الكاتب الطبيب الأفغاني خالد حسينى ولد فى كابول 4 مارس 1965 وعاش بها حتى 1979 ثم سافر إلى فرنسا، حيث كان أبوه يعمل دبلوماسيًا.
قامت الثورة فى تلك الأثناء ليتغير الحكم الملكى فى أفغانستان، وبعد فترة وجيزة حدث الغزو الروسي، فلجأ أبوه سياسيًا لأمريكا، ليدرس خالد حسيني الطب هناك.
فى الحقيقة؛ أنه لم يكن هناك ضرر مباشر على خالد حسيني و أسرته من الغزو الروسي أو من حكم طالبان بعد الغزو، فهو ابن الدبلوماسي الذى لجأ سياسيًا لأمريكا، إلا أن حسيني كان يحمل بداخله نفسا حساسة تأثرت كثيرا بالهجرة وفقد الوطن، فتبنى قضية الوطن واللاجئين بشكل خاص وأسس مؤسسة إنسانية غير ربحية لمساعدة اللاجئين.
هو يكتب باللغة الإنجليزية، لغة المهجر، فروايته الأولى "عداء الطائرة الورقية 2003
"The kite runner
قد أحدثت صدى كبيرا فى الغرب وترجمت إلى عدة لغات، ثم روايته الثانية
A thousand splendid suns 2007
وسطورنا هنا حول روايته الثالثة "وأوبت الجبال.. أو ورددت الجبال الصدى".
And the Mountains echoed 2013
وهي تحكى حكاية صبور وابنه وبنته عبد الله "عشر سنوات" و بارى "ثلاث سنوات"، حيث ماتت أمهما وهى تلد باري، فتزوج صبور من بروانا، والتى تعنى بالفارسية "الفراشة"، لكنها كما يصفها عبد الله لا تشبه الفراشات، كانت تحب صبور منذ كانوا أطفالا فقبلت بالزواج منه بعد وفاة زوجته، وكان لها أخ اسمه "نابي" يعمل كطباخ وسائق لأسرة ثرية فى العاصمة كابول.
عانى صبور- من البطالة المفروضة على الجميع بسبب ظروف البلد وعانى أيضا من فقد ابنه الأول "عمر" من زوجته الثانية بروانا بسبب الفقر وبرد الشتاء القارص.
كانت بارى هى مهجة قلب صبور ومصدر سعادته، بنت جميلة رقيقة ذكية.
فى بداية القصة نجد صبور وبارى وعبد الله فى رحلة إلى كابول عبر الصحراء، فى تلك الرحلة وكما اعتاد صبور أن يحكي لأولاده حكاية قبل النوم كان ينسجها من خياله وكانت ملئية بالجن والعفاريت. القصة التى حكاها شديدة الرمزية وتلخص بامتياز أحداث قصة "ورددت الجبال الصدى" تختزلها اختزالًا يثير الإعجاب والدهشة، سأكتفى فى هذا المقال بمناقشة تلك الحكاية والتعليق عليها فهى كافية لفهم الرواية الطويلة التى تتعدى صفحاتها الأربعمائة صفحة والمليئة بتفاصيل كثيرة وإسهابات قد تضلل المتابع.
خالد حسيني حكاء من الطراز الأول إلا أنه أحيانا ما يقع بفخ الإسهاب ويعرج عروجا كثيرًا لتتبع تاريخ حياة الشخصيات الثانوية والتى كان من الممكن الإشارة إليها سريعا دون الخوض فى التفاصيل. إلا أن ذلك لا يقلل من قيمة الرواية ولا أهميتها.
حكاية قبل النوم التى يحكيها صبور لابنه عبد الله وابنته بارى تحكي عن بابا أيوب الذي كان مزارعًا بسيطًا له بيت ومزرعة وأولاد وعيشة دافئة وزوجة محبة فى بلد قفر فقير ومطر يخذلهم كل عام حتى كاد النهر أن يتوقف وتتوقف معه الحياة. وكان هناك كائن ضخم له قرون كبيرة مقوسة وسحنة تشبه الشيطان ضخم كريه يسكن أعالى الجبال فى منطقة بعيدة بينها وبين القرى العامرة قفار وصحاري إلا أنه ينزل إلى إحدى القرى ليلتقط أحد الصغار يأخذه بعيدًا حيث يعيش. هو يطرق باب إحدى الدور ليلا- والليل فيه الويل-فى قرية ما ومن ثم على صاحب الدار أن يخرج له أحد أطفاله قبل طلوع الشمس، وإن رفض فهذا الكائن المرعب يأخذ كل أطفال البيت ويرحل بهم عقابا لصاحب البيت لأنه تأخر، وحيث طريق اللاعودة للأطفال، واختار الشيطان بيت بابا أيوب وظل أيوب فى حيرة من أمره لا يستطيع أن يختار بين أبنائه، قضى ليلته يجوب فيها المنزل كأسد مهزوم لا يرى مخرجا من هذه الكارثة. وأقبل الصبح وشيكا فاقترع على أبنائه فكان صغيره مهجة قلبه. وخرج للغول والولد بين أحضانه واثقا بأبيه ويشعر بالأمان.
خرج أيوب وقدمه للشيطان، قدمه قربانا ليحمى باقى الأطفال، وأخذه الكائن الذى يشبه الشيطان ورحل به بين عويل أيوب وعزاء القرية. بعد هذه الحادثة لم يعد أيوب كما كان، فقد اهتمامه بالدنيا وظل هكذا على هذا الحال حتى ظن أهل القرية أنه فقد عقله بفقد ابنه.
