العدو حقيقة.. فى مأزق!! ولم يكن أمامه من سبيل للخروج من هذا المأزق- إلا أن ينسحب..!!

ويمضى شريط الذكريات..

وأحمد الله وأنا أستعرض ما حدث..

لقد عاهدنا الله وصدقنا..

وحمّلتنا أمتنا الأمانة فأوفينا..

ووثق فينا القائد الأعلى، ونفذنا المهام التى كلفنا بها..

وأكرر.. الحمد لله، وأنا أكتب هذه الذكريات فى شهر أكتوبر الذى تربطنى به علاقة خاصة.. ففيه ولدت.. وفيه عينت وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة.. وفيه أيضا قامت الحرب - التى اقتحمنا بها حاجز الصلب واللهب، وحطمنا نهائيا نظرية الأمن الإسرائيلى، ورفعنا رأسنا عاليا.. وفيه رقيت إلى رتبة المشير..

ماذا أريد بعد ذلك؟

إننى أحمد الله - ولا أمل شكره والسجود له..

وأحنى رأسى لمصر بلدنا.. ولأمتنا العربية.. عرفانا وولاء..

واقف فى خشوع لأحيى أرواح الذين ساهموا فى صنع النصر من شهدائنا الأخيار.. وللجرحى على طريق الشفاء والأمل..

وأقدم عهدا جديدا للقائد الأعلى الرئيس محمد أنور السادات الذى وثق فينا وفتح - بتحمله المسئولية الكبرى - صفحة ناصعة فى تاريخنا..

كما أسجل تحية النصر إلى رفاق السلاح من قادة وضباط وضباط صف وجنود.. درع مصر وسيفها البتار..

وتقديرا وإعجابا خاصا لقائد سوريا الرئيس حافظ الأسد، وللرفاق قادة قواتها المسلحة وضباطها. والصف والجنود، الذين كانوا على مستوى المسئولية، فانتزعوا النصر وقهروا العدو المتغطرس.

كما ندين بالشكر والعرفان لكل الذين شاركوا فى معركة شرف الأمة وحريتها، من الدول العربية الشقيقة، سواء تلك التى ساهمت بالرجال أو السلاح أو المال أو حتى التأييد.

وأخيرا..

إننى لست بأفضل من زملائى الذين أعطوا أرواحهم وحياتهم وعصارة فكرهم وجهدهم فداءً للوطن.

لست إلا رجلا بين هؤلاء الرجال.. أتاحت لى الظروف أن أكون فى مكان القيادة، فوفقنى الله بهم.. ووفقنا جميعا إلى تحقيق أمل أمتنا فينا..؟

القاهرة فى ٣٠ أكتوبر ١٩٧٤ م

الموافق ١٥ شوال ١٣٩٤ ه

مشير/ أحمد إسماعيل على

نائب رئيس الوزراء

ووزير الحربية

والقائد العام للقوات المسلحة

    Dr.Randa
    Dr.Radwa