وفى صباح يوم من الأيام والكل نيام أخذ أيوب كسرة خبز وجرة الماء و رحل يطلب استرجاع ابنه من بيت الشيطان أو الغول، قطع قفارا كثيرة وبراري واخلولقت ملابسه وذاب نعله لكنه أصر برغم ضعفه وقله حيلته أن يسترجع ولده من الغول أو يقتل الغول ليريح الناس من شره، إلى أن وصل أخيرا إلى أعلى الجبل حيث بيت الغول وطرق الباب فخرج الوحش بجسمه الضخم وقرونه المقوسة ليسأل أيوب عما يريد، فأجابه أيوب أنه جاء قاتلا أو مقتولا، فسأله الوحش: ولماذا تحاربني؟ قال: لأنك أخذت ابني. فأشفق الوحش على أيوب لضعفه ولعلمه أنه لا مقارنة بينهما فى القوة والسلطة، فأدخله المنزل وأشار إليه أن ينظر من بعيد، فرأى مفاجأة دهش لها، إنه ابنه الصغير يلعب ويمرح مع أقرانه وهو فى منتهى السعادة والصحة وقد كبر وطال شعره وتبدو عليه العافية. فأراد أيوب أن يأخذ ابنه معه إلى منزله لكن الوحش خيره بأنه لو أخذ ابنه سيأخذه لحياة الفقر والجوع واحتمال الموت فى الشتاء القارص، إن أخذه فلن يعود هنا إلى هذا الترف والرفاهية والعيش الرغد ثانية، ولو تركه فليس له الحق بالمطالبة به من جديد.
وبعد تفكير عميق اختار أيوب أن يترك ابنه للغول حيث يعيش حياة أفضل فى أمان بعيدا عن حياة الفقر والبرد الذى يردى الصغار. حينها أعطاه الوحش كأسا به سائل أسود ليشربه فى طريق العودة، عندما شربه أيوب نسي التجربة كلها ونسي ابنه وعاد إلى الحياة وسط عائلته وازدهرت الدنيا له وامتلأ النهر ثانية وكبر باقى أطفاله وتزوجوا وأصبح له أحفاد وأحفاد، وقد نسوا تماما حكاية الصغير الذى فديت الأسرة بذهابه مع الوحش.
هذه القصة الرمزية هى ملخص "ورددت الجبال الصدى" تحكى كيف باع صبور صغيرته باري أمام أخيها عبد الله لتلك الأسرة الثرية فى كابول وكيف عاش الأب بعدها فى ضنك ورحلت باري مع أمها بالتبني إلى فرنسا وأصبحت أستاذة جامعية فى الرياضيات وهى لا تذكر من ماضيها شيئا غير صور ضبابية للبيت التى عاشت فيه ول"نابي" أخي زوجة أبيها صاحب فكرة البيع والتبني حتى يحقق حلم نولا التى يعمل عندها وأحبها وحتى ينقذ صبور زوج أخته من الجوع..وكان شرط الصفقة ألا يتصل نابي بصبور وزوجته بروانا أخت نابي. وظل نابى على الوعد إلى أن مات صاحب المنزل وأوصى بكل أملاكه لنابى لأنه الوحيد الذى ظل يرعاه وقت عجزه ومرضه الذى اقعده عقودا من الزمن فما كان من نابي، إلى أن كتب رسالة مطولة يحكي فيه لباري تاريخها وماضيها وأخبار أسرتها الحقيقية، وأعطى الخطاب لطبيب يونانى كان فى كابول لمساعدة الأطفال فى الاستشفاء بعد ويلات الحرب.
استطاع دكتور كارلوس الوصول إلى باري، وبدأت تنبش بأظافرها عن ماضيها وأسرتها، عن أخيها عبد الله، تريد فك لغز الخيالات والؤى التى تجتاحها ولا تعرف لها وصفا.كانت بارى فى فرنسا وعبد الله فى كاليفورنيا بأمريكا، شتتهم الغربة ومزقهم غول المنفى. عندما وصلت إليه وجدت ابنته بارى على اسمها تشبثا بالذكرى، لكنها وجدته وقد فقد الذاكرة لم يعرفها وكأنه شرب من كأس الغول ذى السائل الأسود فى قصة أيوب الرمزية.
"ورددت الجبال الصدى".. هو اسم القصة، وفيه يرى خالد حسيني
أن الغربة عن الوطن هى الغول الذى يأخذ الصغار من أحضان آبائهم/أوطانهم، يعطيهم الدنيا وترفها ويسلب منهم جذورهم فيقتلعهم من الوطن ويقذف بهم فى عالم جميل بلا روح لا ينتمى إليهم ولا ينتمون إليه.
وأقول: ليت أيوب استرجع ابنه معه حيث حياة الفقر والبرد، لقد نسي أيوب أن دفء العائلة وقاية مما يخاف. يرحل الأبناء إلى بيت الوحش فى وحشة الغربة لينعموا بحياة الترف البارد ويفقدون دفء العائلة ويعيشون فرادى، يصرخون فى الغربة فلا يسمعهم أحد، غير أن الجبال تردد الصدى فيزيد ذلك من قهر الغربة وعزلتها، حيث لا حنين ولا ذكرى، فالأهل فى الوطن شربوا من كأس الغول ذى الشراب الأسود فطمس ذاكرتهم ونسوا صغارهم يتجرعون مرارة الغربة وحدهم ويصرخون فلا مجيب فى صحراء قفر، غير أن الجبال ترجع الصدى لصوت الغرباء.
*الكاتبة ناقدة أدبية ومترجمة